الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
فصل

من الأنواع ما حذف في آية وأثبت في أخرى ؛ وهو قسمان :

[ ص: 286 ] أحدهما : أن يكون ما حذف منه محمولا على المذكور ؛ وهذا كالمطلق في الرقبة في كفارة الظهار مقيدا بالمؤمنة في كفارة القتل .

وكقوله : وجنة عرضها السماوات والأرض ( آل عمران : 133 ) قيدت بالتشبيه في موضع آخر .

ومنه قوله تعالى في سورة البقرة : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ( البقرة : 210 ) وقوله في سورة النحل : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك ( النحل : 33 ) فإن هذه تقتضي أن الأولى على حذف مضاف .

والقسم الثاني : لا يكون مرادا ، فمنه قوله تعالى في سورة المؤمنين : لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون ( المؤمنون : 19 ) وفي الزخرف : لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون ( الزخرف : 179 ) .

وقوله في سورة البقرة : أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ( الآية : 5 ) وفي سورة الأعراف : أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ( الآية : 179 ) .

وحكمته أنه قد اختلف الخبران في سورة البقرة ؛ فلذلك دخل العاطف ، بخلاف الخبرين [ ص: 287 ] في الأعراف ، فإنهما متفقان ؛ لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم واحد ، فكانت الجملة الثالثة مقررة ما في الأولى ، فهي من العطف بمعزل .

ومنه قوله تعالى في البقرة : إن الذين كفروا سواء عليهم ( البقرة : 6 ) وقال في يس : وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ( يس : 10 ) مع العاطف ، وحكمته أن ما في ( يس ) وما بعده جملة معطوفة على جملة أخرى ، فاحتاجت إلى العاطف ، والجملة هنا ليست معطوفة فهي من العطف بمعزل .

ومنه قوله تعالى : وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ( الأعراف : 193 ) فأثبت الواو في الأعراف وحذفها في الكهف ، فقال : وإن تدعهم إلى الهدى ( الكهف : 57 ) والفرق بينهما أن الذي في الأعراف خطاب لجمع ، وأصله " تدعونهم " حذفت النون للجزم ، والتي في الكهف خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واحد ، وعلامة الجزم فيه سقوط الواو .

ومنه في آل عمران : جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ( آل عمران : 184 ) وفي فاطر : جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ( فاطر : 25 ) والفرق بينهما أن الأولى حذفت الباء فيها للاختصار استغناء بالتي قبلها ، والثانية خرجت عن الأصل للتوكيد ، وتقدير المعنى كما تقول : مررت بك وبأخيك وبأبيك ؛ إذا اختصرت .

ومنه قوله في قصة ثمود : ما أنت إلا بشر مثلنا ( الشعراء : 154 ) وفي قصة شعيب : وما أنت ( الشعراء : 186 ) بالواو ، والفرق أن الأولى جرى على انقطاع الكلام عند النحويين ، واستئناف : ما أنت ( الشعراء : 154 ) فاستغنى عن الواو لما تقرر من الابتداء ، [ ص: 288 ] وفي الثانية جرى في العطف ، وأن يكون قوله : وما أنت ( الشعراء : 186 ) معطوفا على : إنما أنت ( الشعراء : 185 ) .

ومنه قوله تعالى في سورة النحل : ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ( الآية : 127 ) وفي سورة النمل : ولا تكن في ضيق ( الآية : 70 ) بإثبات النون ، وحكمته أن القصة لما طالت في سورة النحل ناسب التخفيف بحذف النون ، بخلافه في سورة النمل ، فإن الواو استئنافية ، ولا تعلق لها بما قبلها .

وقوله في البقرة : فلا تكونن من الممترين ( الآية : 147 ) وفي آل عمران : فلا تكن من الممترين ( الآية : 60 ) وحكمته أن الخطاب في البقرة لليهود وهم أشد جدالا .

ومنه قوله تعالى في الأعراف : ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ( الآية : 172 ) وفي الأنعام : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا ( الآية : 130 ) .

ومنه قوله تعالى في سورة البقرة : ويقتلون النبيين بغير الحق ( الآية : 61 ) وفي سورة آل عمران : بغير حق ( الآية : 21 ) والحكمة فيه أن الجملة في آل عمران خرجت مخرج الشرط ، وهو عام ، فناسب أن يكون النفي بصيغة التنكير ؛ حتى يكون عاما ، [ ص: 289 ] وفي سورة البقرة جاء عن أناس معهودين ، وهو قوله تعالى : ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ( الآية : 61 ) فناسب أن يؤتى بالتعريف ؛ لأن الحق الذي كان يستباح به قتل الأنفس عندهم كان معروفا ، كقوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ( المائدة : 45 ) فالحق هنا الذي تقتل به الأنفس معهود معروف ، بخلاف ما في سورة آل عمران .

ومنه قوله تعالى في سورة هود حاكيا عن شعيب : ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون ( الآية : 93 ) وأمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لقريش : ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ( النحل : 55 ) .

ويمكن أن يقال : لما كررت مراجعته لقومه ، ناسب اختصاص قصته بالاستئناف الذي هو أبلغ في الإنذار والوعيد ؛ وأما نبينا - صلى الله عليه وسلم - فكانت مدة إنذاره لقومه قصيرة ، فعقب عملهم على مكافأتهم بوعيدهم بالفاء ؛ إشارة إلى قرب نزول الوعيد لهم ، بخلاف شعيب فإنه طالت مدته في قومه فاستأنف لهم ذكر الوعيد .

ولعل قوم شعيب سألوه السؤال المتقدم ، فأجابهم بهذا الجواب ، والفاء لا تحسن فيه ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل ذلك جوابا للسؤال ، ولا يحسن معه الحذف .

ومنه أنه تعالى قال في خطاب المؤمنين : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ( الصف : 10 ) إلى أن قال : يغفر لكم ذنوبكم ( الصف : 12 ) وقال في خطاب الكافرين : يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ( إبراهيم : 10 ) ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ( الأحقاف : 31 ) .

[ ص: 290 ] قال الزمخشري في تفسير سورة إبراهيم : ما علمته جاء الخطاب هكذا في القرآن إلا في خطاب الكافرين ، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد .

واعترض الإمام فخر الدين بأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب ، وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسدا .

وقال الشيخ أثير الدين أبو حيان في " تفسيره " : ويقال : ما فائدة الفرق في الخطاب والمعنى مشترك ؟ إذ الكافر إذا آمن ، والمؤمن إذا تاب مشتركان في الغفران ، وما تخيلت فيه مغفرة بعض الذنوب من الكافر إذا هو آمن موجود في المؤمن إذا تاب ، وسيأتي بسط الكلام على ذلك في آخر الكتاب ، عند الكلام على ( من ) .

فصل

ومن لواحق ذلك الإدغام في موضع وتركه في آخر ، في سورة النساء ومن يشاقق الرسول ( الآية : 115 ) وفي الأنفال : ومن يشاقق الله ورسوله ( الآية : 13 ) وجاء بالإدغام في الحشر ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله ( الآية : 4 ) وذلك لأن الإدغام تخفيف وليس بالأصيل فورد في النساء على الأصل ، ولم يقترن به ما يقتضي تخفيفه ، ولما تقدم في سورة الحشر قوله : ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله وتقدم الماضي مدغما ولم يسمع في الماضي فجيء بما حمل عليه من قوله : ومن يشاق الله مدغما ليحصل التناسب .

[ ص: 291 ] وأما سورة الأنفال فتعارض فيها شيئان : مجيء الإدغام قبله في الماضي من قوله : ذلك بأنهم شاقوا الله وعطف ورسوله على اسم الله وقد وردت نسبة المشاقة لله ورسوله ورد ذلك بالعطف بالواو الجامعة ، وهو مما يناسب الشك ، فاستدعى الموضع داعيان :

أحدهما : ما قبل من الإدغام .

والثاني : ما بعده من العطف المشبه للفظ ، فروعي البعدي لأنه أقوى من القبلي كما فعلوا في " الأمام " فلم يميلوا نحو " مناشيط " ونحوه مما تأخر فيه حرف الاستعلاء ، وإن حال بينه وبين الألف حرفان ، ومع ذلك فإنه ينفع الإمالة ، وليس ذلك في قوة المنع إذا تقدم مع حائل .

ومنه في الأنعام : فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ( الآية : 42 ) بالإدغام ووجه أن العرب تراعي مجاورة الألفاظ فيحمل اللفظ على مجاورة المشاكلة للمشاكلة القطعية ، وفيه الاتباع في " نسوك وبنوك " والأصل بنيك ، وماضي الفعل من الضراعة لا إدغام فيه إنما نقول " يضرع " إذ لا حرف مضارعة فيه يسوغ الإدغام فلما أورد الماضي فيما بني على آية الأنعام من قوله فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ( الآية : 43 ) ولا إدغام فيه ورد الأول مفكوكا غير مدغم دعيا للمناسبة بخلاف آية الأعراف ، إذ لم يرد فيه ما يستدعي هذه المناسبة فجاء مدغما على الوجه الأخف ، إذ لا يقتضي خلافه .

ومنه : فمن تبع هداي في البقرة 38 فمن اتبع هداي في طه 123 وكذلك في الأنعام والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه ( الآية : 99 ) وقال بهذه في هذه السورة والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه ( الآية : 141 ) فورد في آخر الأمر على أخف التباين وفي الثاني على أثقلهما دعيا للترتيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية