الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) الحرب ضد السلم ، وليس مرادفا للقتال ، بل أعم ، كما حققناه في تفسير آية المحاربة من هذه السورة ، فهو يصدق بالإخلال بالأمن ، والنهب والسلب ، ولو بغير قتل ، ويصدق بتهييج الفتن ، والإغراء بالقتال . خص مجاهد الحرب هنا بحربهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، والحسن : باجتماع السفلة من الأقوام على قتل العرب . وقال السدي في تفسير الجملة : كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرقه الله وأطفأ حدهم ونارهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، وفسره الربيع بما كان من مفاسدهم الماضية التي أغرت بها البابليين والروم قبل النصرانية وبعدها ، ثم المسلمين ، كأنه يرى أن إيقادهم لنار الحرب هو تلبسهم بالأعمال التي هي سبب لها ، وإن لم يريدوها بها ، والمراد أن الله تعالى يخذلهم في كل ما يكيدون به لرسوله وللمؤمنين الصادقين ، فإما أن يخيبوا ، ولا يتم لهم ما يسعون إليه من الإغراء والتحريض ، وإما أن ينصر الله رسوله والمؤمنين ، وكذلك كان ، وصدق الله وعده ، وأعز جنده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده .

                          وجعل بعض المفسرين ذلك عاما ، عملا بظاهر اللفظ ، دون السياق والقرينة والأسباب والعلل ، فقال الزمخشري في تفسيره : كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ، ولم يقم لهم نصر من الله على أحد قط - ثم قال - وقيل كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم ، انتهى . وما اخترناه أظهر .

                          ومن المفصل في السيرة النبوية أن اليهود كانوا يغرون المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وكان منهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم ، ومنهم من كان يقطع الطريق على المؤمنين ، ويئوي أعداءهم ويساعدهم ; ككعب بن الأشرف .

                          وكل ما كان من مقاومة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كان سببه الحسد والعصبية ، وتوقع الأحبار والرؤساء إزالة الإسلام لما كان لهم من الامتياز بين العرب في الحجاز ، من مكانة العلم والمعرفة ; إذ كان المشركون يحترمونهم لكونهم أهل كتاب وعلم ، وإن [ ص: 380 ] لم يدينوا بدينهم ، فكانت عداوتهم للمسلمين عداوة سياسية جنسية ، ليست من طبيعة الدين ولا من روحه ; ولذلك كان ضلع اليهود مع المسلمين في الشام والأندلس لما رأوا عند مسلمي العرب من العدل المزيل لما كان عليه الروم والقوط من الجور عليهم والظلم ، وكذلك كانت عداوة النصارى للمسلمين في الصدر الأول للإسلام سياسية ; ولذلك كانت على أشدها بينهم وبين الروم ( الرومان ) المستعمرين للبلاد المجاورة للحجاز ; كالشام ومصر ، وكان نصارى البلاد أقرب إلى الميل للمسلمين بعد ما وثقوا بعدلهم لما كانوا يقاسون من ظلم الروم على كونهم من أهل دينهم ، وهذا شأن الناس في العداوة والمودة أبدا ؛ يتبعون في ذلك مصالحهم ومنافعهم ، فلا ينبغي أن يجعل ما ذكر وصفا ذاتيا لهم أو لدينهم ، ولينتظر القارئ شهادة الله تعالى للنصارى بكونهم أقرب مودة للمؤمنين بعد آيات قليلة ، فتحتم أن العداوة من السياسة لا من الدين .

                          ( ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ) أي إنهم لم يكونوا فيما يأتونه ، أو على ما يأتونه من عداوة النبي والمؤمنين ، وإيقاد نيران الحرب والفتن والقتال ، مصلحين للأخلاق والأعمال ، أو لشئون الاجتماع والعمران ، بل كانوا يسعون في الأرض سعي فساد ، أو لأجل الفساد ، بمحاولة منع اجتماع كلمة العرب ، وخروجهم من الأمية إلى العلم ، ومن الوثنية إلى التوحيد ، وبالكيد للمؤمنين ، وتشكيكهم في الدين ; حسدا لهم ، وحبا في دوام امتيازهم عليهم ، والله لا يحب المفسدين في الأرض ، فلا يصلح عملهم ، ولا ينجح سعيهم ; لأنهم مضادون لحكمته في صلاح الناس وعمران البلاد .

                          والدليل على صحة هذا أن الله أبطل كل ما كاده أولئك الأقوام للنبي صلى الله عليه وسلم وللعرب والإسلام ، وإن العرب لما اجتمعت كلمتها ، وصلحت حالها بالإسلام أصلحوا بين الناس ، وعمروا الأرض في كل بلاد كان لهم فيها سلطان ، وأما غيرهم فكانوا مفسدين بالظلم ، ومخربين للبلاد . فالإسلام يأمر بالصلاح والإصلاح على أكمل وجه ، وهو ما يحبه الله تعالى ، فلما قام المسلمون به حق القيام ، أيدهم ونصرهم على جميع من ناوأهم من الأقوام ، وكذلك التوراة والإنجيل ما أنزلت إلا لهداية الناس إلى الصلاح والإصلاح ؛ وإنما كان أهلها مفسدين في ذلك العصر ; لأنهم تركوا هدايتهما ، كما هو شأن جماهير المسلمين في هذا العصر ، تركوا هداية القرآن ، وأعرضوا عما أرشد إليه من الصلاح والإصلاح ، فزال ملكهم ، وسلط الله عليهم غيرهم ، وقس جزاء الآخرة على جزاء الدنيا ، فكل منهما مرتب بحسب حكمة الله تعالى على صلاح النفوس ، والإصلاح في الأعمال ، وبناء على هذه الحقيقة ، قال :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية