الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          لما كان اعتداء قوم على قوم لا يحصل إلا بالتعاون ; قفى على النهي عن الاعتداء بقوله : وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان البر : التوسع في فعل الخير ، قاله الراغب ، وسيأتي تحقيقه ( والتقوى ) : اتقاء كل ما يضر صاحبه في دينه أو دنياه فعلا أو تركا ( والإثم ) : فسره الراغب بأنه كالأثام ، اسم للأفعال المبطئة عن الثواب ، وجمعه آثام ، والآثم متحمل الإثم وفاعله ، ثم صار الإثم يطلق على كل ذنب ومعصية ، والعدوان تجاوز حدود الشرع والعرف في المعاملة ، والخروج عن العدل فيها ، وفي الحديث البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في النفس ، وكرهت أن يطلع عليه الناس رواه مسلم وأصحاب السنن عن النواس بن سمعان رضي الله عنه ، وروى أحمد والدارمي ، وحسنه النووي في الأربعين عن وابصة بن معبد الجهني رضي الله عنه أنه قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : جئت تسأل عن البر وفي رواية " جئت تسأل عن البر والإثم " قلت : نعم ، وكان قد جاء لأجل ذلك ، فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بما في نفسه وأجابه عنه ، فقال : " استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس ، وتردد في الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك " وليس هذا تفسيرا للبر والإثم بالمعنى الشرعي ولا اللغوي ، وإنما هو بيان لما يطلبه السائل من الفرقان بين ما يشتبه من البر والإثم ; فيشك الإنسان هل هو منهما أم لا ، فأحاله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك على ضميره ووجدانه ، وأرشده إلى الأخذ بالاحتياط الذي تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب ، وإن خالف فتوى المفتين الذين يراعون الظواهر دون دقائق الاحتياط الخفية ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يجيب كل سائل بحسب حالته .

                          [ ص: 108 ] كان الصحابة ، وسائر العرب يفهمون معنى البر ، وإنما كان القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم - يبينان لهم خصال البر وأعماله وآياته ، وما قد يغلطون في عده منه ، ولذلك قال الله تعالى : وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى ( 2 : 189 ) وكانوا في الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها إذا كانوا محرمين بالحج ، ويعدون هذا من النسك والبر ، وقال تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ( 2 : 177 ) فهذا بيان لأهم أركان البر في الدين ; من الإيمان والعبادات البدنية والمالية والأخلاق ، وقال تعالى : وتناجوا بالبر والتقوى ( 58 : 9 ) .

                          فمجموع ما ورد في البر مصداق لما فسره به الراغب من أنه التوسع في فعل الخير إذا أريد به ما يشمل الأفعال النفسية والأخلاق الحسنة باعتبار ما ينشأ عنها من الأعمال . وقد قال : إنه مشتق من ( البر ) بالفتح الذي هو مقابل البحر بتصور سعته ، وإلا قلنا : إن البر اسم لمجموع ما يتقرب به إلى الله تعالى ; من الإيمان والأخلاق والآداب والأعمال ، وكل واحد منها يعد خصلة أو شعبة من البر .

                          أما الأمر بالتعاون على البر والتقوى فهو من أركان الهداية الاجتماعية في القرآن ; لأنه يوجب على الناس إيجابا دينيا أن يعين بعضهم بعضا على كل عمل من أعمال البر التي تنفع الناس أفرادا وأقواما في دينهم ودنياهم ، وكل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم ، فجمع بذلك بين التحلية والتخلية ، ولكنه قدم التحلية بالبر ، وأكد هذا الأمر بالنهي عن ضده ; وهو التعاون على الإثم بالمعاصي وكل ما يعوق عن البر والخير ، وعلى العدوان الذي يغري الناس بعضهم ببعض ، ويجعلهم أعداء متباغضين يتربص بعضهم الدوائر ببعض .

                          كان المسلمون في الصدر الأول جماعة واحدة ; يتعاونون على البر والتقوى عن غير ارتباط بعهد ونظام بشري ، كما هو شأن الجمعيات اليوم ، فإن عهد الله وميثاقه كان مغنيا لهم عن غيره ، وقد شهد الله - تعالى - لهم بقوله : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ( 3 : 110 ) ولما انتثر بأيدي الخلف ذلك العقد ونكث ذلك العهد ، صرنا محتاجين إلى تأليف جمعيات خاصة بنظام خاص لأجل جمع طوائف من المسلمين وحملهم على إقامة هذا الواجب : التعاون على البر والتقوى في أي ركن من أركانه أو عمل [ ص: 109 ] من أعماله ، وقلما ترى أحدا في هذا العصر يعينك على عمل من البر ، ما لم يكن مرتبطا معك في جمعية ألفت لعمل معين ، بل لا يفي لك بهذا كل من يعاهدك على الوفاء ، فهل ترجو أن يعينك على غير ما عاهدك عليه ؟ فالذي يظهر أن تأليف الجمعيات في هذا العصر ، مما يتوقف عليه امتثال هذا الأمر ، وإقامة هذا الواجب ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، كما قال العلماء ، فلا بد لنا من تأليف الجمعيات الدينية والخيرية والعلمية ، إذا كنا نريد أن نحيا حياة عزيزة ، فعلى أهل الغيرة والنجدة من المسلمين أن يعنوا بهذا كل العناية ، وإن رأوا كتب التفسير لم تعن بتفسير هذه الآية ، ولم تبين لهم أنها داعية لهم إلى أقوم الطرق وأقصدها لإصلاح شأنهم في أمر دينهم ودنياهم .

                          اللهم إنك تعلم أننا عنينا بتأليف جماعة يراد بها إقامة جميع ما تحب من البر والتقوى ، وإصلاح أمر المسلمين في الدين والدنيا ، وهي جماعة الدعوة والإرشاد ، اللهم أيد من أيدها وأعن المتعاونين على أعمالها ، واخذل من ثبط عنها ، إنك أنت العزيز القادر ، القوي القاهر ، العليم بما في السرائر .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية