الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ) [ ص: 481 ] أي وكيف أخاف ما أشركتموه بربكم من خلقه فجعلتموه ندا له وهو لا ينفع ولا يضر ، ولا يسمع ولا يبصر ، ولا تخافون أنتم إشراككم بالله خالقكم ما لم ينزل به عليكم حجة بينة بالوحي ، ولا بنظر العقل ، تثبت لكم جعله شريكا له في الخلق والتدبير ، أو في الوساطة والشفاعة والتأثير ، فافتياتكم على خالقكم الذي بيده الضر والنفع بهذه الموبقة الفظيعة هو الذي يجب أن يخاف ويتقى ، فالاستفهام للإنكار التعجبي من تخويفهم إياه ما لا يخيف ، في حال كونهم لا يخافون أخوف ما يخاف ، وقد قيل إن هذا الاستفهام عن كيفية الخوف لا عن الخوف نفسه وبحثوا عن نكتته ، والمراد نكتة العدول عن الاستفهام بالهمزة إلى الاستفهام بكيف ، وهي أي النكتة تؤخذ من قول أهل اللغة في معنى " كيف " من كونها سؤالا عن الأحوال - لا مما تكلفه بعض المفسرين - والمعنى أن كل صفة وحال يمكن أن تدعى لصحة هذا الخوف فهي باطلة ، وأنه عليه السلام لم يجد لهذا الخوف حالا ولا وجها ، فلا هو يخاف هؤلاء الشركاء لذواتهم ، ولا لما يزعمونه من وساطتهم عند الله وشفاعتهم ، ولا لقدرة على الضر والنفع قد تدعى - ولو جعل الله - لهم ولا لثبوت جعلهم أسبابا للضرر بغير إرادة ولا اختيار منهم ، فالمراد أن جميع وجوه الخوف وأحواله الحقيقية والمجاز منتفية ، وإلا فعليهم بيان كيف يخافون .

                          وقد حذف متعلق الشرك في مقام إنكار خوفه من شركائهم ، وذكره بعده في مقام إنكار عدم خوفهم من شركهم ، وهو قوله ( ما لم ينزل به عليكم سلطانا ) لأن الحاجة إلى بيان عدم وجود السلطان - أي الدليل - على هذا الشرك إنما يحتاج إليه في مقام إسناده إليهم والتعجب من عدم خوفهم سوء عاقبته ، ما لا يحتاج إليه في مقام إنكاره هو كل حال يمكن أن تدعى لخوفه من شركائهم ، فهو يثبت بذلك الإطلاق أنه لا يمكن أن توجد حال ولا صفة للخوف مما أشركوه ، فلو عدل عنه إلى تقييد إنكاره بما ذكر لفات بهذا القيد ذلك العموم البليغ ، وذهب ذهن السامعين إلى أنه سيخاف إذا ظهر له دليل على صحة دعواهم ، وهم قوم مقلدون يعتقدون أنه لا بد من وجود أدلة تثبت صحة اعتقادهم ، وإن لم يعرفوها أو يقدروا على بيانها لخصمهم ، وأما ذكر هذا المتعلق في مقام الإنكار التعجبي من عدم خوفهم فهو ضروري ، لأنه تذكير لهم عند ذكر عقيدتهم بأنهم لا عذر لهم بالجهل ببطلانها لأنه لا دليل لهم عليها .

                          وقال بعض المفسرين إن قوله : ( ما لم ينزل به عليكم سلطانا ) قد ذكر على طريق التهكم مع الإعلام بأن الدين لا يقبل إلا بالحجة المنزلة أو مطلق الحجة القاطعة ، وأن التقليد ليس بعذر ولا سيما تقليد من ليس على هداية ولا علم ولا بصيرة ولا عقل ، وذكر الرازي في العبارة وجهين . أحدهما : أنها كناية عن امتناع وجود الحجة والسلطان على الشرك ، والمعنى ما لم ينزل به سلطانه لأنه باطل لا يمكن أن يقوم عليه برهان ، فهو كقوله تعالى : ( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به ) 23 : 117 أي لا برهان له به يعلمه ولا برهان يجهله لاستحالة [ ص: 482 ] البرهان على الباطل . ثانيهما : أنه لا يمتنع عقلا أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء والصلاة . وأقول : إن هذا الوجه لا محل له لأن جعلها قبلة غير جعلها شركاء يخاف ضرها ويرجى نفعها لذاتها أو لوساطتها عند الله تعالى ، فالقبلة لا تأثير لها في نفع ولا ضر لا بالذات ولا بالشفاعة كما يعتقدون في الشركاء ، وإنما يتوجه إليها امتثالا لأمر الله ، ومثل ذلك استلام الحجر الأسود في الطواف ، فالانتفاع محصور في طاعة الله تعالى بذلك لأنه هو الذي يزكي النفس .

                          ثم رتب صلوات الله عليه على هذا الإنكار التعجبي ما هو نتيجة له بقوله : ( فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ) المراد بالفريقين فريق الموحدين الحنفاء الذين يعبدون الله وحده ، ويخافون ويرجونه ولا يخافون ولا يرجون غيره من دونه ، وإنما يعارضون الأسباب بالأسباب ، ويدافعون الأقدار بالأقدار ، كاتقاء أسباب الأمراض قبل وقوعها ، ومدافعتها بالأدوية بعد الابتلاء بها ، وفريق المشركين الذين استكبروا تأثير بعض الأسباب ، فاتخذوا منها ما اتخذوا من الآلهة والأرباب ، بل نسبوا إلى بعضها النفع والضر بخداع المصادفات واختراع الأوهام ، فهو يقول لهم : أي هذين الفريقين أحق وأجدر بالأمن على نفسه ، من عاقبة عقيدته وعبادته ؟ ونكتة عدوله عن قول : فأينا أحق بالأمن ، إلى قوله : ( فأي الفريقين ) هي بيان أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك ، من حيث أن أحد الفريقين موحد والآخر مشرك ، لا خاصة به وبهم ، فهي متضمنة لعلة الأمن . وقيل : إن نكتته الاحتراز عن تزكية النفس ، واسم التفضيل على غير بابه ، فالمراد أينا الحقيق بالأمن ، ولكنه عبر باسم التفضيل ناطقا في استنزالهم عن منتهى الباطل - وهو ادعاؤهم أنهم هم الحقيقون بالأمن ، وأنه هو الحقيق بالخوف - إلى الوسط النظري بين الأمرين ، وهو أي الفريقين أحق ، واحترازا عن تنفيرهم من الإصغاء إلى قوله كله ثم قال : ( إن كنتم تعلمون ) أي أيهما أحق بالأمن - أو إن كنتم من أهل العلم والبصيرة في هذا الأمر - فأخبروني بذلك ، وبينوه بالدلائل وهذا إلجاء إلى الاعتراف بالحق أو السكوت على الحماقة والجهل : وأما الجواب فهو قوله الحق : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) في هذا الجواب احتمالات ( أحدها ) أنه من قوم إبراهيم : أي تذكروا لما ذكرهم وراجعوا عقولهم وفطرتهم ، فاعترفوا بالحق كما اعترفوا حين كسر أصنامهم من بعد ، إذ قال لهم : ( بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) 21 : 63 - 65 وقد روى ابن جرير هذا الاحتمال عن ابن جريج . ( الثاني ) أنه من قبل إبراهيم عليه السلام صرح به إذ سكتوا عن الجواب مفحمين مبالغة في تبكيتهم ، وقد قال الآلوسي : إن هذا روي عن علي كرم الله وجهه ولم أره في تفسير ابن جرير ولا ابن كثير ولا الدر المنثور ، ولعله نقله عن بعض تفاسير الشيعة . ( الثالث ) أنه من الله عز وجل فصل به القضاء بين إبراهيم ومن حاجه من [ ص: 483 ] قومه - رواه ابن جرير عن إسحاق وابن زيد واختاره وقال إنه أولى القولين بالصواب وقد يرجحه في اللفظ عطف الآية التالية على هذه .

                          والذي نراه : أن الأمن في هذا الكلام يقابل الخوف فيه ، وهو الأمن من عذاب الرب المعبود لمن لا يرضى إيمانه وعبادته ، فإنهم خوفوا إبراهيم أن تمسه آلهتهم وأربابهم بسوء لجحده إياهم وعداوته لهم ، فأجاب بأنه إنما يخاف الله وحده ولا يخافهم ، والظلم الذي يلبس به الإيمان بالله ويخالطه ، فينقص منه أو ينقضه ، هو الشرك في العقيدة أو العبادة ، كاتخاذ ولي من دون الله يدعى معه أو من دونه ولو لأجل التقريب إليه والشفاعة عنده . ويحب كحبه ، ويعظم من جنس تعظيمه ، لاعتقاد أن له سلطانا من وراء الأسباب ينفع به ويضر بذاته ، أو بتأثيره في مشيئة الله وقدرته ، ولا يدخل فيه الظلم الذي ليس من شأنه أن يلابس الإيمان ، كظلم المرء نفسه بإتيان بعض المضار ، أو ترك بعض المنافع عن جهل أو إهمال أو ظلم غيره ببعض الأحكام أو الأعمال ، وهذا التفسير للظلم يبين به ما ورد تفسيره به في الحديث المرفوع الذي سنذكره .

                          ( فإن قيل ) : إن الظلم في الآية نكرة في حيز النفي فهي للعموم والشمول ، ( قلنا ) : إن عموم كل شيء بحسبه فقوله تعالى : ( إن الله على كل شيء قدير ) عام في كل شيء ممكن ، ولا يدخل في عمومه ذات الله تعالى وصفاته الواجبة له فلا يقال إنه قادر على إعدامها ولا على إيجادها ولا أنه غير قادر ، وقوله في ملكة سبأ : ( وأوتيت من كل شيء ) 27 : 23 عام في كل ما يحتاج إليه الملوك ، لا كل شيء في الوجود ، فمن لم يقبل جعل مثل هذا من العام بإطلاق ، فليجعله من العام الذي أريد به الخاص ، وقد ذهل الزمخشري عن كون الإيمان هنا هو الإيمان المطلق الذي أثبته القرآن للمشركين لا الإيمان الصحيح الكامل الذي جاء به الرسل ، ولهذا الذهول جزم بأن المراد بالظلم هنا المعاصي دون الشرك لأن الشرك لا يخالط الإيمان الصحيح لأنه ضده ونقيضه ، نقول : نعم ولكنه يخالط مطلق الإيمان بالله تعالى وذلك قوله تعالى في المشركين : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) 12 : 106 .

                          ثم لا يخفى أن الأمن في الآية مقصور على الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ، فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه وعدم مراعاة موضوع الإيمان يكون المعنى : الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم ما لأنفسهم - لا في إيمانهم ولا في أعمالهم البدنية والنفسية من دينية ودنيوية ، ولا بغيرهم من المخلوقات ، من العقلاء والعجماوات - أولئك لهم الأمن من عقاب الله تعالى الديني على ارتكاب المعاصي والمنكرات ، وعقابه الدنيوي على عدم مراعاة سننه في ربط الأسباب بالمسببات ، كالفقر والأسقام والأمراض ، دون غيرهم ممن ظلموا أنفسهم أو غيرهم فإن الظالمين لا أمان لهم ، بل كل ظالم عرضة للعقاب وإن كان الله تعالى لسعة رحمته لا يعاقب كل [ ص: 484 ] ظالم على كل ظلم ، بل يعفو عن كثير من ذنوب الدنيا ، ويعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء في الآخرة ما دون الشرك به ، وهذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه ، ويترتب عليه أن الأمن المطلق من الخوف من عقاب الله الديني والدنيوي أو الشرعي والقدري جميعا لا يصح لأحد من المكلفين ، دع خوف الهيبة والإجلال ، الذي يمتاز به أهل الكمال ، وقد صح إسناد الخوف إلى الملائكة والأنبياء ( يخافون ربهم من فوقهم ) 16 : 5 ( ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) 17 : 57 ( وهم من خشيته مشفقون ) 21 : 28 وهذا التفسير يؤيد قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : ( إلا أن يشاء ربي شيئا ) على ما تقدم ، وأما الأمن من عقاب الآخرة بالفعل - وهو النجاة منه - فهو ثابت للملائكة والأنبياء عليهم السلام ، ولكثير ممن دونهم من الصالحين الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وإن لم يعلم ذلك في الدنيا كل منهم ليبقى جامعا بين الخوف والرجاء . ومن الناس من يؤمن فيموت قبل أن يظلم أحدا ، وقد ورد حديث في إدخال مثل هذا في مفهوم الآية .

                          وأما معنى الآية على الوجه الأول فهو : الذين آمنوا بالله تعالى ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم - وهو الشرك به سبحانه - أولئك لهم الأمن دون غيرهم من العقاب الديني المتعلق بأصل الدين وهو الخلود في دار العذاب ، وهم فيما دون ذلك بين الخوف والرجاء .

                          وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال : نزلت هذه الآية في إبراهيم وقومه خاصة ليس في هذه الأمة . ولعل مراده أن الله خص إبراهيم وقومه بأمن موحدهم من عذاب الآخرة مطلقا لا أمن الخلود فيه فقط ، ولعل سبب هذا إن صح أن الله تعالى لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنية الشديدة لهم في الأحوال الشخصية والأدبية وغيرها . وقد عثر الباحثون على شريعة حمورابي الملك الصالح الذي كان في عهد إبراهيم - وقد باركه وأخذ منه العشور كما في سفر التكوين - فإذا هي كالتوراة في أكثر أحكامها ، وأما فرض الله الحج على لسان إبراهيم فقد كان في قوم ولده إسماعيل لا في قومه الكلدانيين ، وأما هذه الأمة فإن من موحديها من يعذبون بالمعاصي على قدرها ; لأنهم خوطبوا بشريعة كاملة يحاسبون على إقامتها .

                          هذا - وأما حصر الأمن فيمن ذكر على الوجهين فيؤخذ من تكرار الإسناد ثلاثا وتقديم المسند على المسند إليه الثالث ، ولولا إرادة الاختصاص لكان الكلام هكذا : الأمن للذين [ ص: 485 ] آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ، ولو قيل : للذين آمنوا الأمن لكان آكد ، وآكد منه أن يقال : الذين آمنوا . . . لهم الأمن ، وآكد من هذا نص الآية ، وأما كون المراد بالظلم هنا الظلم العظيم منه فقد يدل عليه تنكيره ; وأما جعل هذا الظلم العظيم خاصا بالشرك بالله تعالى فلا يعلم من نص الآية ، ولكن السياق وموضوع الإيمان قد يدل عليه دلالة غير قطعية لغة كما علم مما تقدم ; ولذلك فهم بعض الصحابة - رضي الله عنه - منه العموم المطلق وهم من أهل اللسان ، فأخبرهم الرسول عليه الصلاة والسلام - وهو أعلم بمراد من أنزله عليه - بمعناه الدال على أنه من العام الذي أريد به الخاص ، روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث ابن مسعود أن الآية لما نزلت شق ذلك على الناس وقالوا : يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : " إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) 31 : 13 إنما هو الشرك " وروي تفسير الظلم هنا بالشرك عن أبي بكر وعمر وابن عباس وأبي بن كعب وحذيفة وسلمان الفارسي وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية