الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وأما ما يتعلق بترتيبه

فأما الآيات في كل سورة ووضع البسملة أوائلها فترتيبها توقيفي بلا شك ، ولا خلاف فيه ، ولهذا لا يجوز تعكيسها .

قال مكي وغيره : ترتيب الآيات في السور هو من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما لم يأمر بذلك في أول براءة تركت بلا بسملة .

وقال القاضي أبو بكر : ترتيب الآيات أمر واجب وحكم لازم ، فقد كان جبريل يقول : ضعوا آية كذا في موضع كذا .

[ ص: 354 ] وأسند البيهقي في كتاب " المدخل " و " الدلائل " عن زيد بن ثابت قال : كنا حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نؤلف القرآن إذ قال : طوبى للشام فقيل له : ولم ؟ قال : لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه زاد في " الدلائل " : نؤلف القرآن في الرقاع .

قال : وهذا يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وأخرجه الحاكم في " المستدرك " وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . وقال : فيه البيان الواضح أن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة ، فقد جمع بعضه بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم جمع بحضرة أبي بكر الصديق ، والجمع الثالث - وهو ترتيب السور - كان بحضرة عثمان .

واختلف في الحرف الذي كتب عثمان عليه المصحف فقيل : حرف زيد بن ثابت ، وقيل : حرف أبي بن كعب ; لأنه العرضة الأخيرة التي قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى الأول أكثر الرواة ، ومعنى حرف زيد ، أي : قراءته وطريقته .

وفي كتاب " فضائل القرآن " لأبي عبيد ، عن أبي وائل ، قيل لابن مسعود : إن فلانا يقرأ القرآن منكوسا ، فقال : ذاك منكوس القلب . رواه البيهقي .

وأما ترتيب السور على ما هو عليه الآن فاختلف : هل هو توقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من فعل الصحابة لم يفصل ؟ في ذلك ثلاثة أقوال :

1 - مذهب جمهور العلماء ; منهم مالك والقاضي أبو بكر بن الطيب ، فيما اعتمده واستقر عليه رأيه من أحد قوليه إلى الثاني ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - فوض ذلك إلى أمته بعده .

2 - وذهبت طائفة إلى الأول ; والخلاف يرجع إلى اللفظ ; لأن القائل بالثاني يقول : إنه رمز إليهم بذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته ; ولهذا قال الإمام مالك : إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قوله بأن ترتيب السور اجتهاد منهم ، [ ص: 355 ] فآل الخلاف إلى أنه : هل ذلك بتوقيف قولي أم بمجرد استناد فعلي ، وبحيث بقي لهم فيه مجال للنظر . فإن قيل : فإذا كانوا قد سمعوه منه ، كما استقر عليه ترتيبه ففي ماذا أعملوا الأفكار ؟ وأي مجال بقي لهم بعد هذا الاعتبار ؟ قيل : قد روى مسلم في " صحيحه " عن حذيفة قال : صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح سورة " البقرة " ، فقلت : يركع عند المائة ، ثم مضى ، فقلت : يصلي بها في ركعة ، فمضى فقلت : يركع بها ، ثم افتتح " النساء " فقرأها ، ثم افتتح " آل عمران " . الحديث ، فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما فعل هذا إرادة للتوسعة على الأمة ، وتبيانا لجليل تلك النعمة كان محلا للتوقف ، حتى استقر النظر على رأي ما كان من فعله الأكثر . فهذا محل اجتهادهم في المسألة .

3 - والقول الثالث ، مال إليه القاضي أبو محمد بن عطية : أن كثيرا من السور كان قد علم ترتيبها في حياته - صلى الله عليه وسلم - كالسبع الطوال والحواميم والمفصل ، وأشاروا إلى أن ما سوى ذلك يمكن أن يكون فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده .

وقال أبو جعفر بن الزبير : الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية ، ويبقى منها قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف ; كقوله : اقرءوا الزهراوين : " البقرة " ، و " آل عمران " رواه مسلم ، ولحديث معبد بن خالد : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسبع الطوال في ركعة . رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " ، وفيه : أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع المفصل في ركعة .

[ ص: 356 ] وروى البخاري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال في " بني إسرائيل " و " الكهف " ، و " مريم " ، و " طه " ، و " الأنبياء " : " إنهن من العتاق الأول ، وهن من تلادي " فذكرها نسقا كما استقر ترتيبها .

وفي " صحيح البخاري " : أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ، ثم نفث فيهما ، فقرأ : قل هو الله أحد والمعوذتين " .

وقال أبو جعفر النحاس : " المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروي ذلك عن علي بن أبي طالب " ثم ساق بإسناده إلى أبي داود الطيالسي : حدثنا عمران القطان ، عن قتادة ، عن أبي المليح الهذلي ، عن واثلة بن الأسقع ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أعطيت مكان التوراة السبع الطول ، وأعطيت مكان الزبور المئين ، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني ، وفضلت بالمفصل .

قال أبو جعفر : " وهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه مؤلف من ذلك الوقت ، وإنما جمع في المصحف على شيء واحد ; لأنه قد جاء هذا الحديث بلفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تأليف القرآن ، وفيه أيضا دليل على أن سورة " الأنفال " سورة على حدة ، وليست من براءة .

قال أبو الحسين أحمد بن فارس في كتاب " المسائل الخمس " : " جمع القرآن على ضربين :

أحدهما : تأليف السور ; كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين ; فهذا الضرب هو الذي تولاه الصحابة - رضوان الله عليهم - .

وأما الجمع الآخر فضم الآي بعضها إلى بعض ، وتعقيب [ ص: 357 ] القصة بالقصة ، فذلك شيء تولاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر به جبريل عن أمر ربه - عز وجل - .

وكذا قال الكرماني في " البرهان " : ترتيب السور هكذا هو عند الله ، وفي اللوح المحفوظ وهو على هذا الترتيب كان يعرض - عليه السلام - على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه ، وعرض عليه في السنة التي توفي فيها مرتين .

وذهب جماعة من المفسرين إلى أن قوله تعالى : فأتوا بعشر سور ( هود : 13 ) ، معناه مثل " البقرة " إلى سورة " هود " ، وهي العاشرة ، ومعلوم أن سورة " هود " مكية ، وأن " البقرة " ، و " آل عمران " ، و " النساء " ، و " المائدة " ، و " الأنفال " و " التوبة " مدنيات نزلت بعدها .

وفسر بعضهم قوله : ورتل القرآن ترتيلا ( المزمل : 4 ) ، أي : اقرأه على هذا الترتيب من غير تقديم ولا تأخير . وجاء النكير على من قرأه معكوسا . ولو حلف أن يقرأ القرآن على الترتيب لم يلزم إلا على هذا الترتيب . ولو نزل القرآن جملة واحدة كما اقترحوا عليه لنزل على هذا الترتيب ; وإنما تفرقت سوره وآياته نزولا ، لحاجة الناس إليها حالة بعد حالة ; ولأن فيه الناسخ والمنسوخ ، ولم يكن ليجتمعا نزولا ، وأبلغ الحكم في تفرقه ما قال سبحانه : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ( الإسراء : 106 ) ، وهذا أصل بني عليه مسائل كثيرة .

وقال القاضي أبو بكر بن الطيب : فإن قيل : قد اختلف السلف في ترتيب القرآن ، فمنهم من كتب في المصحف السور على تاريخ نزولها ، وقدم المكي على المدني ، ومنهم جعل من أوله : اقرأ باسم ربك ( العلق : 1 ) وهو أول مصحف علي ، وأما مصحف ابن مسعود فأوله : مالك يوم الدين ( الفاتحة : 4 ) ، ثم " البقرة " ، ثم " النساء " ، على ترتيب مختلف ، وفي مصحف أبي كان أوله الحمد ، ثم " النساء " ، ثم " آل عمران " ، ثم " الأنعام " ، ثم " الأعراف " ، ثم " المائدة " ، على اختلاف شديد .

فالجواب أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ما هي عليه اليوم على وجه الاجتهاد من [ ص: 358 ] الصحابة - رضي الله عنهم - وذكر ذلك مكي في سورة براءة ، وأن وضع البسملة في الأول هو من النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقال أبو بكر بن الأنباري : " أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا ، ثم فرق في بضع وعشرين ، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث ، والآية جوابا لمستخبر ; ويقف جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - على موضع السورة والآية ، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف ، كله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم الآيات .

قال القاضي أبو بكر : ومن نظم السور على المكي والمدني لم يدر أين يضع الفاتحة ، لاختلافهم في موضع نزولها ، ويضطر إلى تأخير الآية في رأس خمس وثلاثين ومائتين من " البقرة " إلى رأس الأربعين ، ومن أفسد نظم القرآن فقد كفر به .

التالي السابق


الخدمات العلمية