الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : قل اللهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين : إن أصل اللهم يا الله ، فلما استعملت الكلمة دون حرف الندا الذي هو يا جعلوا بدله هذه الميم المشددة فجاءوا بحرفين وهما الميمان عوضا من حرفين وهما الياء والألف ، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد .

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب الفراء والكوفيون إلى أن الأصل في اللهم يا الله أمنا بخير ، فحذف وخلط الكلمتان ، والضمة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في أمنا لما حذفت الهمزة انتقلت الحركة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال النحاس : هذا عند البصريين من الخطأ العظيم ، والقول في هذا ما قاله الخليل وسيبويه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الكوفيون : وقد يدخل حرف النداء على اللهم ، وأنشدوا في ذلك قول الراجز :


                                                                                                                                                                                                                                      غفرت أو عذبت يا اللهما

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      وما عليك أن تقول كلما     سبحت أو هللت يا للهما

                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      إني إذا ما حدث ألما     أقول يا للهم يا للهما

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : ولو كان الميم عوضا من حرف النداء لما اجتمعتا . قال الزجاج : وهذا شاذ لا يعرف قائله . قال النضر بن شميل : من قال : اللهم فقد دعا الله بجميع أسمائه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : مالك الملك أي مالك جنس الملك على الإطلاق ، ومالك منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان ، أي يا مالك الملك ، ولا يجوز عنده أن يكون وصفا لقوله اللهم ; لأن الميم عنده تمنع الوصفية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال محمد بن يزيد المبرد وإبراهيم بن السري الزجاج : إنه صفة لاسم الله تعالى ، وكذلك قوله تعالى قل اللهم فاطر السماوات والأرض [ الزمر : 46 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو علي الفارسي : وهو مذهب المبرد ، وما قاله سيبويه أصوب وأبين ، وذلك لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت والأصوات لا توصف نحو غاق وما أشبهه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : والمعنى مالك العباد وما ملكوا ، وقيل : المعنى مالك الدنيا والآخرة ، وقيل : الملك هنا : النبوة ، وقيل : الغلبة ، وقيل : المال والعبيد .

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر شموله لما يصدق عليه اسم الملك من غير تخصيص تؤتي الملك من تشاء أي : من تشاء إيتاءه إياه وتنزع الملك ممن تشاء نزعه منه .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بما يؤتيه من الملك وينزعه هو نوع من أنواع ذلك الملك العام .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وتعز من تشاء أي في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما ، يقال عز : إذا غلب ، ومنه وعزني في الخطاب [ ص : 23 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وتذل من تشاء أي في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما ، يقال : ذل يذل ذلا إذا غلب وقهر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : بيدك الخير تقديم الخبر للتخصيص ; أي : بيدك الخير لا بيد غيرك ، وذكر الخير دون [ ص: 212 ] الشر ; لأن الخير بفضل محض بخلاف الشر ، فإنه يكون جزاء لعمل وصل إليه ، وقيل : لأن كل شر من حيث كونه من قضائه سبحانه هو متضمن للخير فأفعاله كلها خير ، وقيل : إنه حذف كما حذف في قوله : سرابيل تقيكم الحر [ النحل : 81 ] وأصله بيدك الخير والشر ، وقيل : خص الخير ; لأن المقام مقام دعاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إنك على كل شيء قدير تعليل لما سبق وتحقيق له .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل أي : تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر ، وقيل : المعنى تعاقب بينهما ويكون زوال أحدهما ولوجا في الآخر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي قيل : المراد إخراج الحيوان وهو حي من النطفة وهي ميتة ، وإخراج النطفة وهي ميتة من الحيوان وهو حي ، وقيل : المراد إخراج الطائر وهو حي من البيضة وهي ميتة ، وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية ، وقيل : المراد إخراج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : بغير حساب أي : بغير تضييق ولا تقتير كما تقول فلان يعطي بغير حساب ، والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته ، فنزلت الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : اسم الله الأعظم قل اللهم مالك الملك إلى قوله : بغير حساب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني عن معاذ أنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم دينا عليه ، فعلمه أن يتلو هذه الآية ، ثم يقول : رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطي من تشاء منهما وتمنع من تشاء ، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك ، اللهم أغنني من الفقر واقض عني الدين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرجه الطبراني في الصغير من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ : ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد دينا لأداه الله عنك فذكره ، وإسناده جيد وقد تقدم عند تفسير قوله تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو [ آل عمران : 18 ] بعض فضائل هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تؤتي الملك من تشاء قال : النبوة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله : تولج الليل في النهار الآية ، قال : تأخذ الصيف من الشتاء ، وتأخذ الشتاء من الصيف وتخرج الحي من الميت تخرج الرجل الحي من النطفة الميتة وتخرج الميت من الحي تخرج النطفة الميتة من الرجل الحي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس تولج الليل في النهار قال : ما نقص من النهار تجعله في الليل وما نقص من الليل تجعله في النهار . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي نحوه . وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه . وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك نحوه أيضا . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس تخرج الحي من الميت قال : تخرج النطفة الميتة من الحي ثم تخرج من النطفة بشرا حيا . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة تخرج الحي من الميت قال : هي البيضة تخرج من الحي وهي ميتة ، ثم يخرج منها الحي‌ . وأخرج ابن جرير عنه قال : النخلة من النواة ، والنواة من النخلة ، والحبة من السنبلة ، والسنبلة من الحبة . وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي مالك مثله . وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن قال : المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن . والمؤمن عبد حي الفؤاد ، والكافر عبد ميت الفؤاد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن سلمان الفارسي نحوه . وأخرج ابن مردويه عنه مرفوعا نحوه . وأخرجه أيضا عنه ، أو عن ابن مسعود مرفوعا . وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبيد الله بن عبد الله أن خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : من هذه ؟ قيل : خالدة بنت الأسود ، قال : سبحان الذي يخرج الحي من الميت وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافرا . وأخرج ابن سعد عن عائشة مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية