الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه

                                                                                                                                                                                                                                      بقي المجوس وجاءت السنة أنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب لحديث : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : منفكين حتى تأتيهم البينة ، اختلف في " منفكين " اختلافا كثيرا عند جميع المفسرين ، حتى قال الفخر الرازي عند أول هذه السورة ما نصه : قال الواحدي في كتاب البسيط : هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظما وتفسيرا ، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إنه رحمه الله لم يلخص كيفية الإشكال فيها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأنا أقول وجه الإشكال : أن تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ، التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا ، لكنه معلوم ، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      فصار التقدير : لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة ، التي هي الرسول ، ثم قال بعد ذلك وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام ، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية تناقض في الظاهر ، هذا منتهى الإشكال فيما أظن . ا هـ . حرفيا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد سقت كلامه لبيان مدى الإشكال في الآيتين ، وهو مبني على أن منفكين بمعنى تاركين : وعليه جميع المفسرين .

                                                                                                                                                                                                                                      والذي جاء عن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : أن منفكين أي : [ ص: 42 ] مرتدعين عن الكفر والضلال ، حتى تأتيهم البينة ، أي : أتتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن في منفكين ، وجه يرفع هذا الإشكال ، وهو أن تكون منفكين بمعنى متروكين لا بمعنى تاركين ، أي : لم يكونوا جميعا متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة على معنى قوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى [ 75 \ 36 ] ، وقوله : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون [ 29 \ 1 - 2 ] ، أي : لن يتركوا وقريب منه قوله تعالى : قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك [ 11 \ 53 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد حكى أبو حيان قولا عن ابن عطية قوله : ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى ، وذلك أن يكون المراد : لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم ، حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولا منذرا ، تقوم عليهم به الحجة ، ويتم على من آمن النعمة ، فكأنه قال : ما كانوا ليتركوا سدى ، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      فقول ابن عطية يتفق مع ما ذكرناه ، ويزيل الإشكال الكبير عن المفسرين ، كما أسلفنا .

                                                                                                                                                                                                                                      ولابن تيمية رحمه الله قول في ذلك نسوقه لشموله ، وهو ضمن كلامه على هذه السورة في المجموع مجلد 61 ص 594 قال :

                                                                                                                                                                                                                                      وفي معنى قوله تعالى : لم يكن هؤلاء وهؤلاء منفكين .

                                                                                                                                                                                                                                      ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين .

                                                                                                                                                                                                                                      هل المراد : لم يكونوا منفكين عن الكفر ؟

                                                                                                                                                                                                                                      أو هل لم يكونوا مكذبين بمحمد حتى بعث ، فلم يكونوا منفكين من محمد والتصديق بنبوته حتى بعث .

                                                                                                                                                                                                                                      أو المراد : أنهم لم يكونوا متروكين حتى يرسل إليهم رسول .

                                                                                                                                                                                                                                      وناقش تلك الأقوال وردها كلها ثم قال : فقوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ، أي : لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم يفعلون ما يهوونه [ ص: 43 ] لا حجر عليهم ، كما أن المنفك لا حجر عليه ، وهو لم يقل مفكوكين ، بل قال : منفكين ، وهذا أحسن ، إلى أن قال : والمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون ولا ترسل إليهم رسل .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : أن الله لا يخليهم ولا يتركهم ، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولا ، وهذا كقوله : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ، لا يؤمر ، ولا ينهى ، أي : أيظن أن هذا يكون ؟ هذا ما لا يكون البتة ، بل لا بد أن يؤمر وينهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقريب من ذلك قوله تعالى : إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين [ 43 \ 3 - 5 ] . وهذا استفهام إنكار أي : لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر ، ونعرض عن إرسال الرسل .

                                                                                                                                                                                                                                      تبين من ذلك كله أن الأصح في " منفكين " معنى " متروكين " وبه يزول الإشكال الذي أورده الفخر الرازي ، ويستقيم السياق ، ويتضح المعنى ، وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة .

                                                                                                                                                                                                                                      أجمل البينة ثم فصلها فيما بعدها رسول من الله يتلو صحفا .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا قيل : إن البينة هي نفس الرسول في شخصه ، لما كانوا يعرفونه قبل مجيئه ، كما في قوله : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد [ 61 \ 6 ] ، وقوله : يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [ 2 \ 146 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      فكأن وجوده صلى الله عليه وسلم بذاته بينة لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      ولذا جاء في الآثار الصحيحة أنهم عرفوا يوم مولده بظهور نجم نبي الختان إلى آخر أخباره صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، وكذلك المشركون كانوا يعرفونه عن طريق أهل الكتاب ، وبما كان متصفا به صلى الله عليه وسلم ، ومن جميل الصفات كما قالت له خديجة عند بدء الوحي له وفزعه منه : " كلا والله لن يخزيك الله ، والله إنك لتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر " إلى آخره .

                                                                                                                                                                                                                                      وقول عمه أبي طالب : " والله ما رأيته لعب مع الصبيان ولا علمت عليه كذبة " إلخ . وقد لقبوه بالأمين .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 44 ] وحادثة شق الصدر في رضاعه ، بل وقيل ذلك في قصة أبيه عبد الله ، لما تعرضت له المرأة تريده لنفسها ، فأبى . ولما تزوج ودخل بآمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم لقيها بعد ذلك ، فقالت له : لا حاجة لي بك ، فقال : وكيف كنت تتعرضين لي ؟ فقالت : رأيت نورا في وجهك ، فأحببت أن يكون لي ، فلما تزوجت وضعته في آمنة ولم أره فيك الآن ، فلا حاجة لي فيك .

                                                                                                                                                                                                                                      فكلها دلائل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في شخصه بينة لهم ، ثم أكرمه الله بالرسالة ، فكان رسولا يتلو صحفا مطهرة ، من الأباطيل والزيغ وما لا يليق بالقرآن .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما استدل به لذلك قوله تعالى عنه : وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [ 33 \ 49 ] فعليه يكون " رسول من الله " بدل من " البينة " مرفوع على البدلية ، أو أن البينة ما يأتيهم به الرسول مما يتلوه عليهم من الصحف المطهرة فيها كتب قيمة .

                                                                                                                                                                                                                                      فالتشريع الذي فيها والإخبار الذي أعلنه تكون البينة . وعلى كل ، فإن البينة تصدق على الجميع ، كما تصدق على المجموع ، ولا ينفك أحدهما عن الآخر ، فلا رسول إلا برسالة تتلى ، ولا رسالة تتلى إلا برسول يتلوها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد عرف لفظ البينة ، للإشارة إلى وجود علم عنها مسبق عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      فكأنه قيل : حتى تأتيهم البينة الموصوفة لهم في كتبهم ، ويشير إليها ما قدمنا في أخبار عيسى عليه السلام عنه ، وآخر سورة الفتح : ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه الآية [ 48 \ 29 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : فيها كتب .

                                                                                                                                                                                                                                      جمع كتاب ، وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : كتب : بمعنى مكتوبات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن جرير : في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة . يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء .

                                                                                                                                                                                                                                      وحكاه ابن كثير واقتصر عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القرطبي : إن الكتب بمعنى الأحكام ، مستدلا بمثل قوله تعالى : كتب عليكم الصيام [ 2 \ 183 ] وقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 45 ] وقيل : الكتب القيمة : هي القرآن ، فجعله كتبا ; لأنه يشتمل على أبواب من البيان .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الفخر الرازي : أنه يحتمل في كتب أي : الآيات المكتوبة في المصحف ، وهو قريب من قول الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشوكاني : المراد : الآيات والأحكام المكتوبة فيها ، وهذه المعاني وإن كانت صحيحة ، إلا أن ظاهر اللفظ أدل على تضمن معنى كتب منه على معنى كتابة أحكام .

                                                                                                                                                                                                                                      والذي يظهر أن مدلول " كتب " على ظاهرها ، وهو تضمن تلك الصحف المطهرة لكتب سابقة قيمة ، كما ينص عليه قوله تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ 87 \ 16 - 17 ] ، ثم قال : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى [ 87 \ 19 ] ، وكقوله في عموم الكتب الأولى : قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه [ 46 \ 30 ] ، وقوله : نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل [ 3 \ 3 - 4 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ولذا قال : والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق [ 6 \ 114 ] ، أي : بما فيه من كتبهم القيمة المتقدم إنزالها ، كما في قوله : ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم [ 24 \ 34 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون [ 27 \ 76 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه [ 6 \ 92 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، مما يدل على أن آي القرآن متضمنة كتبا قيمة مما أنزلت من قبل ، وقد جاء عمليا في آية الرحمن ، وقوله : وكتبنا عليهم فيها أي : في التوراة أن النفس بالنفس والعين بالعين ، فهذه من الكتب القيمة التي تضمنها القرآن الكريم ، كما قال : ولكم في القصاص حياة [ 2 \ 179 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ولعل هذا بين وجه المعنى فيما رواه المفسرون عن الإمام أحمد ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب : " أمرت أن أقرأ عليك سورة البينة ، فقال : أوذكرت ثم ؟ " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 46 ] وبكى رضي الله عنه ; لأن فيها زيادة طمأنينة له على إيمانه بأنه آمن بكتاب تضمن الكتب القيمة المتقدمة ، والتي يعرفها عبد الله بن سلام أن الرجم في التوراة لما غطاها الآتي بها ، كما هو معروف في القصة . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة .

                                                                                                                                                                                                                                      يلاحظ أن السورة في أولها عن الكفار عموما من أهل الكتاب والمشركين معا ، وهنا الحديث عن أهل الكتاب فقط ، وذلك مما يخصهم في هذا المقام دون المشركين ، وهو أنهم لأنهم أهل كتاب ، وعندهم علم به صلى الله عليه وسلم ، وبما سيأتي به ، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به [ 2 \ 89 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وكقوله صراحة : وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم [ 42 \ 14 ] ، فلمعرفتهم به قبل مجيئه ، واختلافهم فيه بعد مجيئه ، وخصهم هنا بالذكر في قوله : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة .

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه

                                                                                                                                                                                                                                      مما يدل على ما ذكرنا من معنى " كتب قيمة " ، أمران من كتاب الله :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول منها : اختصاص أهل الكتاب هنا بعدم عموم الحديث من الذين كفروا ، وما قدمنا من نصوص .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن القرآن لما ذكر الرسول يتلو على المشركين قال : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته [ 62 \ 2 ] ، فهذا نفس الأسلوب ، ولكن قال : " آياته " ; لأنهم لم يكن لهم علم بالكتب الأخرى ، فاقتصر على الآيات .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية