الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      قيل في سبب نزولها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلق حفصة - رضي الله عنها - فنزلت ، وقيل غير ذلك ، وعلى كل فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو معلوم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يشهد لهذه القاعدة ما لو أخذنا بعين الاعتبار النسق الكريم بين السورتين ، حيث كان آخر ما قبلها موضوع الأولاد والزوجات من فتنة وعداء .

                                                                                                                                                                                                                                      والإشارة إلى علاج ما بين الزوجين من إنفاق وتسامح على ما أشرنا إليه سابقا هناك ، فإن صلح ما بينهم بذاك فبها ونعمت ، وإن تعذر ما بينهما وكانت الفرقة متحتمة فجاءت هذه السورة على إثرها تبين طريقة الفرقة السليمة في الطلاق وتشريعه وما يتبعه من عدد وإنفاق ونحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : ياأيها النبي ، بالنداء للنبي صلى الله عليه وسلم . وقوله : إذا طلقتم بخطاب لعموم الأمة ، قالوا : كان النداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - والخطاب للأمة تكريما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتكليفا للأمة . وقيل : خوطبت الأمة في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - كخطاب الجماعة في شخصية رئيسها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : ولهذه الآية استدل من يقول : إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكون داخلا في عموم خطاب الأمة . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      والواقع أن الخطاب الموجه للنبي - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : قد يتوجه الخطاب إليه - صلى الله عليه وسلم - ولا يكون داخلا فيه قطعا ، وإنما يراد به الأمة بلا خلاف ، من ذلك قوله تعالى في بر الوالدين : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا [ ص: 209 ] [ 17 \ 23 - 24 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فكل صيغ الخطاب هنا موجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قطعا ليس مرادا بذلك لعدم وجود والدين ، ولا أحدهما عند نزولها كما هو معلوم .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن يكون خاصا به لا يدخل معه غيره قطعا ، نحو قوله تعالى : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين [ 33 \ 50 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : هو الشامل له - صلى الله عليه وسلم - ولغيره بدليل هذه الآية ، وأول السورة التي بعدها في قوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك [ 66 \ 1 ] ، فهذا كله خطاب موجه له صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وجاء بعدها مباشرة : قد فرض الله لكم بخطاب الجميع : تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] فدل أن الآية داخلة في قوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك [ 66 \ 1 ] ، وهذا باتفاق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - هذه المسألة بأقوى دليل فيها عند قوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا ، إلى قوله : منيبين إليه [ 30 - 31 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : إذا طلقتم النساء الآية ، يشعر بأن كل المطلقات من النساء يطلقن لعدتهن وتحصى عدتهن .

                                                                                                                                                                                                                                      والإحصاء العدد مأخوذ من الحصا ، وهو الحصا الصغير كانت العرب تستعمله في العدد لأميتهم ، ثم ذكر بعض عدد لبعض المطلقات ولم يذكر جميعهن مع أنه من المطلقات من لا عدة لهن وهن غير المدخول بهن ، ومن المطلقات من لم يذكر عدتهن هنا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري : إنه لا عموم ولا تخصيص ; لأن لفظ النساء اسم جنس يطلق على الكل وعلى البعض ، وقد أطلق هنا على البعض وهو المبين حكمهن بذكر عدتهن ، وهن اللاتي يئسن والصغيرات وذوات الحمل ، وحاصل عدد النساء تتلخص في الآتي ، وهي أن الفرقة إما بحياة أو بموت ، والمفارقة إما حامل أو غير حامل ، فالحامل عدتها بوضع حملها اتفاقا ، ولا عبرة بالخلاف في ذلك لصحة النصوص ، وغير الحامل بأربعة أشهر وعشر [ ص: 210 ] مدخول بها وغير مدخول ، والمفارقة بالحياة إما مدخول بها أو غير مدخول بها ، فغير المدخول بها لا عدة عليها إجماعا ، والمدخول بها إما من ذوات الأقراء فعدتها ثلاثة قروء على خلاف في المراد بالقرء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما من ليست من ذوات الأقراء ، كاليائسة والصغيرة ، فعدتها بالأشهر ثلاثة أشهر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في الجزء الأول عند قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ 2 \ 228 ] ، وفصل أنواع المطلقات المدخول بهن وغير المدخول بهن ، وأنواع العدد بالأقراء أو الأشهر أو الحمل ، وبين الجمع بين العمومات الواردة في ذلك كله مما يغني عن الإعادة هنا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية