الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          لا شيء في الشرع يخالف القياس الصحيح :

                          ثم شرع ابن القيم في بيان كون جميع أحكام الشريعة موافقة للقياس الصحيح الموافق للعدل والعقل فقال :

                          ( الفصل الثاني ) في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس ، وأن ما يظن مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه ولا بد إما أن يكون القياس فاسدا أو يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع . وسألت شيخنا قدس الله روحه عما يقع في كلام [ ص: 149 ] كثير من الفقهاء من قولهم : هذا خلاف القياس لما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم ، وربما كان مجمعا عليه كقولهم : طهارة الماء إذا وقعت فيه نجاسة خلاف القياس ، وتطهير النجاسة على خلاف القياس ، والوضوء من لحوم الإبل والفطر بالحجامة والسلم والإجارة والحوالة والكتابة والمضاربة والمزارعة والمساقاة وصحة صوم الآكل الناسي والمضي في الحج الفاسد كل ذلك على خلاف القياس ، فهل ذلك صواب أم لا ؟ فقال : ليس في الشريعة ما يخالف القياس . وأنا أذكر ما حصلته من جوابه بخطه ولفظه وما فتح الله سبحانه لي بيمن إرشاده وبركة تعليمه وحسن بيانه وتفهيمه .

                          " إن أصل هذا أن تعلم أن لفظ القياس لفظ مجمل يدخل فيه القياس الصحيح والفاسد . والصحيح هو الذي وردت به الشريعة ، وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين ، فالأول قياس الطرد والثاني قياس العكس ، وهو من العدل الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم . فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها ، ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه قط ، وكذلك القياس بإلغاء الفارق ، وهو ألا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الشرع ، فمثل هذا القياس أيضا لا تأتي الشريعة بخلافه ، وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأحكام بحكم يفارق به نظائره فلا بد أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته بغيره ، ولكن الوصف الذي اختص به ذلك النوع قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر ، وليس من شرط القياس الصحيح أن يعلم صحته كل أحد . فمن رأى شيئا من الشريعة مخالفا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه . ليس مخالفا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر ، وحيث علمنا أن النص بخلاف قياس علمنا قطعا أنه قياس فاسد ، بمعنى أن صورة النص امتازت عن تلك الصور التي يظن أنها مثلها بوصف أوجب تخصيص الشارع لها بذلك الحكم ، فليس في الشريعة ما يخالف قياسا صحيحا ، ولكن يخالف القياس الفاسد وإن كان بعض الناس لا يعلم فساده ، ونحن نبين ذلك فيما ذكر في السؤال " انتهى المراد منه .

                          ( أقول ) : ثم إنه بعد هذا بين خطأ من قال : إن تلك المسائل جاءت على خلاف القياس بيانا كافيا شافيا في عدة فصول ظهر به بطلان كثير من كلام فقهاء القياس وأصولهم وقواعدهم ، وتضمن ذلك فوائد نفيسة ، منها انعقاد العقود بأي لفظ عرف به المتعاقدان مقصودهما ، وأن الشارع لم يحد لألفاظ العقود حدا ، لا النكاح ولا غيره وأن الكناية مع القرينة كالصريح ، ومنها بيان أنواع المعاملات المالية ، وبطلان كثير من الشروط التي اشترطها فقهاء القياس فيها ، ومنه يعلم يسر الشريعة وسعتها وموافقتها للعدل والعقل . [ ص: 150 ] ثم أورد بعد هذا ما استشكله نفاة الحكمة والتعليل والقياس من تفريق الشريعة بين المتماثلين وجمعها بين المختلفين في عدة مسائل كثيرا ما يذكرونها ، كفرض الغسل من المني الطاهر دون البول النجس وما في حكمه ، وكذا إبطال الصيام بالاستمناء ، ونضح الثوب من بول الغلام وغسله من بول الجارية ، وقصر الصلاة الرباعية دون غيرها ، وإيجاب إعادة الصيام على الحائض دون الصلاة ، وتحريم النظر إلى الحرة ولو عجوزا شوهاء دون الأمة ولو شابة حسناء ، وقطع يد سارق ربع دينار دون مغتصب ألف دينار مع جعل دية اليد خمسمائة دينار إلى غير ذلك من المسائل الكثيرة في العبادات والمعاملات المالية والزوجية وفي العقوبات ، ولعله استوفى كل ما بلغه من المسائل التي زعم بعض الناس أنها على خلاف القياس والعقل .

                          ثم أجاب عن ذلك كله بالإسهاب الذي لا يكاد يوجد مثله في غير هذا الكتاب . وفي جوابه أو أجوبته هذه من حكم الشريعة وأسرارها وبيان موافقتها للعقل ومصالح البشر ومن خطأ غلاة القياسيين ما لا يستغني عنه أحد من طلاب علم الشرع والتفقه في الدين .

                          نذكر من تلك المسائل مسألة واحدة على سبيل النموذج ، وهي الجواب عن قول منكري القياس : إن الشارع حرم بيع مد حنطة بمد وحفنة ، وجوز بيعه بقفيز من شعير ، فهذا تفريق بين المتماثلين مخالف للقياس والعقل عندهم . وقد أطال في رد هذا بما بين به حكمة تحريم الربا في النقدين والبر والشعير والتمر والملح التي ورد بها الحديث . فنلخص ذلك بجمل وجيزة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية