الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) وهو تصريح بما فهم من قوله : ( والله يهدي من يشاء ) ( 2 : 213 ) إلخ ، أي : على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمة وسطا . قالوا : إن الوسط هو العدل والخيار ، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط ، والنقص عنه تفريط وتقصير ، وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة فهو شر ومذموم ، فالخيار : هو الوسط بين طرفي الأمر ; أي : المتوسط بينهما .

                          قال الأستاذ الإمام بعد إيراد هذا : ولكن يقال لم اختير لفظ الوسط على لفظ الخيار مع أن هذا هو المقصود ، والأول إنما يدل عليه بالالتزام ؟ والجواب من وجهين :

                          [ ص: 5 ] ( أحدهما ) : أن وجه الاختيار هو التمهيد للتعليل الآتي ; فإن الشاهد على الشيء لا بد أن يكون عارفا به ، ومن كان متوسطا بين شيئين فإنه يرى أحدهما من جانب وثانيهما من الجانب الآخر ، وأما من كان في أحد الطرفين فلا يعرف حقيقة حال الطرف الآخر ، ولا حال الوسط أيضا .

                          ( وثانيهما ) : أن في لفظ الوسط إشعارا بالسببية ، فكأنه دليل على نفسه ; أي : أن المسلمين خيار وعدول ; لأنهم وسط ، ليسوا من أرباب الغلو في الدين المفرطين ، ولا من أرباب التعطيل المفرطين ، فهم كذلك في العقائد والأخلاق والأعمال .

                          ذلك أن الناس كانوا قبل ظهور الإسلام على قسمين : قسم تقضي عليه تقاليده بالمادية المحضة ، فلا هم له إلا الحظوظ الجسدية كاليهود والمشركين ، وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمانية ، كالنصارى والصابئين وطوائف من وثنيي الهند أصحاب الرياضات .

                          وأما الأمة الإسلامية فقد جمع الله لها في دينها بين الحقين : حق الروح ، وحق الجسد ، فهي روحانية جسمانية ، وإن شئت قلت إنه أعطاها جميع حقوق الإنسانية ، فإن الإنسان جسم وروح ، حيوان وملك ، فكأنه قال : جعلناكم أمة وسطا تعرفون الحقين ، وتبلغون الكمالين ( لتكونوا شهداء ) بالحق ( على الناس ) الجسمانيين بما فرطوا في جنب الدين ، والروحانيين إذ أفرطوا وكانوا من الغالين ، تشهدون على المفرطين بالتعطيل القائلين : ( ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ) ( 45 : 24 ) بأنهم أخلدوا إلى البهيمية ، وقضوا على استعدادهم بالحرمان من المزايا الروحانية ، وتشهدون على المفرطين بالغلو في الدين القائلين : إن هذا الوجود حبس للأرواح وعقوبة لها .

                          فعلينا أن نتخلص منه بالتخلي عن جميع اللذات الجسمانية وتعذيب الجسد ، وهضم حقوق النفس وحرمانها من جميع ما أعده الله لها في هذه الحياة ، تشهدون عليهم بأنهم خرجوا عن جادة الاعتدال ، وجنوا على أرواحهم بجنايتهم على أجسادهم وقواها الحيوية ، تشهدون على هؤلاء وهؤلاء ، وتسبقون الأمم كلها باعتدالكم وتوسطكم في الأمور كلها ، ذلك بأن ما هديتم إليه هو الكمال الإنساني الذي ليس بعده كمال ; لأن صاحبه يعطي كل ذي حق حقه ، يؤدي حقوق ربه ، وحقوق نفسه ، وحقوق جسمه ، وحقوق ذوي القربى ، وحقوق سائر الناس ( ويكون الرسول عليكم شهيدا ) أي : إن الرسول - عليه الصلاة والسلام - هو المثال الأكمل لمرتبة الوسط ، وإنما تكون هذه الأمة وسطا باتباعها له في سيرته وشريعته ، وهو القاضي بين الناس فيمن اتبع سنته ومن ابتدع لنفسه تقاليد أخرى أو حذا حذو المبتدعين ، فكما تشهد هذه الأمة على الناس بسيرتها وارتقائها الجسدي والروحي بأنهم قد ضلوا عن القصد ، يشهد لها الرسول - بما وافقت فيه سنته وما كان لها من الأسوة الحسنة فيه - بأنها استقامت على صراط الهداية المستقيم ، فكأنه [ ص: 6 ] قال : إنما يتحقق لكم وصف الوسط إذا حافظتم على العمل بهدي الرسول واستقمتم على سنته ، وأما إذا انحرفتم عن هذه الجادة ، فالرسول بنفسه ودينه وسيرته حجة عليكم بأنكم لستم من أمته التي وصفها الله في كتابه بهذه الآية ، وبقوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) ( 3 : 110 ) إلخ ; بل تخرجون بالابتداع من الوسط وتكونون في أحد الطرفين ، كما قال الشاعر - وقد استشهد به الزمخشري في تفسير الآية :


                          كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفا



                          ( الأستاذ الإمام ) : يقال إن هذا خبر عظيم بمنحة جليلة ، ومنة بنعمة كبيرة ، فلم جيء به معترضا في أطواء الكلام عن القبلة ، ولم يجئ ابتداء أو في سياق تعداد الآلاء والنعم ؟ والجواب : أن الله تعالى علم أن الفتنة بمسألة القبلة ستكون عظيمة ، وأن سيقول أهل الكتاب : إن محمدا ليس على بينة من ربه لأنه غير قبلته ، ولو كان الله هو الذي أمره بالصلاة إلى بيت المقدس لما نهاه عنه ثانيا وصرفه عن قبلة الأنبياء . ويقول المنافقون : إنه صلى أولا إلى بيت المقدس استمالة لأهل الكتاب ودهانا لهم ، ثم غلب عليه حب وطنه وتعظيمه ، فعاد إلى استقبال الكعبة ، فهو مضطرب في دينه . وأمثال هذه الشبهات - على كونها تدل على عدم الاعتدال في أفكار قائليها - تؤثر في نفوس المسلمين ، فالمطمئن الراسخ في الإيمان يحزن لشكوك الناس وتشكيكهم في الدين ، والضعيف غير المتمكن ربما يضطرب ويتزلزل ; لذلك بدأ الله بإخبار المسلمين بما سيكون بعد تحويل القبلة من إثارة رياح الشبه والتشكيك ، ولقنهم الحجة ، وبين لهم ما فيها من الحكمة ، وبين لهم منزلتهم من سائر الأمم وهي أنهم أمة وسط لا تغلو في شيء ، ولا تقف عند الظواهر ، وأنهم شهداء على الناس وحجة عليهم ; باعتدالهم في الأمور كلها ، وفهمهم لحقائق الدين وأسراره ، ومن أهمها أن القبلة التي يتوجه إليها لا شأن لها في ذاتها ، وإنما العبرة فيها باجتماع أهل الملة على جهة واحدة وصفة واحدة عند التوجه إلى الله تعالى .

                          ولما كانت نسبة الجهات إليه سبحانه وتعالى واحدة - إذ لا تحصره ولا تحده جهة - كان التزام الجهة المعينة منها لغير مجرد الاتباع لأمر الرسول عن الله تعالى ميلا مع الهوى ، أو تخصيصا بغير مخصص ، وكلاهما مما لا يرضاه لنفسه العاقل المعتدل في أمره ، نعم إن له أن يسأل عن حكمة التحول والانتقال ، لا سيما بعدما ثبت بالواقع أن الرسول الذي أمر به لم يأمر إلا بما ظهرت فائدته ومنفعته للممتثلين له من إصلاح النفوس وحملها على الخير وتوجيهها إلى البر ، مما دل عليه أنه مؤيد من الله تعالى .

                          وجملة القول أن إعلام الله رسوله والمؤمنين بما سيكون من الكافرين والمنافقين وتلقينه إياهم الحجة ، وإنزالهم منزلة الشهداء والمحكمين ، ثم تبيينه لهم حكمة التحويل ، كان مؤيدا ومسددا لهم ، ونورا يسعى بين أيديهم في ظلمة تلك الفتنة المدلهمة ، ولعمري إن هذه هي البلاغة التي لا غاية وراءها ; إعلام بما سيكون من اضطراب [ ص: 7 ] السفهاء في أقوالهم ، أشير إليه بالاستفهام مجملا ، ولم يذكر معه وجه الشبهة حتى لا تسبق إلى النفوس ، والغرض إقامة الموانع من تأثيرها عند ورودها من أربابها ، واختصار للبرهان ببيان أن المشرق والمغرب كسائر الجهات لله تعالى ; أي : يخصص منها ما يشاء فيجعله قبلة لمن يشاء ، وبيان لمكانة الأمة المحمدية التي أعطيت كل أصل ديني بدليله وحكمته ، وكلفت العدل والاعتدال في الأمر كله ; أي : فلا يليق بها أن تبالي بانتقاد السفهاء المذبذبين بين الإفراط والتفريط .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية