الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          الأصول العلمية والعملية في السورة من دينية واجتماعية

                          أجمع ما ورد في السورة من الأصول الكلية الجامعة للعقائد والآداب والفضائل والنهي عن الرذائل الوصايا العشر في الآيات الثلاث 159 - 153 وتفصيل القول في تفسيرها والأمر بترك ظاهر الإثم وباطنه في الآية 120 وهاؤم انظروا أهم الأصول والقواعد المتفرقة في الآيات قبلها وبعدها .

                          ( الأصل الأول ) أن دين الله توحيد واتفاق ، فتفريقه بالمذاهب المختلفة والأهواء المتفرقة ، وجعل أهله شيعا متعادية ، مفارقة له ، والخروج عن هدي الرسول الذي جاء به ، يوجب براءته صلى الله عليه وسلم من فاعلي ذلك - راجع تفسير ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) ( 159 ) وهذا الأصل هو قاعدة سياسة الدين وحياة أهله الاجتماعية ، والتشديد فيه يضاهي التشديد في أصل التوحيد الذي هو القاعدة الاعتقادية . [ ص: 252 ] ( الأصل الثاني ) أن سعادة الناس وشقاوتهم منوطتان بأعمالهم النفسية والبدنية ، وأن جزاءهم على أعمالهم يكون بحسب تأثيرها في أنفسهم ، وهذا المعنى يستفاد من آيات كثيرة بالنص أو الفحوى . ومن أصرح آيات هذه السورة فيه قوله تعالى في آية ( سيجزيهم وصفهم ) ( 139 ) فراجع تفسيره واستعن على مراجعة سائر الآيات بالأرقام التي بجانب كلمة " الجزاء " من فهرس الجزأين 7 و 8 ومن أهمها ما في ص 272 ج 7 ط الهيئة وتفسير ( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) ( 164 ) في أواخر السورة من هذا الجزء .

                          ( الأصل الثالث ) الجزاء على الأعمال في الآخرة يكون على السيئة بمثلها وعلى الحسنة بعشر أمثالها فضلا من الله ونعمة جل ثناؤه ، وعظمت نعماؤه . ويا خسارة من غلبت سيئاته حسناته المضاعفة . أولئك هم الخاسرون ( راجع الآية 160 ) .

                          ( تنبيه ) مسألة الجزاء على الأعمال بجعل الحسنات مضاعفة دون السيئات التي جزاؤها بمثلها إن لم ينل صاحبها شيء من عفو الله ومغفرته ، ومسألة سعة الرحمة الإلهية لكل شيء وسبقها للغضب - كل ذلك قد عد مشكلا مع تفسير الجمهور لخلود الكفار في النار خلودا لا نهاية له . وقد بسطنا ما وقع من الخلاف في هذه المسألة في تفسير قوله تعالى : ( قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ) ( 128 ) فراجع ( في ص 58 وما بعدها ج 8 ط الهيئة ) وفيه كلام نفيس في رحمة الله تعالى وحكمته .

                          ( الأصل الرابع ) جزاء سيئات كل عليه وحده وحسناته له وحده فلا يحمل أحد وزر غيره ولا ينجو بحسنات غيره ( راجع الآية 164 وتفسير هذا الأصل فيها والاستدراك عليه ويأتي بعد تفسير الآية رقم 165 ) .

                          ( الأصل الخامس ) الجزاء يكون على الأعمال البدنية والنفسية جميعا ؛ ولذلك أمر تعالى بترك ظاهر الإثم وباطنه . بل المراد من العمل الظاهر إصلاح الباطن .

                          ( الأصل السادس ) الناس عاملون بالإرادة والاختيار ، ولكنهم خاضعون في أعمالهم للسنن والأقدار ، فلا إجبار ولا اضطرار . ولا تعارض بين عملهم باختيارهم وبين مشيئة الخالق سبحانه ، ولا يعدون به مشاركين له تعالى في إرادته وقدرته ، فإن صفاته تعالى ذاتية واجبة الوجود كاملة ، وإرادة العباد وقدرتهم من عطاء الله ، وخلقه حسب مشيئته ، فهو الذي شاء أن يخلق نوعا من الخلق ويجعله ذا قدرة محدودة ومشيئة تتوقف عليها أعماله الاختيارية . ومعنى خلقه تعالى الأشياء بقدره وتقديره بكل شيء أنه خلقها بنظام جعل فيها المسببات على قدر الأسباب عن علم وحكمة ، ولم يخلق شيئا جزافا ولا أنفا كما يزعم منكرو القدر . والأنف - بضمتين - الأمر الذي يكون بادئ الرأي عن غير تقدير ولا نظام يجري عليه ، فليس في القدر شيء من معنى الإكراه والإجبار على العمل ألبتة . راجع في فهرسي الجزأين [ ص: 253 ] 7 و 8 وكذا غيرهما كلمات : مشيئة ، والجبر والقدر ، وسنة الله أو سنن الله تعالى في الكائنات مثال ذلك ص 252 و 336 و 414 و 557 من الجزء السابع ط الهيئة وص3 و 8 من هذا الجزء وتفسير ( فمن يرد الله أن يهديه ) الآية 125 ص 36 منه وآية ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ) ( 129 ) منه وتفسير 148 و 149 ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ) إلى آخر الآيتين .

                          ويدخل في هذا الباب سنة الله تعالى وقدره في فقد الاستعداد للإيمان الذي يعبر عنه في القرآن بمشيئة الإضلال وبالأكنة والختم والرين على القلوب ، ويوصف أصحابه بالصم البكم العمي - ليس معنى هذه السنة أن الله بقدرته طبع هؤلاء على الكفر ابتداء وخلقا أنفا ، حتى صار تكليفهم الإيمان عبثا ، ومن تكليف ما لا يطاق . بل هي داخلة في نظام المقدار ، وارتباط الأسباب بالمسببات ، إذ هي عبارة عن تأثير أعمال الإنسان في نفسه وتأثير التربية والمعاشرة أيضا ، فهي إذا أثر كسبه كما يعلم من الشواهد التي أشرنا إليها آنفا ، وكثيرا ما نذكر به في التفسير لإيضاح هذه المسائل التي ضل فيها كثير من المتكلمين والصوفية فأوقعوا الناس في الحيرة ، بل أفسدوا أمر هذه الأمة في كسبها وملكها وأخلاقها - راجع تفسير آية 7 - 9 ص 258 وما بعدها ج 7 ط الهيئة وآية 20 ص 286 وآية 25 ص 289 و 35 ص 318 و 46 ص 349 كلها من الجزء السابع وتفسير 110 - 112 من آخر السابع ط الهيئة وأول الثامن و 122 و 123 ص 25 و 124 - 126 ص 32 و 144 من هذا الجزء .

                          وكذلك سنن الله في افتتان بعض الناس - وكذا الجن - ببعض في الآية 53 ( ص 370 ) وفي لبسهم شيعا وإذاقة بعضهم بأس بعض في الآية 65 ص 408 وتولية بعض الظالمين بعضا في الآية 129 وفي تزين أعمالهم لهم في الآية 108 ( ص 553 ج 7 ط الهيئة ) وآية 122 ( ص25 ) وآية 137 وفي مكر أكابر المجرمين في المدائن في الآية 123 ( ص 28 منه ) كل هذه السنن العامة في الاجتماع البشري في معنى ما بيناه في الأصل الذي قبل هذا علمها الله رسوله والمؤمنين ليكونوا على بصيرة من أمر البشر ، وتأثير دعوة الإسلام في المستعدين دون غيرهم ، حتى لا يحزنوا ولا يطمعوا في غير مطمع ، ولا شيء منها يقتضي سلب الاختبار ، ولا وقوعها بالإكراه والإجبار .

                          ( الأصل السابع ) ما ورد من بيان السنن الاجتماعية في حياة الأمم وموتها ، وسعادتها وشقاوتها ، وإهلاكها بمعاندة الرسل وبالظلم والفساد في الأرض وتربيتها بالشدائد وكذا بالنعم والنقم ( راجع ص 255 وص 279 وما بعدها و 307 و 345 و 414 من الجزء السابع ط الهيئة ) . وما يجيء في الجزء الثامن بهذا الصدد .

                          ( الأصل الثامن ) أن مسائل عقائد الدين علم صحيح يشترط فيه اليقين ، ومن ثم كان [ ص: 254 ] 254 بصائر للناس ، وأيد بالآيات البينات كما تقدم في بحث العقائد الإلهية وبحث الرسالة . واليقين جزم تطمئن به النفس لا يزلزله شك ولا ريب .

                          ( الأصل التاسع ) التقليد في الدين باطل ، لأنه ينافي أصل العلم اليقين . فإن المقلد في الدين هو من يعتمد في دينه على قول من يثق به من أهله وقومه أو معلمه وليس على علم ولا بصيرة فيه ، فهو لا يدخل في أتباع الرسول الذين قال فيهم الله عز وجل : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) ( 12 - 108 ) فكل ما ورد في هذه السورة وغيرها من القرآن أو السنة من كون هذا الدين علما مؤيدا بالحجة وبصائر للناس وآيات بينات فهو مبطل للتقليد ، وكل ما ورد فيها من النعي على الكفار وعيبهم بالجهل وعدم العلم ، ووصفهم بالصم البكم العمي ، وبكونهم لا يعقلون - فهو مبطل للتقليد . وكل ما فيه من مطالبتهم بالدليل على ما يدعون وبالعلم والعقل فكذلك . وقد نبهنا في تفسير بعض آيات السورة الواردة في هذه المسائل إلى بطلان التقليد كقوله تعالى في آخر آية 144 : ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ) والعبرة فيه أنه جاء في خاتمة تقريعهم على ما حرموا من الحرث والأنعام تقليدا لآبائهم ، فبذلك كانت كل تلك الآيات هادمة للتقليد ، ويؤيدها آية محرمات الطعام بعدها . وقد نقلنا في تفسيرها كلاما حسنا في جهل المقلدين وإيثارهم كلام شيوخهم على كلام الله ورسوله نقله الرازي عن شيخه الذي وصفه بخاتمة المحققين والمجتهدين ، وراجع تفسير خسران النفس في ص274 ج 7 ط الهيئة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية