الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الجواب السابع : هو ما ذكره بعضهم من أن حديث طاوس المذكور ليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك فأقره ، والدليل إنما هو فيما علم به وأقره ، لا فيما لم يعلم فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : ولا يخفى ضعف هذا الجواب ; لأن جماهير المحدثين ، والأصوليين على أن ما أسنده الصحابي إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - له حكم المرفوع ، وإن لم يصرح بأنه بلغه صلى الله عليه وسلم وأقره .

                                                                                                                                                                                                                                      الجواب الثامن : أن حديث ابن عباس المذكور في غير المدخول بها خاصة ; لأنه إن قال لها أنت طالق بانت بمجرد اللفظ ، فلو قال ثلاثا لم يصادف لفظ الثلاث محلا ; لوقوع البينونة قبلها . وحجة هذا القول أن بعض الروايات كرواية أبي داود جاء فيها التقييد بغير المدخول بها ، والمقرر في الأصول هو حمل المطلق على المقيد ، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا قال في " مراقي السعود " : [ الرجز ]

                                                                                                                                                                                                                                      وحمل مطلق على ذاك وجب إن فيهما اتحد حكم والسبب

                                                                                                                                                                                                                                      وما ذكره الأبي - رحمه الله - من أن الإطلاق والتقييد إنما هو في حديثين ، أما في حديث واحد من طريقين فمن زيادة العدل فمردود ; بأنه لا دليل عليه ، وأنه مخالف لظاهر كلام عامة العلماء ، ولا وجه للفرق بينهما . وما ذكره الشوكاني - رحمه الله - في " نيل الأوطار " من أن رواية أبي داود التي فيها التقييد بعدم الدخول فرد من أفراد الروايات العامة ، وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه ، لا يظهر ; لأن هذه المسألة من مسائل المطلق والمقيد ، لا من مسائل ذكر بعض أفراد العام ، فالروايات التي أخرجها مسلم مطلقة عن قيد عدم الدخول ، والرواية التي أخرجها أبو داود مقيدة بعدم الدخول كما ترى ، والمقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد ، ولا سيما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا . نعم لقائل أن يقول إن كلام ابن عباس في رواية أبي داود المذكور وارد على سؤال أبي الصهباء ، وأبو الصهباء لم يسأل إلا عن غير المدخول بها ، فجواب ابن عباس لا مفهوم مخالفة له ; لأنه إنما خص غير المدخول بها لمطابقة [ ص: 134 ] الجواب للسؤال .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار دليل الخطاب أعني مفهوم المخالفة ، كون الكلام واردا جوابا لسؤال ; لأن تخصيص المنطوق بالذكر لمطابقة السؤال فلا يتعين كونه لإخراج حكم المفهوم عن المنطوق . وأشار إليه في " مراقي السعود " في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      أو جهل الحكم أو النطق انجلب     للسؤل أو جرى على الذي غلب



                                                                                                                                                                                                                                      ومحل الشاهد منه قوله : أو النطق انجلب للسؤل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قدمنا أن رواية أبي داود المذكورة عن أيوب السختياني عن غير واحد ، عن طاوس وهو صريح في أن من روى عنهم أيوب مجهولون ، ومن لم يعرف من هو ، لا يصح الحكم بروايته . ولذا قال النووي في " شرح مسلم " ما نصه : وأما هذه الرواية التي لأبي داود فضعيفة ، رواها أيوب عن قوم مجهولين ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، فلا يحتج بها والله أعلم ، انتهى منه بلفظه . وقال المنذري في " مختصر سنن أبي داود " بعد أن ساق الحديث المذكور ما نصه : الرواة عن طاوس مجاهيل ، انتهى منه بلفظه ، وضعف رواية أبي داود هذه ظاهر كما ترى للجهل بمن روى عن طاوس فيها ، وقال ابن القيم في " زاد المعاد " بعد أن ساق لفظ هذه الرواية ما نصه : وهذا لفظ الحديث وهو بأصح إسناد ، انتهى محل الغرض منه بلفظه فانظره مع ما تقدم . هذا ملخص كلام العلماء في هذه المسألة مع ما فيها من النصوص الشرعية .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لنا صوابه في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ، وهو أن الحق فيها دائر بين أمرين : أحدهما : أن يكون المراد بحديث طاوس المذكور كون الثلاث المذكورة ليست بلفظ واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أنه إن كان معناه أنها بلفظ واحد فإن ذلك منسوخ ولم يشتهر العلم بنسخه بين الصحابة إلا في زمان عمر ، كما وقع نظيره في نكاح المتعة .

                                                                                                                                                                                                                                      أما الشافعي فقد نقل عنه البيهقي في " السنن الكبرى " ما نصه : فإن كان معنى قول ابن عباس إن الثلاث كانت تحسب على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة ، يعني أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالذي يشبه ، والله أعلم ، أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيء [ ص: 135 ] فنسخ ، فإن قيل : فما دل على ما وصفت ؟ قيل : لا يشبه أن يكون ابن عباس يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ثم يخالفه بشيء لم يعلمه ، كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خلاف .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : رواية عكرمة ، عن ابن عباس قد مضت في النسخ وفيه تأكيد لصحة هذا التأويل ، قال الشافعي : فإن قيل فلعل هذا شيء روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر - رضي الله عنهم - قيل : قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر - رضي الله عنه - في نكاح المتعة ، وفي بيع الدينار بالدينارين ، وفي بيع أمهات الأولاد وغيره ، فكيف يوافقه في شيء يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خلاف ما قال ؟ اهـ محل الغرض منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعناه واضح في أن الحق دائر بين الأمرين المذكورين ; لأن قوله فإن كان معنى قول ابن عباس . . . إلخ يدل على أن غير ذلك محتمل ، وعلى أن المعنى أنها ثلاث بفم واحد ، وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - على جعلها واحدة ، فالذي يشبه عنده أن يكون منسوخا ، ونحن نقول : إن الظاهر لنا دوران الحق بين الأمرين كما قال الشافعي - رحمه الله تعالى - إما أن يكون معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث ليست بلفظ واحد ، بل بألفاظ متفرقة بنسق واحد كأنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق . وهذه الصورة تدخل لغة في معنى طلاق الثلاث دخولا لا يمكن نفيه ، ولا سيما على الرواية التي أخرجها أبو داود التي جزم ابن القيم بأن إسنادها أصح إسنادا ، فإن لفظها : أن أبا الصهباء قال لابن عباس : أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وصدرا من إمارة عمر ؟ قال ابن عباس : بلى ! كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وصدرا من إمارة عمر ، فلما رأى الناس قد تتايعوا فيها قال : أجيزوهن عليهم ، فإن هذه الرواية بلفظ طلقها ثلاثا وهو أظهر في كونها متفرقة بثلاثة ألفاظ ، كما جزم به ابن القيم في رده الاستدلال بحديث عائشة الثابت في الصحيح . فقد قال في " زاد المعاد " ما نصه : وأما استدلالكم بحديث عائشة أن رجلا طلق ثلاثا فتزوجت ، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل تحل للأول ؟ قال : " لا ، حتى تذوق العسيلة " فهذا مما لا ننازعكم فيه ، نعم هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني . ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد ؟ بل الحديث حجة لنا ، فإنه لا يقال فعل ذلك ثلاثا ، وقال ثلاثا ، إلا من فعل وقال مرة بعد مرة ، وهذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم ، كما يقال قذفه ثلاثا ، وشتمه ثلاثا ، وسلم عليه ثلاثا ، انتهى منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 136 ] وقد عرفت أن لفظ رواية أبي داود موافق للفظ عائشة الثابت في الصحيح الذي جزم فيه ابن القيم ، بأنه لا يدل على أن الثلاث بفم واحد ، بل دلالته على أنها بألفاظ متفرقة متعينة في جميع لغات الأمم ، ويؤيده أن البيهقي في " السنن الكبرى " قال ما نصه : وذهب أبو يحيى الساجي إلى أن معناه إذا قال للبكر : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق . كانت واحدة فغلظ عليهم عمر رضي الله عنه فجعلها ثلاثا ، قال الشيخ : ورواية أيوب السختياني تدل على صحة هذا التأويل ، اهـ منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      ورواية أيوب المذكورة هي التي أخرجها أبو داود وهي المطابق لفظها حديث عائشة الذي جزم فيه ابن القيم ، بأنه لا يدل إلا على أن الطلقات المذكورة ليست بفم واحد ، بل واقعة مرة بعد مرة وهي واضحة جدا فيما ذكرنا ، ويؤيده أيضا أن البيهقي نقل عن ابن عباس ما يدل على أنها إن كانت بألفاظ متتابعة فهي واحدة ، وإن كانت بلفظ واحد فهي ثلاث ، وهو صريح في محل النزاع ، مبين أن الثلاث التي تكون واحدة هي المسرودة بألفاظ متعددة ; لأنها تأكيد للصيغة الأولى .

                                                                                                                                                                                                                                      ففي " السنن الكبرى " للبيهقي ما نصه : قال الشيخ : ويشبه أن يكون أراد إذا طلقها ثلاثا تترى ، روى جابر بن يزيد عن الشعبي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ، قال عقدة كانت بيده أرسلها جميعا . وإذا كانت تترى فليس بشيء . قال سفيان الثوري تترى يعني أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق . فإنها تبين بالأولى ، والثنتان ليستا بشيء ، وروي عن عكرمة عن ابن عباس ما دل على ذلك ، انتهى منه بلفظه . فهذه أدلة واضحة على أن الثلاث في حديث طاوس ليست بلفظ واحد ، بل مسرودة بألفاظ متفرقة كما جزم به الإمام النسائي - رحمه الله - وصححه النووي ، والقرطبي ، وابن سريج ، وأبو يحيى الساجي ، وذكره البيهقي عن الشعبي ، عن ابن عباس ، وعن عكرمة عن ابن عباس ، وتؤيده رواية أيوب التي صححها ابن القيم كما ذكره البيهقي وأوضحناه آنفا مع أنه لا يوجد دليل يعين كون الثلاث المذكورة في حديث طاوس المذكور بلفظ واحد ، لا من وضع اللغة ، ولا من العرف ، ولا من الشرع ، ولا من العقل ; لأن روايات حديث طاوس ليس في شيء منها التصريح بأن الثلاث المذكورة واقعة بلفظ واحد ، ومجرد لفظ الثلاث ، أو طلاق الثلاث ، أو الطلاق الثلاث ، لا يدل على أنها بلفظ واحد لصدق كل تلك العبارات على الثلاث الواقعة بألفاظ متفرقة كما [ ص: 137 ] رأيت ، ونحن لا نفرق في هذا بين البر والفاجر ، ولا بين زمن وزمن ، وإنما نفرق بين من نوى التأكيد ، ومن نوى التأسيس ، والفرق بينهما لا يمكن إنكاره ، ونقول : الذي يظهر أن ما فعله عمر إنما هو لما علم من كثرة قصد التأسيس في زمنه ، بعد أن كان في الزمن الذي قبله قصد التأكيد هو الأغلب كما قدمنا ، وتغيير معنى اللفظ لتغير قصد اللافظين به لا إشكال فيه ، فقوة هذا الوجه واتجاهه وجريانه على اللغة ، مع عدم إشكال فيه كما ترى . وبالجملة بلفظ رواية أيوب التي أخرجها أبو داود .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن القيم : إنها بأصح إسناد مطابق للفظ حديث عائشة الثابت في " الصحيحين " ، الذي فيه التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها لا تحل للأول حتى يذوق عسيلتها الثاني كما ذاقها الأول . وبه تعرف أن جعل الثلاث في حديث عائشة متفرقة في أوقات متباينة ، وجعلها في حديث طاوس بلفظ واحد تفريق لا وجه له مع اتحاد لفظ المتن في رواية أبي داود ، ومع أن القائلين برد الثلاث المجتمعة إلى واحدة لا يجدون فرقا في المعنى بين رواية أيوب وغيرها من روايات حديث طاوس .

                                                                                                                                                                                                                                      ونحن نقول للقائلين برد الثلاث إلى واحدة إما أن يكون معنى الثلاث في حديث عائشة ، وحديث طاوس أنها مجتمعة أو مفرقة ، فإن كانت مجتمعة فحديث عائشة متفق عليه فهو أولى بالتقديم ، وفيه التصريح بأن تلك الثلاث تحرمها ولا تحل إلا بعد زوج ، وإن كانت متفرقة فلا حجة لكم أصلا في حديث طاوس على محل النزاع ; لأن النزاع في خصوص الثلاث بلفظ واحد . أما جعلكم الثلاث في حديث عائشة مفرقة ، وفي حديث طاوس مجتمعة فلا وجه له ولا دليل عليه ، ولا سيما أن بعض رواياته مطابق لفظه للفظ حديث عائشة ، وأنتم لا ترون فرقا بين معاني ألفاظ رواياته من جهة كون الثلاث مجتمعة لا متفرقة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما على كون معنى حديث طاوس أن الثلاث التي كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، هي المجموعة بلفظ واحد فإنه على هذا يتعين النسخ كما جزم به أبو داود رحمه الله ، وجزم به ابن حجر في " فتح الباري " ، وهو قول الشافعي كما قدمنا عنه ، وقال به غير واحد من العلماء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رأيت النصوص الدالة على النسخ التي تفيد أن المراد بجعل الثلاث واحدة ، أنه في الزمن الذي كان لا فرق فيه بين واحدة وثلاث ، ولو متفرقة ; لجواز الرجعة ولو بعد مائة تطليقة ، متفرقة كانت أو لا . وأن المراد بمن كان يفعله في زمن أبي بكر هو من [ ص: 138 ] لم يبلغه النسخ ، وفي زمن عمر اشتهر النسخ بين الجميع . وادعاء أن مثل هذا لا يصح يرده بإيضاح وقوع مثله في نكاح المتعة ، فإنا قد قدمنا أن مسلما روى عن جابر أنها كانت تفعل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وفي بعض من زمن عمر قال : فنهانا عنها عمر . وهذه الصورة هي التي وقعت في جعل الثلاث واحدة ، والنسخ ثابت في كل واحدة منهما ، فادعاء إمكان إحداهما واستحالة الأخرى في غاية السقوط كما ترى ; لأن كل واحدة منهما ، روى فيها مسلم في " صحيحه " عن صحابي جليل ، أن مسألة تتعلق بالفروج كانت تفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وصدرا من إمارة عمر ، ثم غير حكمها عمر ، والنسخ ثابت في كل واحدة منهما . وأما غير هذين الأمرين فلا ينبغي أن يقال ; لأن نسبة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - وخلق من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أنهم تركوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءوا بما يخالفه من تلقاء أنفسهم عمدا غير لائق ، ومعلوم أنه باطل بلا شك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد حكى غير واحد من العلماء أن الصحابة أجمعوا في زمن عمر على نفوذ الطلاق الثلاث دفعة واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن مراد المدعي لهذا الإجماع هو الإجماع السكوتي ، مع أن بعض العلماء ذكر الخلاف في ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين . وقد قدمنا كلام أبي بكر بن العربي القائل : بأن نسبة ذلك إلى بعض الصحابة كذب بحت ، وأنه لم يثبت عن أحد منهم جعل الثلاث بلفظ واحد واحدة ، وما ذكره بعض أجلاء العلماء من أن عمر إنما أوقع عليهم الثلاث مجتمعة عقوبة لهم ، مع أنه يعلم أن ذلك خلاف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمسلمون في زمن أبي بكر - رضي الله عنه - فالظاهر عدم نهوضه ; لأن عمر لا يسوغ له أن يحرم فرجا أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يصح منه أن يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيح ذلك الفرج بجواز الرجعة ، ويتجرأ هو على منعه بالبينونة الكبرى ، والله تعالى يقول : وما آتاكم الرسول فخذوه الآية [ 95 \ 7 ] ، ويقول : آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 01 \ 95 ] ، ويقول : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [ 24 \ 12 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والمروي عن عمر في عقوبة من فعل ما لا يجوز من الطلاق هو التعزير الشرعي المعروف ، كالضرب . أما تحريم المباح من الفروج فليس من أنواع التعزيرات ; لأنه يفضي إلى حرمته على من أحله الله له وإباحته لمن حرمه عليه ; لأنه إن أكره على إبانتها [ ص: 139 ] وهي غير بائن في نفس الأمر لا تحل لغيره ; لأن زوجها لم يبنها عن طيب نفس ، وحكم الحاكم وفتواه لا يحل الحرام في نفس الأمر ، ويدل له حديث أم سلمة المتفق عليه فإن فيه : " فمن قضيت له فلا يأخذ من حق أخيه شيئا ، فكأنما أقطع له قطعة من نار " ويشير له قوله تعالى : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها [ 33 ] ; لأنه يفهم منه أنه لو لم يتركها اختيارا لقضائه وطره منها ما حلت لغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " ما نصه : وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء ، أعني قول جابر ، إنها كانت تفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وصدرا من خلافة عمر ، قال : ثم نهانا عمر عنها فانتهينا ، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما ، وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر ، فالمخالف بعد هذا الإجماع منا بذلة ، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق ، والله أعلم . اهـ منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية