الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم )

                          [ ص: 117 ] قال الأستاذ : كان الذي تقدم بيانا من الله تعالى لصنفين من الناس لهم في القرآن هداية ولنفوسهم إلى الاهتداء به انبعاث .

                          ( الأول من الصنفين ) : أولئك الذين يبلغهم لأول مرة ، وهم ممن يخشى الله ويهاب سلطانه ، وفي أصول اعتقادهم الإيمان بما وراء الحس على ما تقدم .

                          ( والثاني ) : أولئك الذين آمنوا بما أنزل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل من قبله ( وهذا الصنف قد يجتمع مع الذي قبله فيمن كانوا متقين مؤمنين بالغيب ، ثم آمنوا بالنبي وبما جاء به ، وقد يفترق الصنفان فيمن بقي إلى اليوم ولم تبلغه الدعوة ، وهو على تلك الأوصاف ، ومن الولد من آباء مؤمنين ثم صدق إيمانه بعد أن بلغ رشده وملك عقله ) .

                          أما هاتان الآيتان فقد بينتا حال طائفة ثالثة من الناس ، وهم الكافرون ، ثم يبين قوله تعالى: ( ومن الناس من يقول ) إلخ ، حال طائفة أخرى أخص منها وهم المنافقون الذين يظهر من أقوالهم وفي بعض أفعالهم أنهم مؤمنون ، ولكنهم في حقيقة أمرهم كافرون ، بل شر من الكافرين ( فهذه أقسام أربعة ينقسم إليها الناس إذا بلغهم القرآن ونظروا فيه ، ودعوا إلى الإيمان به والأخذ بهديه ) .

                          بين الله تعالى لنبيه أنه إذا كان يوجد في الناس من لا يؤمن بالقرآن ، فليس هذا عيبا وتقصيرا في هداية الكتاب ، وإنما العيب فيهم لا في الكتاب ؛ لأنه هداية كسائر الهدايات الطبيعية التي أعرض الناس وعموا عنها ( كهداية العقل والسمع والبصر ونحوها مما أكرم الله به هذا النوع البشري ، وقد يحكم الرجل بأن في العمل مضرة تلحق به ، ومع ذلك يعدل عن حكمه انتهازا للذة زينها له حسه أو وهمه ، ويأتي ذلك العمل على ما يعلم من سوء مغبته ، فاحتقار الرجل لعقل نفسه لا يعد عيبا في تلك الموهبة الإلهية ، ولا يحط من شأن النعمة فيها .

                          انظر إلى رجل يغمض عينيه ويمشي في طريق لا يعرفها فيسقط في حفرة وتتحطم عظامه ، هل ينقص ذلك من قدر بصره ، ويبخس من حق الله تعالى في الإحسان به على هذا الذي لم يرد أن يستعمله فيما خلق له ؟ ) ففي الكلام تسلية لأهل الحق ، وسيدهم هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهو تسلية له أولا وبالأولى .

                          قوله تعالى : ( إن الذين كفروا ) أقول : هذا بيان لحال القسم الثاني من أقسام الناس تجاه هداية القرآن ، وقد قطعه وفصله مما قبله ، فلم يعطفه عليه للإشارة إلى ما بينهما من طول شقة الانفصال وعدم المشاركة في شيء ما ، بخلاف القسم الثالث الآتي ، فإن لهم حظا منه في الدنيا ولمن يتوب منهم حظ في الآخرة أيضا .

                          والكفر في اللغة : ستر الشيء وتغطيته وإخفاؤه ، ولذلك وصف به الليل والبحر [ ص: 118 ] والزراع في قوله تعالى : ( كمثل غيث أعجب الكفار نباته ) ( 57 : 20 ) لأنهم يغطون الحب بالتراب - وفعله من باب نصر ، وقال الفارابي وتبعه الجوهري من باب ضرب ، وهو خطأ كما في المصباح - ومن المجاز : كفر النعمة بعدم شكرها وذكرها تنويها بها ، وكذا الكفر بالله أو بوحدانيته وصفاته ، أو كتبه ورسله وما جاءوا به عن الله تعالى ، أي إنكاره وعدم التصديق به والإذعان له ، ولا سيما الشرك في عبادته ، كل ذلك من ضروب الستر والتغطية السلبية في الأمور المعنوية ، فهو مجاز لغة ، وحقيقة شرعية في معناه الشرعي المشار إليه آنفا ، والمراد بالذين كفروا هنا من علم الله تعالى أن الكفر رسخ في قلوبهم حتى فقدوا الاستعداد للإيمان .

                          وقال شيخنا : الكفر هنا عبارة عن جحود ما صرح الكتاب المنزل أنه من عند الله أو جحود الكتاب نفسه ، أو النبي الذي جاء به ، وبالجملة : ما علم من الدين بالضرورة ( بعدما بلغت الجاحد رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - بلاغا صحيحا ، وعرضت عليه الأدلة على صحتها لينظر فيها فأعرض عن شيء من ذلك وجحده عنادا أو تساهلا أو استهزاء ، نعني بذلك أنه لم يستمر في النظر حتى يؤمن ولم نسمع أن أحدا من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - كفر أحدا بما وراء هذا ، فما عداه من الأفاعيل والأقاويل المخالفة لبعض ما أسند إلى الدين ولم يصل العلم بأنه منه إلى حد الضرورة - أي لم يكن سنده قطعيا كسند الكتاب - فلا يعد منكره كافرا إلا إذا قصد بالإنكار تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فمتى كان للمنكر سند من الدين يستند إليه فلا يكفر ( وإن ضعفت شبهته في الاستناد إليه ما دام صادق النية فيما يعتقد ، ولم يستهن بشيء مما ثبت بالقطع وروده عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ) .

                          وقد تجرأ بعض المتأخرين على تكفير من يتأول بعض الظنيات ، أو يخالف شيئا مما سبق الاجتهاد فيه ، أو ينكر بعض المسائل الخلافية ، فجرءوا الناس على هذا الأمر العظيم ، حتى صاروا يكفرون من يخالفهم في بعض العادات ، وإن كانت من البدع المحظورات ( ثم هم على عقائد الكافرين ، وأخلاق المنافقين ، ويعملون أعمال المشركين ، ويصفون أنفسهم بالمؤمنين الصادقين ) .

                          الكافرون أقسام :

                          ( منهم ) من يعرف الحق وينكره عنادا ، وهؤلاء هم الأقلون ولا ثبات لهم ولا قوام ، وكان منهم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من المشركين واليهود لم يلبثوا أن انقرضوا .

                          قال الأستاذ : كنت قلت في هذا المعنى كلمة جديرة بأن تحفظ وهي : " إن جحود الحق مع العلم به كاليقين في العلم ، كلاهما قليل في الناس " .

                          [ ص: 119 ] ( ومنهم ) من لا يعرف الحق ولا يريد ولا يحب أن يعرفه ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم : ( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) ( 8 : 22 - 23 ) فهؤلاء كلما صاح بهم صائح الحق فزعوا ونفروا ، وأعرضوا واستكبروا ، ففي أنفسهم شعور بالحق ولكنهم يجدون فيها زلزلة ، كلما لاح لهم شعاعه يحجبونه عن أعينهم بأيديهم ، وسبب ذلك : أنهم لم يستعملوا أنظارهم في فهم الحق ، ويخافون لو استعملوها أن ينقصهم شيء مما يظنونه خيرا ، ويتوهمونه معقودا بعقائدهم التي وجدوا عليها آباءهم وساداتهم .

                          ( ومنهم ) : من مرضت نفسه واعتل وجدانه فلا يذوق للحق لذة ، ولا تجد نفسه فيه رغبة ، بل انصرف عنه إلى هموم أخر ملكت قلبه وأسرت فؤاده ، كالهموم التي غلبت أغلب الناس اليوم على دينهم وعقولهم ، وهي ما استغرقت كل ما توفر لديهم من عقل وإدراك ، واستنفدت كل ما يملكون من حول وقوة في سبيل كسب مال أو توفير لذة جسمانية ، أو قضاء شهوة وهمية ، فعمي عليهم كل سبيل سوى سبل ما استهلكوا فيه ، فإذا عرض عليهم حق ، أو ناداهم إليه مناد ، رأيتهم لا يفهمون ما يقول الداعي ، ولا يميزون بين ما يدعو إليه وبين ما هم عليه ، فيكون حظ الحق منهم الاستهزاء والاستهانة بأمره ، فإذا وعدهم أو أوعدهم النذير ، قالوا : لا نصدق ولا نكذب حتى ننتهي إلى ذلك المصير ، وهذا القسم كالذي قبله كثير العدد في الناس في كل زمان ومكان ، وخصوصا في الأمم التي يفشو فيها الجهل ، وتنطمس من أفرادها أعين الفطرة ، وتنضب من أنفسهم ينابيع الفضائل ، فيصبحون كالبهائم السائمة ، لا هم لهم إلا فيما يملأ بطونهم أو يداعب أوهامهم ، ويصح جمع هذين القسمين تحت قسم واحد ، وهو قسم المعرضين الجاحدين الجاهلين ، والقسم الأول هو قسم المعاندين المكابرين .

                          فكل من هذه الفرق : ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) الإنذار : الإخبار والإعلام بالشيء المقترن بالتخويف مما يترتب عليه من فعل يتضمن ذمه وطلب تركه ، أو ترك لأمر يتضمن مدحه وطلب فعله نصا أو اقتضاء ، والسواء : اسم مصدر بمعنى الاستواء ، والمعنى : أن الذين كفروا ولم يدخلوا في قسم المستعدين للإيمان لرسوخهم في الكفر ، يستوي [ ص: 120 ] الإنذار وعدمه بالنسبة إليهم في الواقع ، فالذي يعرض عن النور مع العلم به ويغمض عينيه كيلا يراه بغضا له لذاته أو تأذيا به ، أو عنادا وعداوة لمن دعاه إليه ماذا يفيده النور ؟

                          وماذا يعيب النور من إعراضه ؟ والذي لا يعرف النور ولا يحب أن يعرفه ؛ لأن فساد طبيعته وخبث تربيته أنآه عنه وأبعده ، وجعله يألف الظلمة كالخفاش ( أو أفسد الجهل وجدانه فأصبح لا يميز بين نور وظلمة ، ولا بين نافع وضار ، ولا بين لذيذ ومؤلم ، ماذا عساه يفيده النور مهما سطع أو يؤثر فيه الضوء مهما ارتفع ؟ ) .

                          ( لا يؤمنون ) أقول : هذه جملة مفسرة لتساوي الإنذار وعدمه في حقهم لا في حقه - صلى الله عليه وسلم - وحق دعاة دينه ، فهم يدعون كل كافر إلى دين الله الحق ، لأنهم لا يميزون بين المستعد للإيمان وغير المستعد له إذ هو أمر لا يعلمه إلا الله تعالى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية