الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الجواب الثالث : عن حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - هو القول بأنه منسوخ ، وأن بعض الصحابة لم يطلع على النسخ إلا في عهد عمر ، فقد نقل البيهقي في " السنن الكبرى " في باب من جعل الثلاث واحدة عن الإمام الشافعي ما نصه : قال الشافعي : فإن كان معنى قول ابن عباس أن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة ؛ يعني أنه بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فالذي يشبه والله أعلم أن يكون ابن عباس علم أن كان شيئا فنسخ ، فإن قيل : فما دل على ما وصفت ؟ قيل : لا يشبه أن يكون ابن عباس يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ثم يخالفه بشيء لم يعلمه كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خلاف . قال الشيخ : ورواية عكرمة عن ابن عباس قد مضت في النسخ وفيها تأكيد لصحة هذا التأويل . قال الشافعي : فإن قيل : فلعل هذا شيء روي عن عمر ، فقال فيه ابن عباس بقول عمر رضي الله عنه ، قيل : قد علمنا أن ابن عباس - رضي الله عنهما - يخالف عمر - رضي الله عنه - في نكاح المتعة ، وفي بيع الدينار بالدينارين ، وفي بيع أمهات الأولاد وغيره ، فكيف يوافقه في شيء يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خلافه ؟ ا ه [ ص: 124 ] محل الحاجة من البيهقي بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " ما نصه : الجواب الثالث دعوى النسخ ، فنقل البيهقي عن الشافعي أنه قال : يشبه أن يكون ابن عباس علم شيئا نسخ ذلك ، قال البيهقي : ويقويه ما أخرجه أبو داود من طريق يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها ، وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك . والترجمة التي ذكر تحتها أبو داود الحديث المذكور هي قوله : " باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : الطلاق مرتان الآية ، بعد أن ساق حديث أبي داود المذكور آنفا ما نصه : ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن علي بن الحسين به ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا هارون بن إسحاق ، حدثنا عبدة يعني : ابن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أن رجلا قال لامرأته : لا أطلقك أبدا ، ولا آويك أبدا ، قالت : وكيف ذلك ؟ قال : أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرت له ذلك ، فأنزل الله عز وجل : الطلاق مرتان قال : فاستقبل الناس الطلاق من كان طلق ومن لم يكن طلق ، وقد رواه أبو بكر بن مردويه من طريق محمد بن سليمان ، عن يعلى بن شبيب مولى الزبير ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : فذكره بنحو ما تقدم ، ورواه الترمذي عن قتيبة ، عن يعلى بن شبيب به ، ثم رواه عن أبي كريب ، عن ابن إدريس ، عن هشام ، عن أبيه مرسلا وقال : هذا أصح . ورواه الحاكم في " مستدركه " من طريق يعقوب بن حميد بن كليب ، عن يعلى بن شبيب به ، وقال : صحيح الإسناد .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لم يكن للطلاق وقت ، يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ، ما لم تنقض العدة ، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس ، فقال : والله لأتركنك لا أيما ، ولا ذات زوج ، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ، ففعل ذلك مرارا ، فأنزل الله عز وجل : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فوقت الطلاق ثلاثا لا رجعة فيه بعد الثالثة ، حتى تنكح زوجا غيره . وهكذا روي عن قتادة مرسلا ، ذكره السدي وابن زيد [ ص: 125 ] وابن جرير كذلك واختار أن هذا تفسير هذه الآية . ا ه من ابن كثير بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه الروايات دلالة واضحة لنسخ المراجعة بعد الثلاث ، وإنكار المازري - رحمه الله - ادعاء النسخ مردود بما رده به الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " فإنه لما نقل عن المازري إنكاره للنسخ من أوجه متعددة ، قال بعده ما نصه : قلت : نقل النووي هذا الفصل في " شرح مسلم " وأقره ، وهو متعقب في مواضع : أحدها : أن الذي ادعى نسخ الحكم لم يقل : إن عمر هو الذي نسخ حتى يلزم منه ما ذكر ، وإنما قال ما تقدم : يشبه أن يكون علم شيئا من ذلك نسخ ؛ أي : اطلع على ناسخ للحكم الذي رواه مرفوعا ، ولذلك أفتى بخلافه ، وقد سلم المازري في أثناء كلامه أن إجماعهم يدل على ناسخ ، وهذا هو مراد من ادعى النسخ .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : إنكاره الخروج عن الظاهر عجيب ; فإن الذي يحاول الجمع بالتأويل يرتكب خلاف الظاهر حتما .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن تغليطه من قال : المراد ظهور النسخ عجيب أيضا ; لأن المراد بظهوره انتشاره ، وكلام ابن عباس أنه كان يفعل في زمن أبي بكر محمول على أن الذي كان يفعله من لم يبلغه النسخ ، فلا يلزم ما ذكر من إجماعهم على الخطأ . ا ه محل الحاجة من " فتح الباري " بلفظه ، ولا إشكال فيه ; لأن كثيرا من الصحابة اطلع على كثير من الأحكام لم يكن يعلمه ، وقد وقع ذلك في خلافة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فأبو بكر لم يكن عالما بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ميراث الجدة حتى أخبره المغيرة بن شعبة ، ومحمد بن مسلمة ، وعمر لم يكن عنده علم بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دية الجنين حتى أخبره المذكوران قبل ، ولم يكن عنده علم من أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجزية من مجوس هجر حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف ، ولا من الاستئذان ثلاثا ، حتى أخبره أبو موسى الأشعري ، وأبو سعيد الخدري ، وعثمان لم يكن عنده علم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوجب السكنى للمتوفى عنها زمن العدة ، حتى أخبرته فريعة بنت مالك .

                                                                                                                                                                                                                                      والعباس بن عبد المطلب ، وفاطمة الزهراء - رضي الله عنهما - لم يكن عندهما علم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنا معاشر الأنبياء لا نورث " الحديث ، حتى طلبا ميراثهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمثال هذا كثيرة جدا ، وأوضح دليل يزيل الإشكال عن القول بالنسخ المذكور وقوع مثله ، واعتراف المخالف به في نكاح المتعة ، فإن مسلما روى عن جابر [ ص: 126 ] رضي الله عنه : " أن متعة النساء كانت تفعل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، وصدرا من خلافة عمر ، قال : ثم نهانا عمر عنها فانتهينا وهذا مثل ما وقع في طلاق الثلاث طبقا " ما أشبه الليلة بالبارحة " : [ الطويل ]

                                                                                                                                                                                                                                      فإلا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها



                                                                                                                                                                                                                                      فمن الغريب أن يسلم منصف إمكان النسخ في إحداهما ، ويدعي استحالته في الأخرى ، مع أن كلا منهما روى مسلم فيها عن صحابي جليل : أن ذلك الأمر كان يفعل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ، في مسألة تتعلق بالفروج ثم غيره عمر .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أجاز نسخ نكاح المتعة ، وأحال نسخ جعل الثلاث واحدة ، يقال له : ما لبائك تجر وبائي لا تجر ؟ فإن قيل : نكاح المتعة صح النص بنسخه قلنا : قد رأيت الروايات المتقدمة بنسخ المراجعة بعد الثلاث ، وممن جزم بنسخ جعل الثلاث واحدة ، الإمام أبو داود - رحمه الله تعالى - ورأى أن جعلها واحدة إنما هو في الزمن الذي كان يرتجع فيه بعد ثلاث تطليقات وأكثر ، قال في " سننه " : " باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث " ثم ساق بسنده حديث ابن عباس قال : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن الآية [ 2 \ 228 ] وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك ، وقال : الطلاق مرتان الآية . وأخرج نحوه النسائي وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد ، قال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق يهم ، وروى مالك في " الموطأ " عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنه قال : كان الرجل إذا طلق امرأته ، ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له ، وإن طلقها ألف مرة فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا أشرفت على انقضاء عدتها راجعها ، ثم قال : لا آويك ولا أطلقك ، فأنزل الله : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ ، من كان طلق منهم أو لم يطلق .

                                                                                                                                                                                                                                      ويؤيد هذا أن عمر لم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيقاع الثلاث دفعة مع كثرتهم وعلمهم ، وورعهم ، ويؤيده : أن كثيرا جدا من الصحابة الأجلاء العلماء صح عنهم القول بذلك ، كابن عباس ، وعمر ، وابن عمر ، وخلق لا يحصى .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 127 ] والناسخ الذي نسخ المراجعة بعد الثلاث ، قال بعض العلماء : إنه قوله تعالى : الطلاق مرتان كما جاء مبينا في الروايات المتقدمة ، ولا مانع عقلا ولا عادة من أن يجهل مثل هذا الناسخ كثير من الناس إلى خلافة عمر ، مع أنه صلى الله عليه وسلم صرح بنسخها وتحريمها إلى يوم القيامة في غزوة الفتح ، وفي حجة الوداع أيضا ، كما جاء في رواية عند مسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومع أن القرآن دل على تحريم غير الزوجة والسرية بقوله : ( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) [ 23 \ 5 ، 6 ] ومعلوم أن المرأة المتمتع بها ليست بزوجة ولا سرية كما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في سورة " النساء " في الكلام على قوله تعالى : فما استمتعتم به منهن الآية [ 4 \ 24 ] والذين قالوا : بالنسخ قالوا : في معنى قول عمر : إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، أن المراد بالأناة أنهم كانوا يتأنون في الطلاق فلا يوقعون الثلاث في وقت واحد . ومعنى استعجالهم أنهم صاروا يوقعونها بلفظ واحد ، على القول بأن ذلك هو معنى الحديث ، وقد قدمنا أنه لا يتعين كونه هو معناه ، وإمضاؤه له عليهم إذن هو اللازم ، ولا ينافيه قوله فلو أمضيناه عليهم ، يعني ألزمناهم بمقتضى ما قالوا ، ونظيره : قول جابر عند مسلم في نكاح المتعة : فنهانا عنها عمر . فظاهر كل منهما أنه اجتهاد من عمر ، والنسخ ثابت فيهما معا كما رأيت ، وليست الأناة في المنسوخ ، وإنما هي في عدم الاستعجال بإيقاع الثلاث دفعة . وعلى القول الأول : إن المراد بالثلاث التي كانت تجعل واحدة ، أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق . فالظاهر في إمضائه لها عليهم أنه من حيث تغير قصدهم من التأكيد إلى التأسيس كما تقدم ، ولا إشكال في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      أما كون عمر كان يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجعل الثلاث بلفظ واحد واحدة ، فتعمد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعلها ثلاثا ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، فلا يخفى بعده ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية