الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          الخوارق الحقيقية والصورية عند الأمم :

                          إن الأمور التي تأتى في الظاهر على غير السنن المعروفة ، أو الخارقة للعادات المألوفة منقولة عن جميع الأمم في جميع العصور نقلا متواترا في جنسه دون أفراد وقائعه وليست كلها خوارق حقيقية ، فإن منها ما له أسباب مجهولة للجمهور ، وإن منها لما هو صناعي يستفاد بتعليم خاص ، وإن منها لما هو من خصائص قوى النفس وتأثير أقوياء الإرادة ، في ضعفائها ويدخل في هذين المكاشفة في بعض الأمور ، والتنويم المغناطيسي ، وشفاء بعض المرضى ولا سيما المصابين بالأمراض العصبية التي يؤثر فيها الاعتقاد والوهم ، ومنها بعض أنواع العمى والفالج ، فإن من الناس من يفقد بصره بمرض يطرأ على أعصاب عينيه وهما صحيحتان تلمعان في وجهه ، أو يغشاهما بياض عارض مع بقاء طبقاتهما صحيحة . وليس منه الكمه والعمى الذي يقع بطمس العينين وغئورهما كالذي أبرأه المسيح عليه السلام بإذن الله تعالى . وقد بينا هذه الأنواع من الخوارق الصورية في بحث السحر من تفسير سورة الأعراف ، وفي المقالات التي عقدناها للكرامات وأنواعها وتعليلها في المجلد الثاني من المنار وأتممناها في المجلد السادس منه .

                          إن عوام الشعوب الذين يجهلون تواريخ الأمم ، وما وجد عند كل منها من هذه الغرائب ، وما كشفه العلماء من حيل فيها وعلل ، يغترون بما عندهم منها ، ويخضعون للدجالين والمحتالين الذين ينتحلونها ، ويمكنونهم من أموالهم فيسلبونها ، ويأتمنونهم على أعراضهم فينتهكونها ، ولا سيما إذا كانوا يأتون ما يأتون منها على أنه من كرامات الأولياء وعجائب القديسين ، ويقل تصديق هذا والانقياد لأهله حيث ينتشر تعليم التواريخ وما عند جميع الأمم من ذلك [ ص: 186 ] على أنه لا يزال كثيرا في جميع بلاد أوربة وأمريكة ، ولعله دون ما في بلاد الشرق ولا سيما القرى وهمج الزنوج وغيرهم .

                          بيد أن آيات الله الحقيقية التي نسميها المعجزات ، هي فوق هذه الأعمال الصناعية الغريبة لا كسب لأحد من البشر ولا صنع لهم فيها ، وإن ما أيد به رسله منها لم يكن بكسبهم ولا عملهم ولا تأثيرهم حتى ما يكون بدؤه بحركة إرادية يأمرهم الله تعالى بها ، ألم يهد لك كيف خاف موسى عليه السلام حين تحولت عصاه حية تسعى ، فولى مدبرا ولم يعقب لشدة خوفه منها ، حتى هدأ الله روعه وأمن خوفه ؟ أولم تقرأ قوله لمحمد - صلى الله عليه وسلم - : ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ( 8 : 17 ) ؟ أولم تفهم ما أمره الله تعالى أن يجيب مقترحي الآيات عليه من قومه بقوله : ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) ( 17 : 93 ) وقوله : ( قل إنما الآيات عند الله ) ( 29 : 50 ) وما في معناهما .

                          جهل هذا الأصل المحكم من عقائد الإسلام أدعياء العلم من سدنة القبور المعبودة وغيرهم فظنوا أن المعجزات والكرامات أمور كسبية كالصناعات العادية ، وأن الأنبياء والصالحين يفعلونها باختيارهم في حياتهم وبعد مماتهم متى شاءوا ، ويغرون الناس بإتيان قبورهم ولو بشد الرحال إليها لدعائهم والاستغاثة بهم عند نزول البلاء والشدائد ، التي يعجزون عن دفعها بكسبهم وكسب أمثالهم من البشر بالأسباب العادية كالأطباء مثلا ، وبالتقرب إليهم بالنذور والقرابين كما كان المشركون يتقربون إلى آلهتهم من الأصنام وغيرها ، وهم يأكلونها سحتا حراما ، ويخبرونهم بأن دين الله تعالى يأمرهم أن يعتقدوا أنهم يقضون حوائجهم ، حتى قال بعضهم إنهم يخرجون من قبورهم بأجسادهم ويتولون قضاء الحاجات ، وكشف الكربات ، ولو كانت كذلك لما كانت من خوارق العادات ، وقال بعضهم في كتاب مطبوع : إن فلانا من الأقطاب يميت ويحيي ، ويسعد ويشقي ، ويفقر ويغني .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية