الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( الربا المحرم بنص القرآن والربا المحرم بأحاديث الآحاد والقياس ) التفرقة بين ما ثبت بنص القرآن من الأحكام وما ثبت بروايات الآحاد وأقيسة الفقهاء ضرورية ، فإن من يجحد ما جاء في القرآن يحكم بكفره ، ومن يجحد غيره ينظر في عذره ، فما من إمام مجتهد إلا وقد قال أقوالا مخالفة لبعض الأحاديث الصحيحة ، لأسباب يعذر بها وتبعه الناس على ذلك . ولا يعد أحد ذلك عليهم خروجا عن الدين ، حتى من لا عذر له في التقليد ، فما بالك بمخالفة بعضهم بعضا في الأقوال الاجتهادية التي تختلف فيها أقيستهم .

                          [ ص: 95 ] وقد فشا بين المسلمين أكل الربا مع ذلك الوعيد الذي نطق به القرآن ، وأكثرهم يعتقدون أن لفظ الربا فيه يتناول جميع ما قال فقهاء مذاهبهم أنه منه حتى بيع الحلي من الذهب بجنيهات يزيد وزنها على وزنه لمكان الصنعة في الحلي . وبعض العقود التي يعدها الفقهاء فاسدة أو باطلة ، وإنا نعلم أنه لا يكاد يوجد في عشرات الألوف من المسلمين رجل واحد يتحامى كل ما عده الفقهاء من الربا ، ولعله يندر في الفقهاء أنفسهم من يطبق شراء الحلي للنساء على قواعد الفقه ، كأن يشتري ما كان من الذهب بفضة ، وما كان من الفضة بذهب يدا بيد فيهما ، أو يتخذ لذلك حيلة فقهية فالناس في أشد الحاجة إلى التمييز بين الربا القطعي المتوعد عليه في القرآن الخلود في النار وبين غيره مما اختلف فيه أو كان وعيده دون وعيده ; لأن ضرره دون ضرره وإليك البيان :

                          قد علم مما تقدم في تفسير الآيات أنها نزلت في وقائع كانت للمرابين من المسلمين قبل التحريم ، فالمراد بالربا فيها ما كان معروفا في الجاهلية من ربا النسيئة ، أي ما يؤخذ من المال لأجل الإنساء ، أي التأخير في أجل الدين . فكان يكون للرجل على آخر دين مؤجل يختلف سببه بين أن يكون ثمنا اشتراه منه أو قرضا اقترضه ، فإذا جاء الأجل ولم يكن للمدين مال يفي به ؛ طلب صاحب المال أن ينسئ له في الأجل ويزيد في المال ، وكان يتكرر ذلك حتى يكون أضعافا مضاعفة ، فهذا ما ورد القرآن بتحريمه لم يحرم فيه سواه ، وقد وصفه في آية آل عمران التي جاءت دون غيرها بصيغة النهي وهي قوله - عز وجل - : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة [ 3 :130 ] وهذه أول آية نزلت في تحريم الربا فهو تحريم لربا مخصوص بهذا القيد ، وهو المشهور عندهم .

                          فقوله - تعالى - : الذين يأكلون الربا الآيات ، يحمل الربا فيها على ما سبق ذكره في النهي الأول عملا بقاعدة إعادة المعرفة ووفاقا لقاعدة حمل المطلق على المقيد ، ويدعم ذلك مقابلته بالصدقة حيث ذكر وتسميته ظلما ، وقد أورد ابن جرير - وهو إمام المفسرين وأعلمهم بالرواية - روايات كثيرة في ذلك أشرنا إليها في تفسير الآيات . وهذا النوع من الربا هو أشدهم ضررا وهو مذموم عند كل عاقل ، بل هو ممنوع في قوانين الأمم التي تبيح غيره من أنواع الربا .

                          قال ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) الربا نوعان : جلي وخفي ، فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم ، والخفي حرم ، لأنه ذريعة إلى الجلي ، فتحريم الأول قصدا وتحريم الثاني وسيلة ، فأما الجلي فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية . مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال . وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة عنده آلافا مؤلفة ، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج ، فإذا رأى المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له ، [ ص: 96 ] تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس ، ويدافع من وقت إلى وقت ، فيشتد ضرره وتعظم مصيبته ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له ، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل عليه لأخيه . فيأكل مال أخيه بالباطل ويحصل أخوه على غاية الضرر ، فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه ، وآذن من لم يدعه بحرب الله وحرب رسوله . ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره ، ولهذا كان أكبر الكبائر ، وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا يشك فيه فقال : هو أن يكون له دين فيقول له : أتقتضي أم تربي ؟ فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل ، وقد جعل الله - سبحانه وتعالى - الربا ضد الصدقة ، فالمرابي ضد المتصدق قال الله - تعالى - : يمحق الله الربا ويربي الصدقات وقال : وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون [ 30 :39 ] وقال : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين [ 3 :130 ، 131 ] ثم ذكر الجنة التي أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء [ 3 :134 ] وهؤلاء ضد المرابين . فنهى - سبحانه - عن الربا الذي هو ظلم الناس ، وأمر بالصدقة التي هي إحسان إليهم ، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس عن أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما الربا في النسيئة ومثل هذا يراد به حصر الكمال ، وأن الربا إنما هو النسيئة كما قال : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون [ 8 :2 ] إلى قوله : أولئك هم المؤمنون حقا [ 8 :4 ] وكقول ابن مسعود : " وإنما العالم الذي يخشى الله " انتهى كلام ابن القيم في الربا الجلي الذي لا شك فيه . وأورد بعد ذلك فصلا في ربا الفضل - الذي حرم من باب سد الذرائع - وهو : أن يبيع الدرهم بالدرهمين وذكر خلاف الفقهاء فيه .

                          أقول : فهذا الربا الذي سماه العلامة ابن القيم بالربا الجلي ، وقال الإمام أحمد إنه الربا الذي لا يشك فيه ، المحرم بنص القرآن وحده : هو هو ربا النسيئة الذي كانوا يضاعفونه على الفقير الذي لا يجد وفاء بتوالي الأيام والسنين ، هو هو مخرب البيوت ، ومزيل الرحمة من القلوب ، ومولد العداوة بين الأغنياء والفقراء ، وما معنى حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - الربا فيه إلا بيان ما أراد الله - تعالى - من الربا الذي توعد عليه بأشد الوعيد الذي توعد به على الكفر ، فهل يسمح لعاقل عقله أن يقول : إن تحريم هذا الربا ضار بالناس أو عائق لهم عن إنماء ثروتهم ؟ إذا كانت الثروة لا تنمو إلا بتخريب بيوت المعوزين لإرضاء نهمة الطامعين فلا كان بشر يستحسن إنماء هذه الثروة .

                          [ ص: 97 ] وقد علمت أنه لا يدخل في هذا الربا الذي لا يشك فيه - كما قال الإمام أحمد - شراء أسورة من الذهب بجنيهات تزيد عليها وزنا ، لأن هذه الزيادة في مقابلة صنعة الصانع وقد تكون قيمة الصنعة أعظم من قيمة مادة المصنوع . فإنه لا نسيئة في هذا البيع ، بل ولا ربا لا مقابل له ليكون باطلا ، ولا ضرر فيه على المشتري ولا ظلم ، ولا يدخل فيه أيضا من يعطي آخر مالا يستغله ويجعل له من كسبه حظا معينا ; لأن مخالفة قواعد الفقهاء في جعل الحظ معينا - قل الربح أو كثر - لا يدخل ذلك في الربا الجلي المركب المخرب للبيوت ; لأن هذه المعاملة نافعة للعامل ولصاحب المال معا ، وذلك الربا ضار بواحد بلا ذنب غير الاضطرار ، ونافع لآخر بلا عمل سوى القسوة والطمع ، فلا يمكن أن يكون حكمهما في عدل الله واحدا ، بل لا يقول عادل ولا عاقل من البشر : إن النافع يقاس على الضار ويكون حكمهما واحدا . إن كان شراء ذلك الحلي وهذا التعامل من الربا الخفي الذي يمكن إدخاله في عموم روايات الآحاد في بيع أحد النقدين بالآخر ونحو ذلك فهو محرم لسد الذرائع ، كما قال ابن القيم لا لذاته ، وهو من الربا المشكوك فيه لا من المنصوص عليه في القرآن الذي لا شك فيه فليس لنا أن نكفر منكر حرمته ونحكم بفسخ نكاحه ونحرم دفنه بين المسلمين ، وليتأمل الذين لا يفرقون بين الربا المحرم في القرآن وبين غيره مقدار الحرج إذا حكموا بأن كل من اشترى حلية من الذهب بنقد منه وحلية من الفضة بنقد منها ، وكان النقد غير مساو للحلي في الوزن أو أجمل شيئا من ثمنه فهو كافر إن استحل ذلك ، ومرتكب أكبر الكبائر محارب لله ولرسوله إن كان فعله مع اعتقاد حرمته .

                          ولو كان مثل ذلك من المنصوص الذي لا شك فيه لما وقع فيه خلاف وقد اختلف الصحابة والأئمة ومن بعدهم من الفقهاء في كثير من مسائل الربا . ومن ذلك بيع الحلية فقد أوضح ابن القيم الحجة على جواز بيعها بجنسها من غير اشتراط المساواة في الوزن . ومما قال في ذلك : إن ربا الفضل إنما حرمه الله لسد الذريعة لا لذاته وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة ( راجع ص 203 من الجزء الأول من إعلام الموقعين ) .

                          وممن جوزوا من الصحابة والتابعين ربا الفضل مطلقا عبد الله بن عمر ، ولكن رووا عنه أنه رجع عن ذلك ، وابن عباس ، واختلف في رجوعه ، وأسامة بن زيد وابن الزبير وزيد بن أرقم وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير واستدلوا بحديث الصحيحين المتقدم إنما الربا في النسيئة فلو كان ربا الفضل كربا النسيئة لم يقع هذا الخلاف بين الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - أجمعين .

                          والغرض مما تقدم كله أن نفهم في تفسير القرآن ما حرم القرآن من الربا وتوعد عليه بأشد الوعيد وأن نفهم حكمته وانطباقه على مصلحة البشر وموافقته لرحمة الله - تعالى - بهم ، [ ص: 98 ] وكونه لا حرج فيه ولا ضرر وأما ما ورد في روايات الآحاد وما قاله العلماء والفقهاء مما ليس في القرآن فليس التفسير بموضع لبيانه . وقد تقدم في كلام الأستاذ وكلام حجة الإسلام وكلام العلامة ابن القيم نتف تشعر بحكمة بعضه وليطلب تعليل باقيه من كلام الأخيرين من شاء . والله أعلم وأحكم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية