الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          الإشكال والاشتباه في روايات الدجال :

                          قد تقدم ما قاله ابن الجوازي من كونه - صلى الله عليه وسلم - كان يقدر في هذه المسائل تقديرا ; إذ لم يوح الله تعالى إليه أخبارها تفصيلا ، وعد من ذلك ما ورد في احتمال ظهور الدجال في زمنه .

                          وقال النووي في شرح أحاديث ابن صياد من صحيح مسلم : قال العلماء وقصته مشكلة وأمره مشتبه . . . وظاهر الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوح إليه بأن المسيح الدجال ولا غيره ، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال وكان في ابن صياد قرائن محتملة ; فلذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره ; ولهذا قال لعمر : " إن يكن هو فلن تستطيع قتله " اهـ . ولا بأس ببيان ما أشار إليه النووي من الإشكال والاشتباه بشيء من التفصيل .

                          إن أحاديث الدجال مشكلة من وجوه : أحدها : ما ذكرناه آنفا من منافاتها لحكمة إنذار القرآن الناس بقرب قيام الساعة وإتيانها بغتة .

                          ثانيها : ما ذكر فيها من الخوارج التي تضاهي أكبر الآيات التي أيد الله بها أولي العزم من المرسلين أو تفوقها ، وتعد شبهة عليها كما قال بعض علماء الكلام ، وعد بعض المحدثين ذلك من بدعتهم ، ومن المعلوم أن الله ما آتاهم هذه الآيات إلا لهداية خلقه ، التي هي مقتضى سبق رحمته لغضبه ، فكيف يؤتي الدجال أكبر الخوارق لفتنة السواد الأعظم من عباده ؟ فإن من تلك الروايات أنه يظهر على الأرض كلها في أربعين يوما إلا مكة والمدينة ، وقد روى أبو نعيم في الحلية عن حسان بن عطية من ثقات التابعين أنه لا ينجو من فتنة [ ص: 409 ] الدجال إلا اثنا عشر ألف رجل وسبعة آلاف امرأة . قال الحافظ في الفتح . وهذا لا يقال من قبل الرأي فيحتمل أن يكون مرفوعا أرسله ; ويحتمل أن يكون أخذه عن بعض أهل الكتاب اهـ . وهو الصحيح المختار عندي .

                          ثالثها : وهو من متعلقات ما قبله ، أن ما عزي إليه من الخوارق مخالف لسنن الله تعالى في خلقه ، وقد ثبت بنصوص القرآن القطعية أنه لا تبديل لسنته تعالى ولا تحويل . وهذه الروايات المضطربة المتعارضة لا تصلح لتخصيص هذه النصوص القطعية ولا لمعارضتها .

                          رابعها : اشتمال بعض هذه الأحاديث على مخالفة بعض القطعيات الأخرى من الدين كتخلف أخبار الرسل أو كونها عبثا وإقرارهم على الباطل وهو محال في حقهم .

                          خامسها : أنها متعارضة تعارضا كثيرا يوجب تساقطها كما ترى فيما يلي . فمن ذلك التعارض أن بعضها يصرح بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرى من المحتمل ظهور الدجال في زمنه ، وأنه يكفي المسلمين حينئذ شره ، وبعضها يصرح بأنه يخرج بعد فتح المسلمين لبلاد الروم والقسطنطينية ( ومنه ) أنه كان يشك في ابن صياد من يهود المدينة هل هو الدجال أم لا ؟ وأنه وصف - صلى الله عليه وسلم - الدجال بصفات لا تنطبق على ابن صياد كما قال ابن صياد لأبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .

                          ومن التعارض أيضا أنه يصرح في بعض الروايات بأنه يكون معه ( أي الدجال ) جبل أو جبال من خبز ونهر أو أنهار من ماء وعسل ، كما رواه أحمد والبيهقي في البعث عن رجل من الأنصار ، وعن جابر بن عبد الله بسند رجال ثقات مع ما رواه الشيخان واللفظ للبخاري من حديث المغيرة بن شعبة قال : " ما سأل أحد النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدجال ما سألته ، وإنه قال لي : ما يضرك منه ؟ قلت : لأنهم يقولون إن معه جبل خبز ونهر ماء . قال : " بل هو أهون على الله من ذلك " وفي رواية مسلم " يقولون إن معه جبال خبز ولحم ونهرا من ماء " وقد أولوا هذا لتصحيح ذاك ، ويتأمل قول جابر : " يقولون إن معه كذا وكذا ولم يقل : إنك قلت هذا .

                          ومن التعارض أيضا ما ورد من اختلاف الروايات في المكان الذي يخرج منه ففي بعض الرويات أنه يخرج من قبل المشرق على الإبهام . وفي حديث النواس بن سمعان عند مسلم أنه يخرج من خلة بين الشام والعراق . وفي رواية أخرى لمسلم أنه يخرج من أصبهان ، وفي حديث الجساسة عنده أنه محبوس بدير أو قصر في جزيرة بحر الشام - أي البحر المتوسط وهو في الشمال - أو بحر اليمين وهو في الجنوب وأنه يخرج منها ، وروى أحمد والحاكم أنه يخرج من خراسان ، وقد حاول شراح الصحيحين وغيرهم الجمع بين الروايات المتعارضة في كل مسألة فجاءوا بأجوبة متكلفة ردها المحقون كلها أو أكثرها ، وفيها من المشكلات [ ص: 410 ] غير ما أشرنا إليه ولا سيما الروايات في ابن صياد ، وما كان من حلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه هو الدجال ، وإقراره - صلى الله عليه وسلم - إياه على ذلك ، ومتابعة جابر بن عبد الله إياه على هذا الحلف كما في الصحيحين عنه .

                          وقد أجاب بعضهم عن الأخير بأن هذا التقرير قد نقضه التصريح منه - صلى الله عليه وسلم - لعمر بخلافه حين قال له دعني أضرب عنقه ، فقال : " إن يكن هو فلن تسلط عليه " إلى آخر الحديث وهو في الصحيح ، وقد رد الحافظ ابن حجر بعض تأويلات الحافظ البيهقي في مولد ابن صياد وصفاته وفي إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر على حلفه ، وعد قصة تميم الداري مرجحة لكونه غير ابن صياد ، وكون عمر كان يحلف حلفه قبل سماعه لهذه القصة - لهذا أخص هذا الحديث بشيء من التفصيل فأقول إن فيه عدة مباحث .

                          ( 1 ) كان تميم الداري من عرب فلسطين ( سورية ) وقد وصف بأنه كان راهب زمانه ، وقد جاء هو وأخوه نعيم المدينة في آخر عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع من الهجرة وأسلما ، وحدث هو النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكاية الجساسة الغريبة ، وذكروا أنه كان بعد إسلامه من العباد ومن القصاصين ، ولم يذكر لأحد شبهة فيه بل عدوا من مناقبه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - روى عنه ، وستعلم ما فيه ، فهذه مقدمة .

                          ( 2 ) راوية الحديث عنه في صحيح مسلم بطوله ومشكلاته هي فاطمة بنت قيس من المهاجرات وقالت : " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع الناس في المسجد رجالا ونساء وحدثهم على المنبر بما سمعه من تميم من هذه الحكاية " وقد رواه عنها الشعبي وحده ، وهو على جلالته قد روى عن كثير من الصحابة الذين لم يرهم ولم يسمع منهم ، ولكن المحدثين أثنوا على مراسيله أنه صرح بالسماع منها ، وسيأتي من رواه غيرها وغيره .

                          ( 3 ) من علل الحديث إذا أنه من الأحاديث التي تتوفر الدواعي على نقلها بالتواتر لغرابة موضوعه ولاهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - به وجمعه الناس له وتحديثه به على المنبر ، واستشهاده بقول تميم على ما كان حدثهم به قبل إسلامه ، ولسماع جمهور الصحابة له منه - صلى الله عليه وسلم - فمن غير المعقول ألا يروى إلا آحاديا ، ويؤيده امتناع البخاري عن إخراجه في صحيحه لشدة تحريه ، وقد أجاب الحافظ في الفتح عند شرح حديث جابر في ابن صياد من كتاب الاعتصام عن هذا الإعلال بقوله : ولشدة التباس الأمر في ذلك . أي الاختلاف بينه وبين حديث ابن صياد - سلك البخاري مسلك الترجيح ، فاقتصر على حديث جابر عن عمر في ابن صياد ، ولم يخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم ، وقد توهم بعضهم أنه غريب فرد ، وليس كذلك ، فقد رواه مع فاطمة بنت قيس أبو هريرة وعائشة وجابر أما أبو هريرة فأخرجه أحمد من رواية الشعبي عن المحرز بن أبي هريرة عن أبيه بطوله وأخرجه [ ص: 411 ] أبو داود مختصرا وابن ماجه عقب رواية الشعبي عن فاطمة قال الشعبي : فلقيت المحرز فذكره ، وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن أبي هريرة ، وأما حديث عائشة فهو في الرواية المذكورة عن الشعبي ، قال : ثم لقيت القاسم بن محمد فقال : أشهد على عائشة حدثتني كما حدثتك فاطمة بنت قيس ، وأما حديث جابر فأخرجه أبو داود بسند حسن من رواية أبي سلمة عن جابر وذكر لفظه .

                          أقول : إن ما ذكره الحافظ لا ينفي كون الحديث من الآحاد ، والمقام مقام التواتر لما ذكرناه من أسباب توفر الدواعي ، ولا ينفي أيضا كونه غريبا أيضا ، وإن لم يكن فردا فقد انحصرت الأسانيد لروايته في الشعبي وفي فاطمة بنت قيس ، وأما ما رواه أبو داود من طريق الوليد بن عبد الله بن جميع عن ابن أبي سلمة عن جابر ، فهو على كونه ليس من الصحيح - مختصر ، وليس فيه إسناد الحكاية إلى تميم الداري بل لا يزيد لفظ المرفوع فيه عن هذه الجملة " بينما أناس يسيرون في البحر فنفد طعامهم فرفعت لهم جزيرة فخرجوا يريدون الخبز فلقيتهم الجساسة " قال أبو الوليد بن عبد الله : فقلت لأبي سلمة وما الجساسة ؟ قال امرأة تجر شعر جلدها ورأسها قالت في هذا القصر . فذكر الحديث - وسأل عن نخل بيسان وعن عين زغر ، قال : هو المسيح . فقال لي ابن أبي سلمة : إنه في هذا الحديث شيئا ما حفظته ، قال شهد جابر أنه هو ابن صائد وفي نسخة - ابن صياد - فقلت : إنه قد مات قال وإن مات . قلت : فإنه قد أسلم . قال : وإن أسلم . قلت : فإنه قد دخل المدينة قال وإن دخل المدينة انتهى سياق أبي داود بحروفه .

                          أقول : وهو لا يقوي تلك الروايات ، وليس فيه شيء من مشكلاتها المعنوية وغرائبها ، بل قواه الحافظ بها فجعله حسنا لأجلها ، وهو يعلم أن الوليد بن عبد الله بن جميع ( بالتصغير ) الزهري راويه عن أبي سلمة ضعيف ، وإن روى عنه مسلم فقد قال هو نفسه ( أي الحافظ ) في تهذيب التهذيب فيما زاده على أصله أن ابن حبان ذكره في الضعفاء ، وقال إنه ينفرد عن الإثبات بما لا يشبه حديث الثقات ، فلما فحش ذلك منه بطل الاحتجاج به ، وذكر عن الحاكم أنه لو لم يخرج له مسلم لكان أولى اهـ . وفي رواية أبي داود عن فاطمة مخالفة لرواية مسلم من وجه آخر لا غرض لنا في ذكره ; إذ لا نريد استقصاء كل ما في هذه الأحاديث من التعارض والخلاف .

                          ( 4 ، 5 ) من الإشكال المعنوي في هذه الحكاية أن تميما وأصحابه الثلاثين كانوا من عرب الشام ، والمتبادر أنهم ركبوا سفينتهم من بعض ثغورهم في البحر المتوسط ، وقد ذكرت فاطمة بنت قيس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعد أن سرد للناس الحكاية " فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم به عنه - أي الدجال - وعن المدينة ومكة . ألا إنه في بحر [ ص: 412 ] الشام أو بحر اليمن - لا بل من قبل المشرق . ما هو من قبل المشرق ، ما هو من قبل المشرق ما هو ؟ وأومأ بيده إلى المشرق . قالت : فحفظت هذه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ . " .

                          فإن صح الحديث رواية فهذا التردد من النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكان الجزيرة التي ذكرها تميم الداري في أي البحرين هي ؟ ثم إضرابه عنهما وجزمه بأنه في جهة المشرق إلخ . إشكال آخر في متنه ينظر إلى اختلاف الروايات الأخرى في مكان الدجال بعين وينظر إلى اختلاف الروايات في ابن صياد بالعين الأخرى ، وينظر بالعينين كلتيهما إلى سبب هذا التردد ومنافاته; لأن يكون كلامه صلوات الله وسلامه عليه في أمر الدجال عن وحي من الله تعالى ، وسأتكلم في سببه في هذا البحث على تقدير صحة الرواية .

                          ثم أين هذه الجزيرة التي رفأ إليها تميم وأصحابه في سفينتهم ؟ إنها في بحر الشام أو بحر اليمن كما في اللفظ المرفوع - إن صح الحديث - أي الجهة المقابلة لسواحل سورية من البحر المتوسط ، أو الجهة المجاورة لشواطئ اليمن من البحر الأحمر ، وكل من البحرين قد مسحه البحارة في هذه الأزمنة مسحا ، وجابوا سطحهما طولا وعرضا ، وقاسوا مياههما عمقا ، وعرفوا جزائرهما فردا فردا ، فلو كان في أحدهما جزيرة فيها دير أو قصر حبس فيه الدجال وله جساسة فيها تقابل الناس ، وتنقل إليه الأخبار ، لعرف ذلك كله كل الناس وما قاله شارح المشارق من تنقل الدجال في البحرين أو من الجانب الشامي إلى الجانب اليمني بناء على زعمه أن البحر واحد - وما قاله الحافظ من انتقاله إلى أصفهان ; ليخرج منها مع سبعين ألفا من يهودها - كلاهما من الدعاوى التي لا أصل لها من النقل ، ولا من المقبول في نظر العقل ، وإنما يستنبطونها للجمع بين الروايات المتعارضة التي يعز عليهم أن يرجعوها إلى قاعدتهم ، تعارضت فتساقطت ، حتى إن الحافظ رضي لنفسه في هذا المجمع أن يقر قول من قال إن ابن صياد شيطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة إلى أن ذهب إلى أصفهان إلخ . وهو يحفظ تلك الروايات الكثيرة في ولادته بالمدينة ونشوئه فيها ثم إسلامه وحجه ثم موته فيها ، على أنه يحفظ بعض الروايات المضعفة لهذا .

                          ( 6 ) في الألفاظ المرفوعة من حكاية الجساسة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقر تميما على كل ما حكاه ، بل على بعضه وهو قوله : " فإنه أعجبني من حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم به عنه ( أي عن الدجال ) وعن المدينة ومكة " أي ، أنه لا يدخلهما . وقوله بعده : " إلا أنه في بحر الشام أو اليمن ، لا بل من قبل المشرق " إلى آخر ما تقدم آنفا ، وترجيح جميع العلماء روايات جهة المشرق دليل على أنه ليس في بحر الشام ، ولا بحر اليمن ; لأن الشام من جهة الشمال من المدينة واليمن في جهة الجنوب منها ، فلا شيء منهما [ ص: 413 ] بمشرق . قال الطيبي : لما تيقن عليه السلام بالوحي أنه من قبل المشرق نفى الأولين ، وظاهر العبارة يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صدق تميما في أول الأمر ; ولذلك قال : " ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن " بالتأكيد بـ " إن " والبدء بأداة الاستفتاح " ألا " ثم كوشف في موقفه بأنه ليس في هذا ولا ذاك ، بل في جهة المشرق .

                          ( 7 ) هاهنا يجيء إشكال آخر ، وهو أن نفي النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض قول تميم يبطل الثقة به كله ، ويحصر عجبه - صلى الله عليه وسلم - في شيء واحد منه لا يعرف بالرأي ، وهو موافقته لما سبق إخباره به - صلى الله عليه وسلم - من ظهور الدجال وكونه لا يدخل مكة ولا المدينة . وإن بقي الإعجاب مما ذكر منه في محله ، وقد يتفصون من هذا بأن الدجال كان قبل إسلام تميم ، وحديثه قد خرج من تلك الجزيرة التي رآه فيها فذهب إلى أصبهان أو غيرها من المشرق ، ويرده أن ما نقله عنه تميم صريحا فيما ينافي ذلك ، وهو أن وثاقه الشديد إنما يحل عند الإذن له في الخروج ، وأنه صار قريبا بعد ظهور العلامات التي ذكرها قال : إني أنا المسيح وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة ، إلا مكة وطيبة فهما محرمتان علي إلخ . فعطف الخروج على الإذن بـ " الفاء " والسير على الخروج بـ " الفاء " نص في أنهما على التعقيب لا فاصل بين هذه وتلك ، والأقرب إلى الخروج من كل هذه المشكلات أن تكون الرواية مصنوعة .

                          ( 8 ) ننتقل من هذا المبحث إلى مبحث قوي الصلة به ، وهو إذا لم نعد ما فيه من نفي النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أثبته تميم من وجود الدجال في أحد البحرين وفاقا للعلامة الطيبي الشهير - فهل يجب أن تكون حكايته - صلى الله عليه وسلم - لما حدثه به تميم تصديقا له ؟ وهل كان - صلى الله عليه وسلم - معصوما من تصديق كل كاذب في خبر فيعد تصديقه لحكاية تميم دليلا على صدقه فيها ؟ ويعد ما يرد عليها من إشكال واردا على حديث له حكم المرفوع ، وفي معناه إقرار - صلى الله عليه وسلم - لعمر على حلفه بأن ابن صياد هو الدجال كما تقدم .

                          إن ما قالوه في العصمة لا يدخل فيه هذا ; فالمجمع عليه هو العصمة في التبليغ عن الله تعالى ، وعن تعمد عصيانه بعد النبوة . قال السفاريني في شرح عقيدته : قال ابن حمدان في نهاية المبتدئين : وإنهم معصومون فيما يؤدون عن الله تعالى ، وليسوا معصومين في غير ذلك . وقال ابن عقيل في الإرشاد : إنهم عليهم السلام لم يعصموا في الأفعال بل في نفس الأداء . قال : ولا يجوز عليهم الكذب في الأقوال فيما يؤدونه عن الله تعالى ، وقال الحافظ العراقي : النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من تعمد الذنب بعد النبوة بالإجماع ، ولا يعتد بخلاف بعض الخوارج والحشوية الذين نقل عنهم تجويز ذلك إلخ . انتهى ملخصا . وتصديق الكاذب لا يعد ذنبا ، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصدق [ ص: 414 ] بعض ما يفتري به المنافقون حتى يخبره الله بما كان من المصلحة إخباره به منه ، كما وقع في غزوة تبوك وغيرها ، وصدق بعض أزواجه في القصة المشار إليها في سورة التحريم ، حتى أخبره تعالى به وبأن من أسر إليها الحديث أفشته ، وذلك قوله تعالى : قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ( 66 : 3 ) وتردد في حديث أهل الإفك ، وضاق صدره زمنا حتى نزلت عليه آيات البراءة المكذبة لهم في سورة النور . فعلى هذا لا يكون ذكره - صلى الله عليه وسلم - لقصة تميم في حكم المرفوع الذي يقوله هو - صلى الله عليه وسلم - ، كما أن ما يقوله - صلى الله عليه وسلم - برأيه وظنه لا يدخل في عموم ما هو معصوم منه ، وهو تعمد الكذب ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في مسألة تلقيح النخل : " إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله " وقال فيها أيضا : " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر " رواهما مسلم في صحيحه .

                          وقال المحقق ابن دقيق العيد في مسألة تقريره - صلى الله عليه وسلم - من أوائل شرح الإلمام إذا أخبر في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمر ليس فيه حكم شرعي ، فهل يكون سكوته - صلى الله عليه وسلم - دليلا على مطابقة ما في الواقع ، كما وقع لعمر في حلفه على أن ابن صياد هو الدجال فلم ينكر عليه ، فهل يدل عدم إنكاره على أن ابن صياد هو الدجال كما فهمه جابر حتى صار يحلف عليه ويستند إلى حلف عمر ، أو لا يدل ؟ فيه نظر . والأقرب عندي أنه لا يدل ; لأن مأخذ المسألة ومناطها هو العصمة من التقرير على باطل ، وذلك يتوقف على تحقيق البطلان ولا يكفي فيه عدم تحقيق الصحة إلخ . نقله عنه الحافظ في الفتح ملخصا .

                          ( 9 ) إن في روايات هذه الحكاية اختلافات أخرى ، كقوله في أطولها عن تميم : " إنه ركب سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم أرفؤوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة " وقوله في رواية أخرى : " حدثني تميم الداري أن أناسا من قومه كانوا في البحر في سفينة لهم فانكسرت بهم فركب بعضهم على لوح من ألواح السفينة فخرجوا إلى سفينة في البحر ، وفي رواية : " إن بني عم تميم الداري ركبوا في البحر " وفي رواية : " إنه ركب البحر فتاهت به سفينة فسقط إلى جزيرة فخرج إليها يلتمس الماء فلقي إنسانا يجر شعره " وهذه الروايات كلها في صحيح مسلم ، والاختلافات فيها متعددة كما ترى ، وفي سائر الروايات ما يزيد على ذلك .

                          وجملة القول في حديث الجساسة أن ما فيه من العلل والاختلاف والإشكال من عدة [ ص: 415 ] وجوه يدل على أنه مصنوع ، وأنه على تقدير صحته ليس له كله حكم المرفوع ، وكذا يقال في سائر أحاديث الدجال المشكلة التي انتقدها الحافظ في الفتح من جهة صناعة علم أصول الحديث وتعارض المتون أو مخالفتها للواقع . وعد من علل بعضها احتمال كونها من الإسرائيليات ، فقد ذكر ما أخرجه نعيم بن حماد شيخ البخاري في كتاب الفتن من طريق جبير بن نفير وشريح بن عبيد وعمرو بن الأسود وكثير بن مرة قالوا جميعا : " الدجال ليس هو بإنسان ، وإنما هو شيطان موثق بسبعين حلقة في بعض جزائر اليمن لا يعلم من أوثقه سليمان النبي أو غيره ؟ فإذا آن ظهوره فك الله عنه كل عام حلقة ، فإذا برز أتته أتان ، عرض ما بين أذنيها أربعون ذراعا فيضع على ظهرها منبرا من نحاس ، ويقعد عليه ويتبعه قبائل الجن يخرجون له خزائن الأرض " .

                          قال الحافظ بعد إيراد هذا : ( قلت ) ولا يمكن معه كون ابن صياد هو الدجال ، ولعل هؤلاء مع كونهم ثقات تلقوا ذلك من بعض كتب أهل الكتاب . وأخرج نعيم أيضا من طريق كعب الأحبار أن الدجال تلده أمه بقوص من أرض مصر . ( قال ) وبين مولده ومخرجه ثلاثون سنة . ( قال ) ولم ينزل خبره في التوراة والإنجيل ، وإنما هو في بعض كتب الأنبياء اهـ ، وأخلق بهذا الخبر أن يكون باطلا فإن الحديث الصحيح أن كل نبي قبل نبينا أنذر قومه الدجال ، وكونه يولد قبل مخرجه بالمدة المذكورة مخالف لكونه ابن صياد ، ولكونه موثقا في جزيرة من جزائر البحر انتهى المراد من قول الحافظ . وهو في شرح كتاب الاعتصام من الفتح .

                          ومنه يعلم أن الحافظ لم يسلم من ضرب بعض هذه الروايات المضطربة المتعارضة المتنافرة ببعض ، وبأنه يعد احتمال الأخذ عن أهل الكتاب علة صحيحة لرد روايات الثقات ، ولو فيما لا مجال للعقل ولا للرأي فيه ، خلافا لما زعمه الزرقاني به وتمسك به بعض أنصار الخرافات فعدوه مما له حكم المرفوع .

                          ومنه يعلم أيضا أن يد بطل هذه الإسرائيليات الأكبر كعب الأحبار قد لعبت لعبها في مسألة الدجال ( في كل واد أثر من ثعلبة ) وقول كعب : إن ما ذكره من ولادة الدجال بقوص في كتب بعض الأنبياء كذب وافتراء .

                          وهناك روايات أخرى عنه منها ما نقله الحافظ في شرح كتاب الفتن عن نعيم بن حماد في كتابة المذكور عنه قال ( أي كعب ) : يتوجه الدجال فينزل عند باب دمشق الشرقي ، ثم يلتمس فلا يقدر عليه ، ثم يرى عند المياه التي عند نهر الكسوة ثم يطلب فلا يدرى أين توجه ، ثم يظهر بالمشرق فيعطى الخلافة ، ثم يظهر السحر ، ثم يدعي النبوة فتتفرق الناس عنه ، فيأتي النهر فيأمره أن يسيل فيسيل ، ثم يأمره أن يرجع فيرجع [ ص: 416 ] ثم يأمره أن ييبس فييبس ، ويأمر جبل طور وجبل زيتا أن ينتطحا فينتطحا ، ويأمر الريح أن تثير سحابا من البحر فتمطر الأرض ، ويخوض البحر في كل يوم ثلاث خوضات فلا يبلغ حقويه ، وإحدى يديه أطول من الأخرى فيمد الطويلة في البحر فتبلغ قعره فيخرج من الحيتان ما يريد اهـ .

                          بمثل هذه الخرافات كان كعب الأحبار يغش المسلمين; ليفسد عليهم دينهم وسنتهم ، وخدع به الناس لإظهار التقوى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

                          وجملة أخبار الدجال قالوا : إنها متواترة ، يعنون التواتر المعنوي ، وهو أن لها أصلا ، وإن لم يتواتر شيء من رواياتها . ويدل القدر المشترك منها على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كشف له وتمثل له ظهور دجال في آخر الزمان يظهر للناس خوارق كثيرة وغرائب يفتتن بها خلق كثير ، وأنه من اليهود ، وأن المسلمين يقاتلونه ويقاتلون اليهود في هذه البلاد المقدسة وينتصرون عليهم ، وقد كشف له ذلك مجملا غير مفصل ولا بوحي عن الله تعالى - كما كشف له غير ذلك من الفتن - فذكره فتناقله الرواة بالمعنى فأخطأ كثير منهم ، وتعمد الذين كانوا يثبتون الإسرائيليات الدس في رواياته ، ولا يبعد أن يقوم طلاب الملك من اليهود الصهيونيين بتدبير فتنة في هذا المعنى يستعينون عليها بخوارق العلوم والفنون العصرية كالكهرباء والكيمياء وغير ذلك والله أعلم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية