الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون .

                          هذا السياق تفصيل للأوامر والنواهي التي هي ثمرة الاعتبار بما كان من سيرة الأمم مع الرسل : من جحدوا فأهلكوا . ومن آمنوا ثم اختلفوا وتفرقوا ، فمن جمع بين هذا الأمر والنهي كمل إيمانه ، وما بعدهما تفصيل لهما .

                          - فاستقم كما أمرت - أي : كان أمر أولئك الأمم كما قصصنا عليك أيها الرسول ، فاستقم مثل ما أمرناك في هذا الكتاب ، أي الزم الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه بالثبات عليه واتقاء الاختلاف فيه ، - ومن تاب معك - أي : وليستقم معك من تاب من الشرك وآمن بك واتبعك - ولا تطغوا - فيه بتجاوز حدوده غلوا في الدين ، فإن الإفراط فيه كالتفريط ، [ ص: 137 ] كل منهما زيغ عن الصراط المستقيم ، وهو يدل على وجوب اتباع النصوص في الأمور الدينية وهي العقائد والعبادات ، وعلى اجتناب الرأي وبطلان التقليد فيها - إنه بما تعملون بصير - أي : إنه - تعالى - بصير بعملكم يبصر به ويراه ويحيط به علما فيجزيكم به . يقال : بصر بالشيء في اللغة الفصحى ومنه - فبصرت به عن جنب - 28 : 11 .

                          وقال - تعالى - في مثل هذا السياق من سورة الشورى بعد ما تقدم : - فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير - 42 : 15 أمره أن يدعو إلى الدين الذي كان عليه الرسل في عصورهم ، قبل الاختلاف فيه الذي ابتدع من بعدهم ، وأن يستقيم عليه كما أمره الله ، وأن يخاطب أهل الكتاب بما يتبرأ به من الاختلاف ، ومن إثارته بحجج الجدال ، واكتفى في سورة هود بالأمر بالاستقامة على الجادة والنهي عن الطغيان ، ومنه البغي الذي يورث الاختلاف ; لأن المقام مقام العبرة العامة بقصص الرسل كافة ، لا بحال قوم موسى ومن أورثوا الكتاب خاصة ، فهذا فرق ما بين المقامين في هذه الآيات المتشابهة .

                          وقد أوجز القاضي البيضاوي في وصف هذه الاستقامة فقال : وهي شاملة للاستقامة في العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل ، بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين - والأعمال من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل ، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوت للحقوق ونحوها ، وهي في غاية العسر ، ( كذا قال ) ثم قال : " وفي الآية دليل على وجوب اتباع النصوص من غير تصرف وانحراف بنحو قياس أو استحسان " اهـ .

                          وهذا أحسن مما قبله وهو ينقض بعضه . فأحق النصوص بالاتباع من غير تصرف نصوص العقائد من صفات الله - تعالى - وعالم الغيب إذ لا مجال للعقل والرأي فيها ، وقد كان تحكيم النظريات العقلية فيها مثار الاختلاف والشقاق والافتراق في الأمة ، الذي نعاه القرآن على أهل الكتاب وحذرنا منه في هذا السياق ، وفيما هو أوضح منه من سياق سورة الشورى ، وما في معناهما من السور الأخرى ، وقد ترك البيضاوي بابه مفتوحا بزعمه أن الاستقامة في العقائد وسط بين التعطيل والتشبيه ، ويعني به التأويل الكلامي لأنه من أساطين نظاره ، وحجته قوله : بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين .

                          والصواب أن تحكيم العقل البشري في الخوض في ذات الله وصفاته ، وفيما دون ذلك من عالم الغيب كملائكته وعرشه وجنته وناره ، طغيان من العقل وتجاوز لحدوده وقد نهي [ ص: 138 ] عنه ، لا صيانة له ، فإن أكبر نظار البشر وفلاسفتهم عقولا قد عجزوا إلى اليوم عن معرفة كنه أنفسهم وأنفس ما دونهم من المخلوقات حتى الحشرات كالنحل والنمل ، فأنى لهم أن يعرفوا كنه ذات الله وصفاته وأفعاله أو ملائكته ، ولما خرجوا عن هدي سلف الأمة من الصحابة والتابعين وحملة الآثار زاغوا فكانوا - من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون - 30 : 32 سقط بعضهم في خيال التعطيل ، وبعضهم في خيال التشبيه ، وبعضهم في حيرة النفي المحض هربا من الأمرين ، وبعضهم في الذبذبة بتأويل بعض النصوص دون بعض ، وهو ما سماه البيضاوي وسطا ، فهم يتأولون علو الرب على جميع خلقه ، واستواءه على عرشه ، ورحمته بعباده ، وحبه للمحسنين والمتوكلين ، وأمثال هذه الصفات المرغبة في الحق والعدل ، والمنفرة من الظلم والبغي ، يتأولونها هربا من التشبيه بزعمهم ؛ لأنها مستعملة في صفات البشر ، وما من تأويل لها إلا وهو بألفاظ بشرية مثلها تحتاج إلى تأويل ، وقصاراها أنها إيثار لما اختاروه في وصفه - تعالى - على ما أنزله في كتابه ورضيه لنفسه .

                          ثم إنهم لا يؤولون صفات العلم والقدرة والمشيئة والسمع والبصر ، مع القطع بأن معانيها اللغوية المستعملة في البشر تستلزم التشبيه الذي قالوه في الرحمة والحب والرضى والغضب ، فإن علمه - تعالى - ليس كعلمنا في استعداده من المعلومات ولا في صورتها في النفس - فكيف إذا قلنا في الدماغ - ولا في انقسامه إلى تصور وتصديق ينقسمان إلى بديهي ونظري ، ولا قدرته - تعالى - ومشيئته في كنههما وتعلقهما بالأشياء كقدرتنا ومشيئتنا ، فالواجب إذا أن نؤمن بأن كل ما وصف الله - تعالى - به نفسه فهو حق وكمال ، إلا أنه أعلى وأكمل من صفات خلقه التي وضعت لها تلك الأسماء ، وكذلك الأفعال وقد قالوا في رؤيته - تعالى - : إنها حق بلا كيف . فلم لا يقولون مثل هذا في غيرها ؟ ! . وإنما نقول هنا : لو أن التأويل الكلامي الذي عناه البيضاوي هنا شيء يقتضيه إدراك العقل البشري بالعلم الضروري أو النظري ، الذي ينتهي إلى الضرورة بإجماع العقلاء ، لما وقع فيه ما وقع من الاختلاف المذموم شرعا ومصلحة ، حتى انتهى ببعض الفرق إلى المروق من الملة بتأويل أركان الدين حتى العملية التي لا مساغ فيها للتأويل ، ولم يقع مثل هذا الاختلاف في أصول العقائد ولا أركان الإسلام العملية بين الصحابة - رضوان الله عليهم - وهم أعلم بالدين ممن بعدهم بالإجماع .

                          فقوله - تعالى - : - فاستقم كما أمرت يقتضي الإيمان بالغيب كله كما جاء في القرآن بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل ، وبذلك دون سواه نجتنب ما أمر الله به جميع رسله وأتباعهم [ ص: 139 ] من اجتناب الاختلاف والتفرق في الدين ، الذي أوعد الله أهله بالعذاب العظيم ، وبرأ رسوله من أهله المفرقين والمتفرقين .

                          وكذلك يقتضي التزام كتاب الله وما فسرته به سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من العبادات العملية ، بدون تحكم بالرأي والقياس كما قال البيضاوي وغيره ، وفي معناها وحكمها التحريم الديني ، فكل منهما لا يثبت إلا بالنص القطعي أو بالإجماع ، وأما الاختلاف فيما عدا ذلك من أمور القضاء والسياسة فهو طبيعي لا يمكن الاحتراس منه ولا يخل بالدين ، ولا يصح أن يجعل سببا لقطع أخوته ، وقد بين الله المخرج منه في سورة النساء بقوله : - ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول - 4 : 59 الآية .

                          هذا ؛ وإن مقام الاستقامة لأعلى المقامات ، يرتقى به لأعلى الدرجات ، كما يدل عليه هذا الأمر به للرسول - صلى الله عليه وسلم - في هاتين الآيتين ، ولموسى وهارون عليهما السلام في قوله : - قد أجيبت دعوتكما فاستقيما - 10 : 89 وقوله - تعالى - : - إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا - 41 : 30 الآيات . وروى مسلم عن سفيان الثقفي قال : قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ، قال : " قل آمنت بالله ثم استقم " فالاستقامة عين الكرامة كما قالوا .

                          قال السيد عبد الفتاح الزعبي الجيلاني لعم والدي السيد أحمد أبي الكمال وهو زوج عمته : يا سيدي إنك صحبت الشيخ محمودا الرافعي ، وإني أرى أتباعه يذكرون له كثيرا من الكرامات فأرجو أن تخبرني بما رأيت منه ، قال : رأيت منه كرامة واحدة هي الاستقامة . أخبرني الشيخ عبد الفتاح هذا الخبر ، وقال : أنا لم أكن أصدق ما ينقلونه من تلك الكرامات ، فسألته لأنني أعتقد أنه كان من الصديقين في هذا العصر . وكان الشيخ عبد الفتاح نقادة وسيئ الظن بما ينقله أهل طرابلس عن بعض شيوخ الطريق الذين اشتهروا بالصلاح ممن لم يدركهم ، ويعتقد أن بعض ما ينقلونه عنهم من الكرامات كذب كما عهده من كثير من معاصريه وبعضه أوهام ، واختبر التزام الشيخ أحمد للصدق بطول المعاشرة ، للمودة بين الأسرتين والمصاهرة . وقد ذكرت هذه الحكاية على صغر شأنها لأن أولى الصدق والاستقامة في هذه البيوتات القديمة أمسى قليلا في بعضها وخلا من بعض ، وإذا كان البيضاوي قال في القرن السابع وغيره قبله وبعده : إن الاستقامة في غاية العسر ، فما قال ذلك إلا لقلة من يرعاها حق رعايتها بالثبات عليها أو بلوغ الكمال فيها ، لا لعسرها في نفسها ، فإن الله لم يكلفنا من شرعه عسرا - يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر - 2 : 185 . [ ص: 140 ] - ولا تركنوا إلى الذين ظلموا - أي : ولا تستندوا إلى الذين ظلموا من قومكم المشركين ولا من غيرهم ، فتجعلوهم ركنا لكم تعتمدون عليهم فتقرونهم على ظلمهم ، وتوالونهم في سياستكم الحربية أو أعمالكم الملية ، فإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ، فالركون من ركن البناء وهو الجانب القوي منه ، ومنه قوله - تعالى - حكاية عن لوط - عليه السلام - : - لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد - 11 : 80 والسند بمعنى الركن ، وقد اشتق منه : سند إلى الشيء ( كركن إليه ) واستند إليه ، وفسره الفيروزابادي في قاموسه بالتبع للجوهري بالميل إلى الشيء والسكون له ، وهو تفسير بالأعم كعادتهم ، وفسره الزمخشري بالميل اليسير ، وتبعه البيضاوي وغيره من المفسرين الذين يعتدون عليه في تحريره للمعاني اللغوية لدقة فهمه وذوقه وحسن تعبيره ، وإنه لكذلك ، وقلما يخطئ في اللغة إلا متحرفا إلى شيوخ المذهب ( المعتزلة ) أو متحيزا إلى فئة رواة المأثور من الصحابة والتابعين أو نقلة اللغة ، وشيوخ المذهب يخطئون في الاجتهاد ، وفئة الروايات تخطئ في اعتماد الأسانيد الضعيفة والإسرائيليات ، ورواة اللغة يفسرون اللفظ أحيانا بما هو أعم منه أو بلازمه أو بغير ذلك من قرائن المجاز في بعض كلام العرب ، ولا يعنون أن ذلك هو حد اللفظ المعرف بحقيقته ، وقد فسر " الركون " بعضهم بالميل والسكون إلى الشيء وهو من تساهلهم ، ولكنهم قد ذكروا في مادته ما يدل على هذا التساهل ويؤيد ما حققناه . قال في القاموس المحيط تبعا للصحاح : ركن إليه كنصر ركونا : مال وسكن ، والركن بالضم الجانب الأقوى ( زاد الجوهري من كل شيء ) والأمر العظيم والعز والمنعة اهـ . ومثله في لسان العرب وذكر الآية ، وأن الركون فيها من مال إلى الشيء واطمأن إليه ، والاطمئنان أقوى من السكون ، وفسره في المصباح المنير بالاعتماد على الشيء وهو أقوى من الاطمئنان ، والمعاني الأربعة : أي الميل والسكون والاطمئنان والاعتماد من لوازم معنى الركون ولا تحيط بحقيقته ، وأقواها آخرها . قال في اللسان كغيره : وركن الشيء جانبه الأقوى ، والركن الناحية القوية وما تقوى به من ملك وجند وغيره ، وبه فسر قوله - تعالى - : - فتولى بركنه - 51 : 39 ودليل ذلك قوله : تعالى : - فأخذناه وجنوده - 28 : 40 أي أخذناه وركنه الذي تولى به إلى آخر ما قال ، وهو يدل على ما حققناه في معنى الركون الحقيقي ، وإنما عنيت بتحقيقه لما جاءوا في تفسيره وتفسير الظلم المطلق المعاقب عليه من التشديد الذي لا ترضاه الآية ، كما فعلوا في تفسير الاستقامة إذا تجاوزوا بهما سماحة دين الفطرة ، ويسر الحنيفية السمحة ، فإن الله - تعالى - جعل دينه يسرا لا عسر فيه ، وسمحا لا حرج على متبعيه .

                          فسر الزمخشري " الذين ظلموا " بقوله : أي : إلى الذين وجد منهم الظلم ، ولم يقل إلى الظالمين ، وحكى أن الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه ، فلما أفاق قيل له ، [ ص: 141 ] فقال : هذا فيمن ركن إلى ظلم فكيف بالظالم ؟ اهـ .

                          ومعنى هذا أن الوعيد في الآية يشمل من مال ميلا يسيرا إلى من وقع منه ظلم قليل أي ظلم كان ، وهذا غلط أيضا ، وإنما المراد بـ الذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه ، فهم " كالذين كفروا " في الآيات الكثيرة التي يراد بها فريق الكافرين ، لا كل فرد من الناس وقع منه كفر في الماضي وحسبك منها قوله - تعالى - : - إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون - 2 : 6 والمخاطبون بالنهي هم المخاطبون بالآية السابقة بقوله : - فاستقم كما أمرت ومن تاب معك - وقد عبر عن هؤلاء الأعداء المشركين بـ الذين ظلموا كما عبر عن أقوام الرسل الأولين في قصصهم من هذه السورة في الآيات ( 37 و 67 و 94 ) وعبر عنهم فيها بـ الظالمين أيضا كقوله : - وقيل بعدا للقوم الظالمين - 44 فلا فرق في هذه الآيات بين التعبير بالوصف والتعبير بـ " الذين " وصلته ، فإنهما في الكلام عن الأقوام بمعنى واحد .

                          فقوله - تعالى - : - فتمسكم النار - معناه : فتصيبكم النار التي هي جزاء الظالمين ، بسبب ركونكم إليهم بولايتهم والاعتزاز بهم والاعتماد عليهم في شئونكم الملية ، لأن الركون إلى الظلم وأهله ظلم ، - ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين - 5 : 51 روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه فسر الظلم هنا بالشرك ، والذين ظلموا بالمشركين ، إذ السورة مكية ، ولم يك في مكة وما حولها غير المشركين الذين ظلموا أنفسهم وظلموا المؤمنين ، ومعنى الآية عام في موضوعها ، فولاية أهل الكتاب على المؤمنين كولاية المشركين لا خلاف في هذا وهو منصوص ، ولكن قال بعض المفسرين : إن الآية عامة في كل نوع من أنواع الظلم ، فيشمل ظلم المسلمين لأنفسهم في أحكامهم وأعمالهم ، وسيأتي بيانه بعد تمام تفسيرها الذي نفهمه من مدلول ألفاظها وسياقها وحال المخاطبين بها مع الظالمين لهم في عصرهم ، ويدل على ما حققناه قوله - تعالى - :

                          - وما لكم من دون الله من أولياء - أي : وما لكم في هذه الحال التي تركنون إليهم فيها غير الله من أنصار يتولونكم : - ثم لا تنصرون - بسبب من الأسباب ولا بنصر الله - تعالى - فإن الذين يركنون إلى الظالمين يكونون منهم ، وهو لا ينصر الظالمين كما قال : - وما للظالمين من أنصار - بل تكون غايتكم الحرمان مما وعد الله رسله ومن ينصره من المؤمنين من نصره الخاص ، فالتعبير بـ ثم للدلالة على الغاية والعاقبة المقدرة لهم إن ركنوا إلى أعدائه [ ص: 142 ] وأعدائهم الظالمين . وقال الزمخشري ومن تبعه : إنها دالة على استبعاد نصرهم في هذه الحالة ؛ لأن حكمة الله اقتضت عقابهم بالنار ، وما قلته أقرب ولله الحمد والمنة .

                          وفي معنى الآية ما ورد من الآيات الكثيرة في النهي عن ولاية الكفار واتخاذ وليجة من دون الله ورسوله منهم ، وعن اتخاذ المؤمنين بطانة من دونهم ، وقد اتخذ المشركون وسائل كثيرة لاستمالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الركون إليهم ، فعصمه الله من ذلك بعد أن كاد يرجح له اجتهاده أن في بعض ذلك مصلحة واستمالة لهم إلى الإيمان ، وذلك قوله - تعالى - : - ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا - 17 : 74 و 75 يعني لولا أن ثبتناك بالعصمة لقاربت أن تركن إليهم شيئا قليلا من الركون ، كأن تصدقهم أنهم أهل لأن يعتمد عليهم بعض الاعتماد ، إذا أقبلت عليهم وأعرضت عن فقراء المؤمنين لاستمالتهم ، كما فعلت مع الأعمى ، ولكن تثبيتنا إياك عصمك من مقاربة أقل الركون إليهم ، فضلا عن مقارفة هذا الأقل ، فالآية الأولى نص في أنه - صلى الله عليه وسلم - ما ركن أقل الركون ولا قارب أن يركن ، والآية الثانية نص في أنه لو فعل ذلك ( فرضا ) لعاقبه الله عقابا في الحياة والممات معا ، وهذه مبالغة في الزجر والوعيد لغيره - صلى الله عليه وسلم - على الركون إليهم لا تصل بلاغة الكلام البشري إلى مبادئها ، فضلا عن أوساطها أو غاياتها .

                          ولو كان معنى الركون في اللغة الميل اليسير مهما يكن نوعه كما زعم الزمخشري ومقلدوه ، لكان هذا الوعيد الشديد على قليل منه على قلته في نفسه مما لا يمكن أن تراد به حقيقته ; لأنه أشد الوعيد على ما لا يستطيع بشر اتقاءه إلا بعصمة خاصة من الله - تعالى - كما سترى في تفسيرهم له ، أما والحق ما قلناه ، وهو أن الركون إلى الشخص أو الشيء هو الاعتماد عليه والاستناد إليه وجعله ركنا شديدا للراكن ، فأجدر بقليله أن يتعذر اجتنابه على أكمل البشر إلا بالعصمة والتثبيت الخاص من الله عز وجل ، فكيف ينهى جميع المؤمنين عن الميل اليسير إلى من وقع منه أي نوع من الظلم ؟

                          لم يكن ميل النفس الطبعي من المؤمنين إلى أولادهم وأرحامهم المشركين الظالمين ولا البر بهم والإحسان إليهم محظورا عليهم ; لأنه ليس من الركون إليهم الخاص بالولاية لهم والاعتماد عليهم وهو المنهي عنه ، ولا من الميل إليهم لأجل الظلم . ولما فعل حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - فعلته التي هي أقرب إلى الولاية الحربية منها إلى صلة الرحم كما تأولها ، أنزل الله - تعالى - سورة الممتحنة التي نهى فيها عن ولاية المشركين الظالمين المقاتلين في الدين والمودة فيها وقال : - ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون - 60 : 9 وأذن بالبر والقسط لغيرهم منهم ، ولا تنس [ ص: 143 ] ما ورد في الصحيح من نزول قوله - تعالى - : - إنك لا تهدي من أحببت - 28 : 56 في حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إسلام عمه أبي طالب الذي كفله في صغره ، وكان يحميه ويناضل عنه في نبوته ، واذكر قول السيدة خديجة - رضي الله عنها - له في حديث بدء الوحي : " كلا والله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل " إلخ .

                          بل لم تكن الثقة ببعض المشركين والاعتماد عليهم في أهم الأعمال من الركون المنهي عنه ، فقد وثق النبي - صلى الله عليه وسلم - والصديق الأكبر - رضي الله عنه - بمشرك من بني الديل وائتمناه على الراحلتين اللتين هاجرا عليهما ليوافيهما بهما في الغار بعد ثلاث ، وكان المشركون الظالمون يبحثون عنهما ، وقد جعلوا لمن يدلهم عليهما قدر ديتهما .

                          واختلف أئمة العلم في استعانة المسلمين بالكافر في الحرب لتعارض الأحاديث فيها ، وجمع الحافظ بينها في التلخيص بقوله : إن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها ، قال الشوكاني : وهذا أقربها وعليه نص الشافعي . انتهى . ولا شك أنهم لم يعدوها من الركون إليهم .

                          ومن مباحث القراءات اللفظية أن بعضهم قرأ تركنوا بضم الكاف ، وهي لغة قيس وتميم ونجد . وبعضهم قرأها وقرأ فتمسكم بكسر تائهما وهي لغة تميم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية