الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 177 ] ( مذهب أحمد وأصحابه في طعام أهل الكتاب والتسمية على الذبيحة ) قال الشيخ الموفق عبد الله بن قدامة في ( المقنع ص 531 ج2 ) ما نصه : " ويشترط للذكاة شروط أربعة ; أحدها : أهلية الذابح ، وهو أن يكون عاقلا مسلما أو كتابيا ; فتباح ذبيحته ذكرا أو أنثى ، وعنه لا تباح ذبيحة نصارى بني تغلب ، ولا من أحد أبويه غير كتابي " .

                          وذكر في حاشيته أن الصحيح من المذهب إباحة ذبيحة بني تغلب ، قال : " وأما من أحد أبويه غير كتابي فقدم المصنف أنها تباح ، وبه قال مالك ، وأبو ثور ، واختاره الشيخ تقي الدين ، وابن القيم ، والثانية لا تباح ، وهو المذهب وبه قال الشافعي ; لأنه وجد ما يقتضي الإباحة والتحريم ، فغلب التحريم ، كما لو جرحه - أي الصيد - مسلم ومجوسي " . انتهى .

                          أقول : " وللشافعي قول آخر ، هو أن العبرة بالأب ، وكان اللائق بقول الشافعية أن الولد يتبع أشرف الأبوين في الدين أن يجعلوا ذبح الصغير كذبح أشرف والديه ، وأما البالغ فلا وجه للبحث عن أبويه ; فإنه إذا كان كتابيا كان داخلا في عموم الآية .

                          ثم قال ( في ص 537 ) منه : " وإذا ذبح الكتابي ما يحرم عليه ; كذي الظفر - أي عند اليهود - لم يحرم علينا ، وإن ذبح حيوانا غيره لم تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم ، وهو شحم الثرب ، أي الكرش والكليتين ، في ظاهر كلام أحمد ، رحمه الله ، واختاره ابن حامد وحكاه عن الخرقي في كلام مفرد ، واختار أبو الحسن التميمي والقاضي تحريمه ، وإن ذبح لعيده أو ليتقرب به إلى شيء ما يعظمونه ، لم يحرم . نص عليه " انتهى ، أي نص عليه الإمام أحمد وهو المذهب ، وإن روي عنه التحريم ، وهو موافق فيه لمذهب مالك ، رحمهم الله تعالى .

                          وقال ( في ص 535 منه ) : الرابع ، أي من شروط التذكية : أن يذكر اسم الله عند الذبح ، وهو أن يقول : بسم الله ، لا يقوم مقامها غيرها ، إلا الأخرس فإنه يومئ إلى السماء ، فإن ترك التسمية عمدا لم تبح ، وإن تركها ساهيا أبيحت ، وعنه تباح في الحالين ، وعنه لا تباح فيهما .

                          قال في حاشيته : " قوله فإن ترك التسمية عمدا . . . إلخ . هذا هو المذهب فيهما ، وذكره ابن جرير إجماعا في سقوطها سهوا ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وبه قال مالك ، والثوري وأبو حنيفة وإسحاق ، وممن أباح ما نسيت التسمية عليه عطاء وطاوس وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد ، وعن أحمد تباح في الحالين ، وبه قال الشافعي ، واختاره أبو بكر لحديث البراء مرفوعا المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم وحديث أبي هريرة أنه سئل ، فقيل : أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله ؟ فقال : [ ص: 178 ] : اسم الله في قلب كل مسلم . رواه ابن عدي والدارقطني والبيهقي وضعفه .

                          ولنا ما روى الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد مرفوعا ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم ، ما لم يتعمد رواه سعيد وعبد بن حميد . لكن الأحوص ضعيف . وعن أحمد لا تباح ، وإن لم يتعمد ; لقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ( 6 : 121 ) وجوابه أنها محمولة على ما إذا ترك اسم التسمية عمدا ، بدليل قوله : وإنه لفسق ( 6 : 121 ) والأكل مما نسيت التسمية عليه ليس بفسق لقوله عليه السلام : عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان انتهى .

                          أقول : من عجائب انتصار الإنسان لما يختاره جعل الفسق هنا بمعنى ترك التسمية عمدا ، والظاهر فيه ما قاله الشافعية من أنه ما أهل لغير الله به ، أخذا من قوله تعالى : أو فسقا أهل لغير الله به وقد تقدم .

                          وفي الباب من كتاب بلوغ المرام للحافظ ابن حجر ، ما نصه : وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المسلم يكفيه اسمه ، فإن نسي أن يسمي الله حين يذبح فليسم ثم ليأكل . أخرجه الدارقطني ، وفيه راو في حفظه ضعف ، وفي إسناده محمد بن يزيد بن سنان ، وهو صدوق ضعيف الحفظ ، وأخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس موقوفا عليه ، وله شاهد عند أبي داود في مراسيله بلفظ : ذبيحة المسلم حلال ذكر الله عليها أم لم يذكر ورجاله موثقون . انتهى .

                          وتقدم حديث عائشة عند البخاري ، قالت : إن قوما يأتون باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ، فقال صلى الله عليه وسلم : سموا الله عليه أنتم وكلوه . انتهى .

                          وقد جعل علماء الأزهر الفصل الأول من كتاب ( إرشاد الأمة الإسلامية ) الذي تقدم ذكره في بيان مذهب الحنابلة في الذبيحة التي أفتى بها مفتي مصر ، قالوا : " ذهب الحنابلة إلى أن المعتبر في حل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ، أن تذكى وفيها حياة وإن قلت كالمريضة ، وهو قول علي وابن عباس والحسن وقتادة والسيدين : الباقر والصادق ، وإبراهيم وطاوس والضحاك وابن زيد ، والتسمية عندهم ليست بشرط ; فيحل متروك التسمية عمدا أو سهوا ، من مسلم أو كتابي على رواية ، وفي رواية عن أحمد تشترط من مسلم لا من كتابي ، وعنه عكسها ، ثم أيدوا هذه الخلاصة بنقل من كتاب ( دقائق أولي النهى على متن المنتهى ) ومن غيره .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية