الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( قال الله إني منزلها عليكم ) قرأ ابن عامر وعاصم ونافع منزلها بالتشديد من التنزيل المفيد للتكثير أو التدريج ، والباقون منزلها بالتخفيف من الإنزال ، وقيل : إنهما هنا بمعنى واحد ، أي وعد الله عيسى بتنزيلها عليهم مرة أو مرارا ، ولكنه رتب على هذا الوعد شرطا أي شرط . فقال : ( فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، مثل ( إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر ) ( 108 : 1 ، 2 ) والمعنى أن من يكفر منهم بعد هذه الآية التي اقترحوها على الوجه الذي لا يحتمل الاشتباه ولا التأويل ، فإن الله تعالى يعذبه عذابا شديدا لا يعذب مثله أحدا من سائر كفار العالمين كلهم أو عالمي أمتهم الذين لم يعطوا مثل هذه الآية ، وإنما يعاقب الخاطئ والكافر بقدر تأثير الخطيئة أو الكفر ، والبعد فيه عن الشبهة والعذر ، وما أعطي من موجبات الشكر ، وأي شبهة أو عذر لمن يرى الآيات من رسوله ثم يقترح آية بينة على وجه مخصوص تشترك في العلم بها جميع حواسه ، وينتفع بها في دنياه قبل آخرته فيعطى ما طلب أو خيرا منه ثم ينكص بعد ذلك كله على عقبيه ويكون من الكافرين .

                          وقد اختلف مفسرو السلف في المائدة ، أنزلت بالفعل أم لا ؟ فروي عن بعضهم أنها نزلت ، واختلف هؤلاء في الطعام الذي نزل أي أعطي على وجه المعجزة من الله فأبهمه بعضهم ، وقيل : هو خبز وسمك ، وصرح بعضهم بأن الخبز من الشعير ، وقيل : خبز ولحم ، وقيل : من ثمار من الجنة ، وقيل : كل شيء إلا اللحم . وقيل : كان ينزل عليهم طعام أينما ذهبوا كما كان ينزل المن على بني إسرائيل . ولا يصح من أسانيد هذه الروايات شيء; ولذلك رجح ابن جرير نزولها إنجازا للوعد وأنه كان عليها مأكول لا نعينه ، بل قال : غير جائز أن يكون سمكا وخبزا ، وقال : إن العلم به لا ينفع والجهل به لا يضر ونقول إذا : إنه يصدق بمثل ما كان ينزل على بني إسرائيل في التيه من المن الذي يجمعونه عن الحجارة وورق الشجر ، وعبارة ابن عباس عند ابن جرير وابن الأنباري في كتاب الأضداد من طريق عكرمة : كان طعاما ينزل عليه من السماء حيثما نزلوا ، ويصدق بما يأتي عن إنجيل يوحنا من إطعام الألوف في عيد الفصح من خمسة أرغفة وسمكتين أكل منها أول ذلك الجمع كآخره .

                          وقال آخرون : إنها لم تنزل ألبتة . قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : وقال قائلون إنها لم تنزل ، فروى ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله : ( أنزل علينا مائدة من السماء ) قال : هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء . رواه ابن حاتم وابن جرير . قال ابن جرير .

                          [ ص: 215 ] حدثنا القاسم هو ابن سلام حدثنا حجاج عن ابن جريح عن مجاهد قال : مائدة عليها طعام ، وعنه قال : أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا فأبوا أن تنزل عليهم وقال أيضا : حدثنا ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن منصور بن زاذان عن الحسن أنه قال في المائدة : إنها لم تنزل . وحدثنا بشر حدثنا يزيد ، وحدثنا سعيد عن قتادة قال : كان الحسن يقول : لما قيل لهم : ( فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) قالوا : لا حاجة لنا فيها فلم تنزل . وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن ، وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى وليس هو في كتابهم ، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما توفر الدواعي على نقله ، وكان يكون موجودا في كتابهم بالتواتر ولا أقل من الآحاد والله أعلم اهـ . ثم ذكر الحافظ رأي الجمهور وترجيح ابن جرير له .

                          وذكر الرازي أن الذين قالوا بنفي نزولها احتجوا عليه بوجهين ذكرهما وأجاب عنهما فقال : ( أحدهما ) أن القوم لما سمعوا قوله : ( أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) استغفروا وقالوا : لا نريدها . ( والثاني ) أنه وصف المائدة بكونها عيدا لأولهم وآخرهم ، فلو نزلت لبقي ذلك العيد إلى يوم القيامة . وبعد ذكر قول الجمهور بنزولها لوجوب إنجاز الوعد الجازم غير المعلق ، قال : والجواب عن الأول أن قوله : ( فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه ) شرط وجزاء لا تعلق له بقوله : ( إني منزلها عليكم ) والجواب عن الثاني أن يوم نزولها كان عيدا لهم ولمن بعدهم ممن كان على شرعهم اهـ .

                          أقول : أما جوابه عن الحجة الأولى ففي غير محله لوجهين : ( أحدهما ) أنها عبارة عن خبر إن صح لا ترد صحته بكون جملة الوعيد الشرطية غير متعلقة بجملة الوعد إلا إذا قاله هذان التابعيان الأجلاء من قبيل التفسير بالرأي ، والأقرب أن له عندهما أصلا مرفوعا ، فالأولى أن يحمل على وجه يتفق مع صدق الوعد ، وهو ( الوجه الثاني ) وذلك بأن يقال : إن جملة الوعيد مرتبة على جملة الوعد لعطفها عليها بالفاء كما بيناه آنفا ، وهذا الترتيب كاف لحمل الحواريين على ترك طلبها بل طلب الاستقامة من إنزالها . وما كان مثل الحسن ومجاهد وقتادة من أئمة التفسير ليخفى عليهم أن الوعد غير معلق بشرط وأنه إنما جعل الوعيد مرتبا عليه ترتيبا ، ولكنهم رأوا أن هذا سبب كاف في عدم معارضة الوعد لما رووه من تنصل القوم واستقالتهم من ذلك الطلب وإقالة الله إياهم منه . وحينئذ لا يكون عدم إنزالها إخلافا للوعد ، فإن من وعد غيره بشيء وأراد أن ينجزه له مرتبا عليه تكليفا أو تخويفا حمل الموعود على عدم القبول لا يسمى مخلفا .

                          وأما جوابه عن الحجة الثانية فهو دعوى تحتاج إلى إثبات إذ لا يثبت أنه كان عند أتباع [ ص: 216 ] المسيح عيد للمائدة إلا بنص عن المعصوم أو نقل يعتد به من تاريخهم ، وسيأتي ما عند النصارى من ذلك وأنه ليس بعيد ليوم نزول المائدة . والظاهر أن الرازي لم يطلع عليه ، ومنه يعلم ما في قول الحافظ ابن كثير : إن النصارى لا تعرف خبر المائدة وأنه ليس في كتابهم المقدس عندهم ، نعم إن كتابهم أو كتبهم ليس لها أسانيد متصلة لا بالتواتر ولا بالآحاد ، ولكن يقال مع ذلك : إنه لو كان لسلفهم عيد عام للمائدة لكان من الشعائر التي تتوفر الدواعي على نقلها بالقول والعمل ، ويجاب بأنه يجوز أن يكون المراد بالعيد اجتماع الحواريين وأمثالهم لصلاة ونحوها كما قيل ، فإن هذا يجوز أن ينسى لإخفائهم إياه في زمن الاضطهاد ، أو بأن الذين أظهروا النصرانية بعد استخفاء أهلها بالاضطهاد لا يدخلون عموم قوله : ( وآخرنا ) لأنهم بدلوا وهو الذي أجاب به الرازي ، أو بأن المراد بالعيد الذكرى والموعظة لمؤمنيهم المتبعين له عليه السلام كما تقدم عن سلمان رضي الله عنه .

                          ويجوز أيضا أن يكون العيد بغير اسم المائدة ، وأن يكون معنى قوله : ( تكون لنا عيدا ) تكون طعاما للعيد ، وهو يصدق بإطعامه العدد الكثير من الخبز والسمك القليل في عيد الفصح كما يأتي قريبا .

                          ثم إن كتب النصارى من الأناجيل وغيرها قسمان : أحدهما قانوني وهو ما أقرته الكنيسة واعتمدته ، والثاني غير قانوني وهو ما رفضته الكنيسة ولم تعتمده ، ومنه إنجيل برنابا الذي صرح فيه بالتوحيد الخالص والبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإنجيل الطفولية الذي ذكر فيه مسألة جعله هيئة من الطين كهيئة الطير نفخ فيها فطارت ، فيجوز أن يكون خبر هذه القصة في بعض الأناجيل التي رفضتها الكنيسة وفقدت بعد ذلك ، وقد صرح يوحنا في إنجيله بأن الآيات التي عملها المسيح كثيرة لو كتبت كلها لا يسع العالم الكتب المكتوبة ، وإننا نرى بعض أصحاب الأناجيل الأربعة المعتمدة كتب منها ما لم يكتبه الآخرون .

                          وقد صرحوا بأن أكثر كلام المسيح كان أمثالا ورموزا ، ويعدون من هذه الرموز كل ما ورد من خبر الأكل والشرب في الملكوت ، وكذلك بعض النصوص في الأكل والشرب في الدنيا ، فما يدرينا أنهم أشاروا إلى هذه القصة ببعض التأويلات حسب فهمهم واعتقادهم ، إذ كانوا ينقلون ذلك بالمعنى ثم نقل عنهم بالترجمة ، وقد فقدت الأصول ولا يعلم عنها شيء يقيني كما بينا ذلك من قبل بالنقول عنهم .

                          وأنا أذكر هنا ما في هذه الأناجيل بمعنى قصة المائدة . جاء في أول الفصل السادس من إنجيل يوحنا أن المسيح عليه السلام ذهب إلى بحر الجليل ( بحيرة طبرية ) وتبعه خلق كثير لأنهم آياته ، فصعد إلى جبل وجلس هناك مع تلاميذه . وهم الحواريون قال يوحنا :

                          [ ص: 217 ] ( 4 وكان الفصح عيد اليهود قريبا 5 فرفع يسوع عينيه ونظر أن جمعا كثيرا مقبل إليه فقال لفيلبس : من أين نبتاع خبزا ليأكل هؤلاء ؟ 6 وإنما قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل 7 أجابه فيلبس لا يكفيهم خبز بمائتي دينار ليأخذ كل واحد منهم شيئا يسيرا 8 قال له واحد من تلاميذه وهو أندراوس أخو سمعان بطرس 9 هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان ولكن ما هذا لمثل هؤلاء 10 فقال يسوع اجعلوا الناس يتكئون ، وكان في المكان عشب كثير فاتكأ الرجال وعددهم خمسة آلاف 11 وأخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزع على التلاميذ ، والتلاميذ على المتكئين ، وكذلك كل من السمكتين بقدر ما شاءوا ) .

                          ثم بين أن المسيح عاتب التلاميذ على الشبع من ذلك الخبز وقال ( 27 اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي ، للحياة الأبدية التي يعطيكم ابن الإنسان لأن هذا الله الآب قد ختمه 28 فقالوا له ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله 29 أجاب يسوع وقال لهم هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله 30 فقالوا له فأية آية تصنع لنرى ونؤمن بك ماذا تعمل ؟ 31 آباؤنا أكلوا المن في البرية كما هو مكتوب أنه أعطاهم خبزا من السماء ليأكلوا 32 فقال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء 33 لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم 34 فقالوا أعطنا في كل حين هذا الخبز 35 فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة من يقبل إلي فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدا 36 ولكنني قلت لكم إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون ) إلى آخر القصة وفيها تكرار أنه هو خبز الحياة النازل من السماء لا المن الذي نزل على أجدادهم ، وأن من يأكل جسده ويشرب دمه فله الحياة الأبدية لأنه يثبت فيه .

                          فهذه القصة أولها في المائدة المادية ، وآخرها في المائدة الروحية ، وهي قد وقعت في عيد الفصح المتفق عليه عند اليهود والنصارى إلى اليوم ، ولا يزال النصارى يحتفلون به ويأكلون فيه خبزا ويشربون خمرا باسم المسيح ويسمونه العشاء الرباني . فهذا تحريف منهم لهذه الآية بين الله أصله عندهم ، ونحن نعتقد أن القرآن مهيمن على كتبهم ، فما حكاه عن أنبيائهم فهو الحق اليقين ، وما نفاه فهو المنفي الذي لا يقبل الثبوت ، ومن الغريب أن يوحنا يثبت هنا أن التلاميذ قالوا للمسيح بعد ما رأوا إطعامه العدد الكثير من الطعام القليل أية آية تصنع لنرى ونؤمن بك ، وأنه قال لهم : إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون . فهذا يوافق قول من قال : إنهم سألوا امتحانا ولم يكونوا مؤمنين حقا كما ادعوا وهو ظاهر [ ص: 218 ] الآيتين هنا ، وإنما استدللنا على صحة إيمانهم بتسميتهم حواريين وبما في آل عمران والصف على أنه حكاية عنهم أيضا ، والله أعلم بالسرائر .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية