الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا .

                          [ ص: 117 ] خاطبهم في هذه الآية بالذين أوتوا الكتاب كما تقدم آنفا في تفسير أوتوا نصيبا من الكتاب ، فذاك نعي عليهم بما أضاعوا وحرفوا ، وهذا إلزام بما حفظوا وعرفوا ، يقول : يا أيها الذين أوتوا الكتاب الإلهي أي جنسه على ألسنة أنبيائهم أو التوراة خاصة آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم منه من تقرير التوحيد الخالص واتقاء الشرك كله صغيره وكبيره ، وإثبات النبوة والرسالة ، وما يغذي ذلك الإيمان ويقويه من ترك الفواحش والمنكرات وعمل الصالحات ، أي : مصدقا لما معكم من أصول الدين وأركانه التي هي المقصد من إرسال جميع الرسل ، لا يختلفون فيها وإنما يختلفون في طرق حمل الناس عليها وهدايتهم بها وترقيتهم في معارجها بحسب سنة الله في ارتقاء البشر بالتدريج جيلا بعد جيل ، وقرنا بعد قرن ، كما أن العدل هو المقصد من جميع الحكومات ، وإنما تختلف الدول في القوانين المقررة له باختلاف أحوال الأمم ، فليس من العقل ولا الصواب أن تنكر الأمة تغيير حاكم جديد لبعض ما كان عليه من قبله إذا كان يوافقه في جعله مقررا للعدل مقيما لميزانه بين الناس كما كان أو أكمل ، وفي هذه الحال يسمى مصدقا لما قبله لا مكذبا ولا مخالفا ، فالقرآن قرر نبوة موسى وداود وسليمان وعيسى وصدقهم فيما جاءوا به عن الله تعالى ، ووبخ الأقوام المدعين لأتباعهم على إضاعتهم لبعض ما جاءوا به وتحريفهم للبعض الآخر ، وعلى عدم الاهتداء والعمل بما هو محفوظ عندهم ، حتى إن أكثرهم هدموا الأساس الأعظم للدين وهو التوحيد فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا كما سيأتي في سورة التوبة ، ويذكر أيضا في تفسير الآية الآتية ، فتصديق القرآن لما معهم لا ينافي ما نعاه عليهم من الإضاعة والنسيان والتحريف والتفريط .

                          من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أي : آمنوا من قبل أن ننزل بكم هذا العقاب ، وهو طمس الوجوه وردها على أدبارها ، فالطمس في اللغة : هو إزالة الأثر بمحوه ، أو خفائه كما تطمس آثار الدار ، وأعلام الطرق بنقل حجارتها أو بالرمال تسفوها الرياح عليها ، ومنه : ربنا اطمس على أموالهم ( 10 : 88 ) ، أي : أزلها وأهلكها ، والطمس على الأعين في قوله : ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ( 36 : 66 ) ، يصدق بإزالة نورها وبغؤرها ومحو حدقتها ، وكذلك طمس النجوم ، والوجه يطلق على وجه البدن ووجه النفس ، وهو ما تتوجه إليه من المقاصد ، ومنه : أسلمت وجهي لله ( 3 : 20 ) ، وقوله : ومن يسلم وجهه إلى الله ( 31 : 22 ) ، وقوله : فأقم وجهك للدين حنيفا ( 30 : 30 ) ، والأدبار : جمع دبر ـ بضمتين ـ وهو الخلف والقفا ، والارتداد على الأدبار هو الرجوع إلى الوراء ، يستعمل في الحسيات والمعنويات ، فمن الأول الارتداد على الأدبار في القتال وهو الفرار منه .

                          ومن الثاني : إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ( 47 : 25 ) ، [ ص: 118 ] فظاهر معنى العبارة هنا : آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم إليها في كيد الإسلام ، ونردها خاسئة حاسرة إلى الوراء بإظهار الإسلام ونصره عليكم وفضيحتكم فيما تأتونه باسم الدين والعلم الذي جاء به الأنبياء ، وقد كان لهم عند نزول الآية شيء من المكانة والمعرفة والقوة ، فهذا ما نفسرها به على جعل الطمس والرد على الأدبار معنويين ، وبه قال مجاهد ، ولكن أوجز فقال : نطمس وجوها عن صراط الحق فنردها على أدبارها في الضلالة ، وقال السدي : نزلت في مالك بن الصيف ، ورفاعة بن زيد بن التابوت من بني قينقاع ، قال : ومعناه فنعميها عن الحق ونرجعها كفارا ، وقال الضحاك : يعني أن نردهم عن الهدى والبصيرة ، فقد ردهم على أدبارهم فكفروا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما جاء به ، وظاهر كلام هؤلاء : أن المخاطبين بهذه الآية هم الذين كانوا على ما يعتقدون أنه الحق من التوراة ، وأنهم كانوا معذورين عند الله فيما هم عليه كأنهم الذين قال فيهم : ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ( 7 : 159 ) ، فحذرهم من إرجاء الإيمان والتسويف به أن يطول عليهم العهد ، فيصعب عليهم الإيمان ، ويضعف استعدادهم لقبوله بتعلق قومهم بهم وغرورهم بجاههم فيه .

                          وجعل ذلك بعضهم حسيا ظاهريا فقال : المعنى نطمس آثارهم من الحجاز ونردهم على أدبارهم بالجلاء إلى فلسطين والشام ، وهي بلادهم التي جاءوا الحجاز منها ، ورواه ابن زيد عن أبيه ، وروي عن ابن عباس أن المراد جعل وجوههم في أقفيتهم ، وفهم من رواه عنه أنه تهديد بالمسخ ، وقالوا : إنه يكون في آخر الزمان أو في الآخرة أو هو مقيد بعدم إيمان أحد من أولئك المخاطبين وقد آمن بعضهم ، والوجه الذي قررناه أولا هو الذي اختاره الأستاذ الإمام في الدرس ، فقال : طمس الوجه أن يعرض له ما يغطيه فيمنع صاحبه أن يتوجه إلى مقصده ، ومتى بطل التوجه الصحيح إلى المقصد امتنع السعي إليه المؤدي إلى الوصول ، وذلك هو الخذلان والخيبة ، أي : آمنوا قبل أن نعمي عليكم السبيل بما نبصر المؤمنين بشئونكم ونغريهم بكم فتردوا على أدباركم بأن يكون سعيكم إلى غير خيركم .

                          وأورد الرازي وجوها أخرى ، منها أن المراد بالوجوه الرؤساء أي : قبل أن نزيل وجاهتهم وعزهم ، ومنها أن المراد بطمس الوجوه تقبيح صورتها كما يقال : طمس الله وجهه وقبح الله وجهه بمعنى تقبيح صورتها ، يعني أن ذلك يكون بما يلاقونه من الذل والكآبة يغلبون على أمرهم .

                          أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت قال بعضهم : إنه هددهم بالطمس ، أو اللعن وهو الطرد والإذلال المعنوي ، ثم أنفذ الثاني أي : على قول من جعل الطمس بمعنى المسخ ، وأما من جعله بمعنى الخذلان أو الإخراج من المدينة وجوارها إلى الشام ، فيقول : إن الأول قد حصل [ ص: 119 ] حتما ولا نزاع في ذلك ، وقال الأستاذ الإمام : ورد أهل السبت أن الله أهلكهم ، فمعنى اللعنة هنا الإهلاك بقرينة التشبيه وبه صرح أبو مسلم ، ويحتمل أن يكون معنى اللعن هنا عذاب الآخرة ، والمعنى : آمنوا قبل أن تقعوا في إحدى الهاويتين : الخيبة والخذلان ، وفساد الأمر وذهاب العزة باستيلاء المؤمنين عليكم ـ وقد كان ذلك في طائفة منهم أجلوا من ديارهم وخذلوا في كل أمرهم ـ أو الهلاك وقد وقع بقتل طائفة أخرى وهلاكها وكان أمر الله مفعولا أي : واقعا ، أي : شأنه أن يفعل حتما ، والمراد هنا أمر التكوين المعبر عنه بقوله عز وجل : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ( 36 : 82 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية