الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ثم استوى على العرش ) أي ثم إنه سبحانه وتعالى قد استوى بعد تكوين هذا الملك على عرشه كما يليق به ، يدبر أمره ويصرف نظامه حسب تقديره الذي اقتضته حكمته فيه كما قال في سورة يونس : ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) ( 10 : 3 ) وفي سورة الرعد : ( الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) ( 13 : 2 ، 3 ) وهو بمعنى ما هنا .

                          العرش في الأصل الشيء المسقف كما قال الراغب ، وبينا اشتقاقه في تفسير الجنات المعروشات من سورة الأنعام ويطلق على هودج للمرأة يشبه عريش الكرم ، وعلى سرير الملك وكرسيه الرسمي في مجلس الحكم والتدبير .

                          وحقيقة الاستواء في اللغة التساوي واستقامة الشيء واعتداله ، ومن المجاز كما في الأساس : استوى على الدابة وعلى السرير والفراش ، وانتهى شبابه واستوى ، واستوى على البلد اهـ ، وقال في مادة ع رش : واستوى على عرشه إذا ملك ، وثل عرشه إذا هلك اهـ . وفي المصباح : واستوى على سرير الملك - كناية عن التملك وإن لم يجلس عليه ، كما قيل : مبسوط اليد ومقبوض اليد ، كناية عن الجود والبخل اهـ .

                          لم يشتبه أحد من الصحابة في معنى استواء الرب تعالى على العرش ، على علمهم بتنزهه سبحانه عن صفات البشر وغيرهم من الخلق ، إذ كانوا يفهمون أن استواءه تعالى على عرشه عبارة عن استقامة أمر ملك السماوات والأرض له وانفراده هو بتدبيره . وأن الإيمان بذلك لا يتوقف على معرفة كنه ذلك التدبير وصفته وكيف يكون ، بل لا يتوقف على وجود عرش ، ولكن ورد في الكتاب والسنة أن لله عرشا خلقه قبل خلق السماوات والأرض . وأن له حملة من الملائكة ، فهو كما تدل اللغة مركز تدبير العالم كله . قال تعالى في سورة هود : ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ) ( 11 : 7 ) ولكن عقيدة التنزيه القطعية الثابتة بالنقل والعقل كانت مانعة لكل منهم أن يتوهم أن في التعبير بالاستواء على العرش شبهة تشبيه للخالق بالمخلوق . كيف وأن بعض القرائن الضعيفة لفظية [ ص: 402 ] أو معنوية تمنع في لغتهم حمل اللفظ على معناه البشري فكيف إذا كان لا يعقل ؟ فكيف والاستواء على الشيء مستعمل في البشر استعمالا مجازيا وكنائيا كما تقدم ؟ والقاعدة التي كانوا عليها في كل ما أسنده الرب تعالى إلى نفسه من الصفات والأفعال التي وردت اللغة في استعمالها في الخلق : أن يؤمنوا بما تدل عليه من معنى الكمال والتصرف مع التنزيه عن تشبيه الرب بخلقه ، فيقولون : إنه اتصف بالرحمة والمحبة واستوى على عرشه ، بالمعنى الذي يليق به ، لا بمعنى الانفعال الحادث الذي نجده للحب والرحمة في أنفسنا ، ولا ما نعهده من الاستواء والتدبير من ملوكنا . وحسبنا أن نستفيد من وصفه بهاتين الصفتين أثرهما في خلقه ، وأن نطلب رحمته ونعمل ما يكسبنا محبته ، وما يترتب عليهما من مثوبته وإحسانه ، ونستفيد من الاستواء على عرشه كون الملك والتدبير له وحده فلا نعبد غيره ، ولذلك قرنه في آخر آية يونس بقوله : ( ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) ( 10 : 3 ) وفي سورة الم السجدة ( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ) ( 32 : 4 ) وهذا يؤيد ما صدرنا به تفسير الآية من أنها كأمثالها تقرر وحدانية الربوبية على أنها حجة لوحدانية الإلهية وإبطال عبادة غيره تعالى معه بمعنى ما كانوا يدعونه من الشفاعة .

                          أخرج ابن مردويه واللالكائي في السنة أن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت في الجملة : الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به إيمان والجحود به كفر . فإن صح كان سببه شبهة بلغتها من بعض التابعين ، إذ حدث من بعضهم الاشتباه في فهم أمثال هذه النصوص ، كما كثر في المسلمين من لا يفهم اللغة حق الفهم ، ولم يتلق الدين عن أئمة العلم . فكان المشتبه يسأل كبار العلماء فيجيبون بما تلقوا عن الصحابة والتابعين من الجمع بين إمرار النصوص وقبولها كما وردت وتنزيه الرب تعالى واستنكار السؤال في صفاته عن الكيف .

                          وأخرج اللالكائي في السنة والبيهقي في الأسماء والصفات أن ربيعة شيخ الإمام مالك سئل عن قوله : ( ثم استوى على العرش ) كيف استوى ؟ فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، ومن الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التصديق ، وأخرجا أن مالكا سئل هذا السؤال أيضا فوجد وجدا شديدا وأخذته الرحضاء ، ولما سري عنه قال للسائل : الكيف غير معقول ، والاستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وإني أخاف أن تكون ضالا ، وأمر به فأخرج . وفي رواية أنه قال : " الرحمن على العرش استوى " كما وصف نفسه ، ولا يقال له كيف : " وكيف " عنه [ ص: 403 ] مرفوع ، وأنت رجل سوء صاحب بدعة . اهـ . كأنه علم من حاله أنه مشكك غير مستفت ليعلم .

                          وذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره أن للناس في هذا المقام مقالات كثيرة وقال : وإنما يسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح . مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، والليث بن سعد ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق بن راهويه - وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل . والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه و ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ( 42 : 11 ) بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال : من شبه الله بخلقه كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر . وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه ، فمن أثبت ما وردت به الآثار الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله النقائص فقد سلك سبيل الهدى اهـ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية