الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وقال الفخر الرازي في تقرير ما ذهب إليه من أن الحصر في الآية هو الحكم المستقر في الشريعة من أولها إلى آخرها ما نصه : ومن السؤالات الضعيفة أن كثيرا من الفقهاء [ ص: 146 ] خصصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال : " ما استخبثه العرب فهو حرام " وقد علم أن الذي يستخبثه العرب فهو غير مضبوط ، فسيد العرب بل سيد العالمين محمد صلوات الله عليه لما رآهم يأكلون الضب قال : يعافه طبعي . ثم إن هذا الاستقذار ما صار سببا لتحريم الضب ، وأما سائر العرب فمنهم من لا يستقذر شيئا ، وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلمنا أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بهذا الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم ؟ اهـ .

                          أقول : إن الحديث الذي ذكره الرازي في تحريم ما استخبثته العرب لا أصل له فلم يبق لأصحاب هذا القول مستند إلا مفهوم الأمر بأكل الطيبات وإحلالها ، وقوله تعالى في اليهود الذين يؤمنون بالنبي عليه الصلاة والسلام . ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) ( 7 : 157 ) فأما الأول فهو مفهوم مخالفة منع الاحتجاج به الحنفية وبعض الشافعية مطلقا وبمفهوم الصفة منه كالطيبات هنا آخرون من المالكية والشافعية وبعض أئمة اللغة كالأخفش وابن فارس وابن جني ، واشترط له المحتجون به شروطا لا تتحقق هنا ، أقواها ألا يعارضه ما هو أقوى منه من منطوق أو مفهوم وقد عارضته هنا الآيات القطعية ، على أن كل ما أباحه الشرع يجب أن يكون من الطيبات . وأما الثاني فمعناه : يحل لهم الطيبات التي كانت حرمت عليهم عقوبة لهم على ظلمهم ، ويحرم عليهم الخبائث فقط وهي ما كانوا يستحلونه من أكل أموال الناس بالباطل بالربا وغيره وما كان خبيثا من الطعام كلحم الخنزير كما تقدم لنا ، وهذا هو المروي عن ابن عباس في تفسيرها . والخبيث يطلق على المحرم وعلى القبيح والرديء ; وبهذا فسر قوله تعالى : ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ) ( 2 : 267 ) وكل محرم خبيث وما كل خبيث بمحرم ; فقد صح في الحديث تسمية الثوم والبصل بالشجرتين الخبيثتين وأكلهما مباح بالنص والإجماع . وفي الأحاديث إطلاق كلمة خبيث على مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام ، وهذا الأخير مكروه لا محرم .

                          فبهذه الشواهد من الكتاب والسنة يهدم هذا الأصل الاجتهادي من أصول التحريم الذي عرفوه بأنه حكم الله تعالى المقتضي للترك اقتضاء جازما ، وإن لم يطبقوا هذا التعريف على كل ما ادعوا حرمته باجتهادهم ، وإنما الاجتهاد بذل الجهد لتحصيل الظن بحكم شرعي عملي . ومن الثابت من أخلاق البشر وطباعهم أن للبيئة التي يعيشون فيها تأثيرا في اجتهادهم وفهمهم فالذين حرموا على عباد الله ما لا يحصى من المنافع التي خلقها الله لهم وامتن بها عليهم في مثل قوله : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) ( 2 : 29 ) كانوا عائشين في حضارة [ ص: 147 ] يتمتع أهلها بخيرات ملك الأكاسرة والقياصرة في مدائن كجنات النعيم كبغداد ومصر وغيرهما من الأمصار فكان من تأثيرها في أنفسهم أن جعلوا ما يستقذره مترفو العرب في حضارتهم محرما على البدو البائسين وعلى خلق الله أجمعين ، ولولا تأثير هذه الحضارة لراعوا في اجتهادهم الأصول القطعية في يسر الشريعة وعمومها ، ولا يعقل أن يكلف الله جميع الأمم التزام ذوق منعمي العرب في طعامهم - ولتذكروا أن هذا التشدد في التحريم يضيق على أكثر الناس وهم الفقراء والمعوزون أمر معيشتهم ، والتوسع في أصل الإباحة ينفعهم ولا يضر غيرهم من المترفين والموسرين كما راعى ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما روى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير قال : سألت جابرا عن الضب فقال : لا تطعموه وقذره وقال : قال عمر بن الخطاب : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرمه ، إن الله ينفع به غير واحد ، وإنما طعام عامة الرعاء منه ولو كان عندي طعمته اهـ . ثم لتذكروا مع هذا وذاك ما عظم الله من أمر التحريم ، وقد كنا نأخذ كلام هؤلاء المشددين بالتسليم ونجده غنيا عن البحث فيه لموافقته لأذواقنا وعيشتنا . فقد نشأنا في بيت لا يكاد يأكل أهله من لحوم الأنعام إلا الضأن ; ويعافون لحم البقر وما تعودنا أكله إلا في السفر ، وإن للمجتهدين ثوابا حتى فيما أخطئوا فيه لحسن نيتهم في اجتهادهم ، ولكن لا عذر للمقلدين في اتباع كل طائفة منهم لمذهب في كل ما يقوله علماؤه وترك النظر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وترك العمل بهما إذا دعوا إليهما والإعراض عمن يدعوهم إليه بل الطعن فيه وما كان أحد من الأئمة المجتهدين يجيز هذا التقليد . ويرضى أن يتخذ شريكا لله تعالى في التحليل والتحريم وسائر أنواع التشريع .

                          وليس فيما أطلنا به في تفسير الآية استطراد ولا خروج عن الموضوع ، ولو تتبعنا كل ما قال الفقهاء بتحريمه منافيا لها وبينا بطلان أدلتهم عليه لم نكن خارجين عن حد تفسيرها ولكن ما تركنا ذكره أضعف مما ذكرناه دليلا كالنهي عن أكل الهر والخيل وكلاهما لا يصح رواية ويعارضه ما هو أصح منه .

                          وملخص ما تقدم أن آية الأنعام - التي فسرناها بما تقدم - هي أصل الشريعة المحكم فيما يحل ويحرم من الطعام كما فهمها حبر الأمة وإمام المفسرين الأعظم عبد الله بن عباس وغيره من علماء الصحابة والفخر الرازي من مفسري أهل النظر ومن وافقه كالنيسابوري وأن الله تعالى لو علم عند إنزالها - وهو علام الغيوب - أنه سينسخها أو يخصص عمومها لما أنزلها بصيغة الحصر ولما أكدها المرة بعد المرة قبل الهجرة وبعدها وأيدها بما تقدم من مؤكداتها ومؤيداتها وهي أنواع :

                          ( الأول ) الآية التي بعدها ثم آية النحل ثم آية البقرة . ثم أول المائدة على الوجه الذي بيناه فهذه أربع آيات في موضوع الطعام خاصة . [ ص: 148 ] ( الثاني ) إحلال طعام أهل الكتاب ، والنصارى منهم لا يكادون يحرمون شيئا من نوع الحيوان مما يدب على الأرض أو يطير في الهواء .

                          ( الثالث ) الآيات الدالة على إباحة منافع العالم عامة كقوله تعالى : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) ( 2 : 29 ) وقوله : ( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ) ( 22 : 65 ) وفي معناه بعد ذكر تسخير البحر : ( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ) ( 45 : 13 ) وصرح في بعض الآيات بذكر الأكل في تسخير البحر فقال : ( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها ) ( 16 : 14 ) إلخ . ( الرابع ) ما يؤيد هذا الأصل فيما يحل ويحرم من الطعام ، وهو ما ورد من التشديد في حظر تحريم أي شيء على عباد الله غير ما حرمه عليهم ربهم كالآيات السابقة لآية الأنعام كما بيناه في تفسيرها ، وقوله تعالى بعد آية النحل في الحصر : ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ) ( 16 : 116 ) وقال بعدها بآية : ( وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ( 118 ) فآيات النحل بمعنى آيات الأنعام في جملتها . وقوله تعالى : ( ما قصصنا عليك من قبل ) نص في نزول النحل بعد الأنعام كما قال أهل الأثر . ومن هذا النوع قوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ( 9 : 31 ) قال صلى الله عليه وسلم في تفسيرها : " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه " رواه الترمذي وحسنه الطبراني والبيهقي في سننه وأكثر رواة التفسير المأثور من حديث عدي بن حاتم الطائي الشهير بالجود ، وكان عدي قد تنصر في الجاهلية وفر بعد بلوغ الدعوة إلى الشام ، فأسرت أخته ومن عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها ، فلحقت به ورغبته في الإسلام فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب من فضة وهو صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية . قال فقلت : إنهم لم يعبدوهم فقال : " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم " ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم . ورووا مثله من حديث حذيفة ، ومعنى رواية لم يكونوا يعبدونهم : أنهم لم يتخذوهم آلهة ، فالإله هو المعبود ولكنهم اتخذوهم أربابا بمعنى شارعين ، وهذه عبادة ربوبية لا ألوهية ، فالشرع للرب وحده والرسل مبلغون عنه وهم معصومون في تبليغهم وفي بيانهم لما بلغوه ، والعلماء ورثتهم في التبليغ ولكنهم غير معصومين ، فلا يجوز لمؤمن بالله أن يتبع عالما في قوله هذا حرام إلا إذا جاءه ببينة عن الله تعالى ورسوله فعقلها واعتقد صحتها . قال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل فقال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى . [ ص: 149 ] قال الفخر الرازي بعد ما نقل حديث عدي وهذا الأثر في تفسير الآية قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه : قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل ، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب . يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها ! ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين من أهل الدنيا اهـ . وأقول : إن شيخه رحمه الله كان مجتهدا بحق ، وأما هو فعلى توسعه في فن الاستدلال يؤيد المذهب تارة بالتأويل والجدل ويستقل بالاستدلال أخرى . وقد جاء بعد شيخه كثير من المجتهدين مثله ولكن كثرة المقلدين وتأييد الحكام لهم قد نصر باطلهم على حق أولئك الأئمة ، ولولا الحكام الجاهلون والأوقاف التي وقفت على فقه المذاهب لم يتفرق المسلمون في دينهم شيعا ، حتى صدق عليهم ما ورد في أهل الكتاب قبلهم إلا من هداه الله ووفقه لإيثار كتاب الله وسنة رسوله على كل شيء .

                          ثم إن ذلك الأصل الذي قرر في آية الأنعام وأيدته جنود الله تعالى من تلك الأنواع من الآيات تؤيده السنة الصحيحة وحكمة التشريع الرجيحة - أما السنة فكحديث أبي الدرداء المرفوع عند البزار وقال : سنده صالح والحاكم وصححه " ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا " وتلا ( وما كان ربك نسيا ) ( 19 : 64 ) وحديث أبي ثعلبة الخشني عند الدارقطني مرفوعا " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها " حسنه الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه والنووي في الأربعين . وفي معناهما أحاديث أخرى .

                          وأما حكمة التشريع في دين عام يطالب جميع البشر في جميع الأقطار بالاهتداء به فهي مأخوذة مما ورد من يسر شريعته وعدم إعناتها للبشر ، ومبنية على بلوغ هذا النوع في جملته درجة الرشد الذي يستقل به في شئون حياته المعاشية والمعادية فلا تقيده فيها إلا بما يزيد في الصلاح والتقوى وتزكية الأنفس وليس في تحريم ما حرموه من غير الأنواع الأربعة التي في الآية شيء من ذلك .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية