الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل جامع لخصته من كلام صاحب " المستوفى " في العربية

قال : تقسيمهم الوقف إلى الجودة والحسن والقبح والكفاية ، وغير ذلك ، وإن كان يدل على ذلك فليست القسمة بها صحيحة مستوفاة على مستعملها ، وقد حصل لقائلها من التشويش ما إذا شئت وجدته في كتبهم المصنفة في الوقوف .

فالوجه أن يقال : الوقف ضربان اضطراري واختياري .

فالاضطراري ما يدعو إليه انقطاع النفس فقط ; وذلك لا يخص موضعا دون موضع ; حتى إن حمزة كان يقف في حرفه على كل كلمة تقع فيها الهمزة متوسطة أو متطرفة إذا أراد تسهيلها ; وحتى إنه روي عنه الوقف على المضاف دون المضاف إليه ، في نحو قوله : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات ( البقرة : 207 ) قالوا : وقف هنا بالتاء على نحو جاءني [ ص: 514 ] " طلحت " إشعارا بأن الكلام لم يتم عند ذاك ، وكوقفه على إلى من قوله : وإذا خلوا إلى ( البقرة : 14 ) بإلقاء حركة الهمزة على الساكن قبلها ، كهذه الصورة " خلو لى " ، وعلى هذا يجوز أن يقف في المنظوم من القول حيث شئت ، وهذا هو أحسن الوقفين .

والاختياري وهو أفضلهما ; هو الذي لا يكون باعتبار انفصال ما بين جزأي القول ، وينقسم بانقسام الانفصال أقساما :

الأول : التام ; وهو الذي يكون بحيث يستغني كل واحد من جزأي القولين اللذين يكتنفانه عن الآخر ; كالوقف على : ( نستعين ) ( الفاتحة : 5 ) ، من قوله : إياك نعبد وإياك نستعين ، والآخر : اهدنا الصراط المستقيم ( الفاتحة : 6 ) مستغن عن الآخر من حيث الإفادة النحوية والتعلق اللفظي .

الثاني : الناقص ; وهو أن يكون ما قبله مستغنيا عما بعده ; ولا يكون ما بعده مستغنيا عما قبله ، كالوقف على المستقيم من قوله : اهدنا الصراط المستقيم ( الفاتحة : 6 ) ، ولأن لك أن تسكت على اهدنا الصراط المستقيم ، وليس لك أن تقول مبتدئا : صراط الذين أنعمت عليهم ( الفاتحة : 7 ) .

فإن قيل : ولم لا يجوز أن يقدر هاهنا الفعل الذي ينتصب به صراط ؟ .

قلنا : أول ما في ذلك أنك إذا قدرت الفعل قبل صراط لم تكن مبتدئا به من حيث المعنى ، ثم إن فعلت ذلك كان الوقف تاما ; لأن كل واحد من طرفيه يستغني حينئذ عن الآخر ، والنحويون يكرهون الوقف الناقص في التنزيل مع إمكان التام ، فإن طال الكلام ولم يوجد فيه وقف تام حسن الأخذ بالناقص ; كقوله تعالى : قل أوحي ( الجن : 1 ) إلى قوله : فلا تدعوا مع الله أحدا ( الجن : 18 ) إن كسرت بعده إن ، فإن فتحتها فإلى قوله : كادوا يكونون عليه لبدا ( الجن : 19 ) ; لأن الأوجه في أن في الآية أن تكون محمولة على أوحي ، وهذا أقرب من جعل الوقف التام ( حطبا ) ( الجن : 5 ) ، وحمل : وأن لو استقاموا ( الجن : 16 ) على القسم ، فاضطر في وأن المساجد لله ( الجن : 18 ) إلى أن جعل التقدير : فلا تدعوا مع الله أحدا لأن المساجد لله .

[ ص: 515 ] فإن قيل : هذا هو الوجه في فتح أن في الجملة التي بعد قوله : فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ( الجن : 1 و 2 ) فلم لا يلزم من جعل الوقف التام ( حطبا ) ( الجن : 15 ) ألا يقف قبله على هذه الجمل في كسر إن في أول كل واحدة منها ؟ .

قلنا : لأن هذه الجمل داخلة في القول ، وما يكون داخلا في القول لا يتم الوقف دونه ، كما أن المعطوف إذا تبع المعطوف عليه في إعرابه الظاهر والمقدر لا يتقدمه الوقف تاما .

فإن قيل : فهل يجوز الفصل بالمكسورات بين أنه استمع ، وبين وأنه لما قام عبد الله ( الجن : 19 ) فيمن فتحهما ، وقد عطف بالثانية على الأولى .

قيل : أما عندنا فليس ذلك بفصل ; لأن ما بعد إنا سمعنا من المكسورات معطوف عليها ، وهي داخلة في القول ، والقول أعني فقالوا معطوف على ( استمع ) ، و ( استمع ) من صلة " أن " الأولى المفتوحة ، فالمكسورات تكون في خبر المفتوحة الأولى ، فيعطف عليها الثانية بلا فصل بينها ، والثانية عندنا هي المخففة في قوله تعالى : وأن لو استقاموا على الطريقة ( الجن : 16 ) ثم الثالثة هي التي في قوله : وأن المساجد لله .

ثم إن فتحت التي في قوله تعالى : وأنه لما قام عبد الله ( الجن : 19 ) رابعة تابعة ; فإن فتحت التي بعد سمعنا كانت هي واللواتي بعدها إلى قوله : ( حطبا ) ( الجن : 15 ) داخلة في القول حملا على المعنى ، وقد يجوز أن تكون هي الثانية ثم تعد بعدها على النسق .

ونحو قوله تعالى : إذا الشمس كورت ( التكوير : 1 ) إلى قوله : علمت نفس ما أحضرت ( التكوير : 14 ) ، وعلى هذا القياس .

الثالث : الأنقص ; ومثل له بقراءة بعضهم : وإن كلا لما ليوفينهم ( هود : 111 ) ، [ ص: 516 ] وقراءة بعضهم : لكن هو الله ( الكهف : 38 ) ، والفرق بينهما أن التام قد يجوز أن يقع فيه بين القولين مهلة وتراخ في اللفظ ، والناقص لا يجوز أن يقع فيه بين جزأي القول إلا قليل لبث ، والذي دونهما لا لبث فيه ولا مهلة أصلا .

ثم إن كلا من التام والناقص ينقسم في ذاته أقساما ، فالتام أتمه ما لا يتعلق اللاحق فيه من القولين بالسابق معنى ، كما لا يتعلق به لفظا ، وذلك نحو قوله تعالى : وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور لله ملك السماوات والأرض ( الشورى : 48 و 49 ) ، وشأن ما يتعلق فيه أحد القولين بالآخر معنى وإن كان لا يتعلق به لفظا ، وذلك كقوله : ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ( يس : 30 ) ، وتعلق الثاني فيه بالأول تعلق الحال بذي الحال معنى .

ونحو قوله تعالى : إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ( الأنبياء : 52 ) إلى قوله : فجعلهم جذاذا ( الأنبياء : 58 ) إلى قوله : بل فعله كبيرهم هذا ( الأنبياء : 63 ) فهذه الحال قد عطف بعضها على بعض في المعنى ، وظاهر كل واحد منها الاستئناف في اللفظ .

ونحو قوله تعالى : فهم به مستمسكون بل قالوا ( الزخرف : 21 و 22 ) ، وأنت تعلم أن ( بل ) لا يبتدأ بها .

ونحو قوله : وكنتم أزواجا ثلاثة ( الواقعة : 7 ) فإن ما بعده منقطع عنه لفظا إذ لا تعلق له من جهة اللفظ ، لكنه متعلق به معنى ، وتعلقه قريب من تعلق الصفة بالموصوف إلى قوله : وتصلية جحيم ( الواقعة : 94 ) .

ونحو قوله : ياأيها الناس اتقوا ربكم ( الحج : 1 ) ; فإن الوقف عليه تام ، ولكنه ليس بالأتم ; لأن ما بعده وهو قوله تعالى : إن زلزلة الساعة شيء عظيم كالعلة لما قبلها ، فهو متعلق به معنى ، وإن كان لا تعلق له من جهة اللفظ ، فقس على هذا ما سواه ، فإنه أكثر أنواع [ ص: 517 ] الوقوف استعمالا ، وليس إذا حاولت بيان قصة وجب عليك ألا تقف إلا في آخرها ; ليكون الوقف القول على الأتم ; ومن ثم أتى به من جعل الوقف على عليكم من قوله تعالى : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم ( النساء : 24 ) غير تام .

التالي السابق


الخدمات العلمية