الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

من المتشابه : آيات الصفات ، ولابن اللبان فيها تصنيف مفرد ، نحو : الرحمن على العرش استوى [ ص: 602 ] [ طه : 5 ] كل شيء هالك إلا وجهه [ القصص : 88 ] ويبقى وجه ربك [ الرحمن : 27 ] . ولتصنع على عيني [ طه : 39 ] . يد الله فوق أيديهم [ الفتح : 10 ] . والسماوات مطويات بيمينه [ الزمر : 67 ] .

وجمهور أهل السنة - منهم السلف وأهل الحديث - على الإيمان بها ، وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى ، ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها .

أخرج أبو القاسم اللالكائي في " السنة " عن طريق قرة بن خالد ، عن الحسن ، عن أمه ، عن أم سلمة في قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى قالت : الكيف غير [ ص: 603 ] معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإقرار به من الإيمان ، والجحود به كفر .

وأخرج - أيضا - عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل عن قوله الرحمن على العرش استوى فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، ومن الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ المبين ، وعلينا التصديق .

وأخرج - أيضا - عن مالك : أنه سئل عن الآية ؟ فقال : الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .

وأخرج البيهقي عنه أنه قال : هو كما وصف نفسه ، ولا يقال : كيف ، وكيف عنه مرفوع .

وأخرج اللالكائي عن محمد بن الحسن ، قال : اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه .

وقال الترمذي : في الكلام على حديث الرؤية : المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة - مثل سفيان الثوري ، ومالك ، وابن المبارك ، وابن عيينة ، ووكيع ، وغيرهم - أنهم قالوا : نروي هذه الأحاديث كما جاءت ، ونؤمن بها . ولا يقال : كيف ، ولا نفسر ولا نتوهم .

وذهبت طائفة من أهل السنة : على أننا نؤولها على ما يليق بجلاله تعالى ; وهذا مذهب الخلف .

وكان إمام الحرمين يذهب إليه ، ثم رجع عنه ، فقال في الرسالة النظامية : الذي نرتضيه دينا وندين لله به عقدا ، اتباع سلف الأمة ، فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها .

[ ص: 604 ] وقال ابن الصلاح : على هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها ، وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها ، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ، ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها .

واختار ابن برهان مذهب التأويل ، قال : ومنشأ الخلاف بين الفريقين : هل يجوز أن يكون في القرآن شيء لم نعلم معناه ، أو لا ، بل يعلمه الراسخون في العلم ؟

وتوسط ابن دقيق العيد فقال : إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر ، أو بعيدا توقفنا عنه ، وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه ، قال : وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب قلنا به من غير توقيف ، كما في قوله تعالى : ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله [ الزمر : 56 ] فنحمله على حق الله وما يجب له .

ذكر ما وقفت عليه من تأويل الآية المذكورة على طريقة أهل السنة :

من ذلك صفة ( الاستواء ) وحاصل ما رأيت فيها سبعة أجوبة :

أحدها : حكى مقاتل والكلبي ، عن ابن عباس : أن ( استوى ) بمعنى استقر ، وهذا إن صح يحتاج إلى تأويل ، فإن الاستقرار يشعر بالتجسيم .

ثانيها : أن ( استوى ) بمعنى ( استولى ) . ورد بوجهين :

أحدهما : أن الله تعالى مستول على الكونين والجنة والنار وأهلهما ، فأي فائدة في تخصيص العرش ؟

والآخر : أن الاستيلاء إنما يكون بعد قهر وغلبة ، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك .

أخرج اللالكائي في " السنة " عن ابن الأعرابي : أنه سئل عن معنى ( استوى ) فقال : هو على عرشه كما أخبر .

فقيل : يا أبا عبد الله ، معناه ( استولى ) ؟

[ ص: 605 ] قال : اسكت ، لا يقال : استولى على الشيء ; إلا إذا كان له مضاد ، فإذا غلب أحدهما ، قيل : استولى .

ثالثها : أنه بمعنى صعد قاله أبو عبيد ، ورد بأنه تعالى منزه عن الصعود أيضا .

رابعها : أن التقدير ( الرحمن علا ) أي : ارتفع ، من العلو ، والعرش له استوى . حكاه إسماعيل الضرير في تفسيره . ورد بوجهين :

أحدهما : أنه جعل ( على ) فعلا ، وهي حرف هنا باتفاق ، فلو كانت فعلا لكتبت بالألف ، كقوله علا في الأرض [ القصص : 4 ] .

والآخر : أنه رفع ( العرش ) ولم يرفعه أحد من القراء .

خامسها : أن الكلام تم عند قوله الرحمن على العرش ثم ابتدأ بقوله ( استوى ) له ما في السماوات وما في الأرض [ طه : 5 - 6 ] . ورد : بأنه يزيل الآية عن نظمها ومرادها .

قلت : ولا يتأتى له في قوله : ثم استوى على العرش [ الأعراف : 54 ] .

سادسها : أن معنى ( استوى ) : أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه ، كقوله ثم استوى إلى السماء وهي دخان [ فصلت : 11 ] أي : قصد وعمد إلى خلقها . قاله الفراء والأشعري وجماعة أهل المعاني . وقال إسماعيل الضرير : إنه الصواب .

قلت : يبعده تعديته بعلى ، ولو كان كما ذكروه لتعدى بإلى ، كما في قوله ( ثم استوى إلى السماء ) .

سابعها : قال ابن اللبان : الاستواء المنسوب إليه تعالى بمعنى اعتدل ، أي : قام بالعدل كقوله تعالى : قائما بالقسط [ آل عمران : 18 ] . والعدل هو استواؤه ، ويرجع معناه إلى أنه أعطى بعزته كل شيء خلقه موزونا بحكمته البالغة .

ومن ذلك : ( النفس ) في قوله تعالى : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك [ ص: 606 ] [ المائدة : 116 ] ووجه بأنه خرج على سبيل المشاكلة مرادا به الغيب ; لأنه مستتر كالنفس .

وقوله : ويحذركم الله نفسه [ آل عمران : 28 ] . أي : عقوبته ، وقيل : إياه .

وقال السهيلي : النفس عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد ، وقد استعمل من لفظة النفاسة والشيء النفيس ، فصلحت للتعبير عنه سبحانه وتعالى .

وقال ابن اللبان : أولها العلماء بتأويلات :

ومنها : أن النفس عبر بها عن الذات ، قال : وهذا وإن كان سائغا في اللغة ، ولكن تعدي الفعل إليها بفي المفيدة للظرفية محال عليه تعالى .

وقد أولها بعضهم بالغيب ، أي : ولا أعلم ما في غيبك وسرك ، قال : وهذا حسن ، لقوله في آخر الآية : إنك أنت علام الغيوب .

ومن ذلك : ( الوجه ) وهو مؤول بالذات : وقال ابن اللبان في قوله : يريدون وجهه [ الأنعام : 52 ] . إنما نطعمكم لوجه الله [ الإنسان : 9 ] . إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى [ الليل : 20 ] : المراد إخلاص النية .

وقال غيره في قوله : فثم وجه الله [ البقرة : 115 ] أي : الجهة التي أمر بالتوجه إليها .

ومن ذلك : ( العين ) وهي مؤولة بالبصر أو الإدراك ، بل قال بعضهم : إنها حقيقة في ذلك ، خلافا لتوهم بعض الناس أنها مجاز ، وإنما المجاز في تسمية العضو بها .

وقال ابن اللبان : نسبة العين إليه تعالى اسم لآياته المبصرة ، التي بها - سبحانه - ينظر للمؤمنين وبها ينظرون إليه ، قال تعالى : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة [ النمل : 13 ] . نسب البصر للآيات على سبيل المجاز تحقيقا ; لأنها المرادة بالعين المنسوبة إليه . وقال : قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها [ الأنعام : 104 ] قال : فقوله : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا [ الطور : 48 ] أي : بآياتنا تنظر بها إلينا ، وننظر بها إليك .

[ ص: 607 ] قال : ويؤيد أن المراد بالأعين هنا الآيات كونه علل بها الصبر لحكم ربه صريحا في قوله : إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ الإنسان : 23 - 24 ] .

قال : وقوله في سفينة نوح : تجري بأعيننا [ القمر : 14 ] . أي : بآياتنا ، بدليل : وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها [ هود : 41 ] . وقال : ولتصنع على عيني [ طه : 39 ] أي : على حكم آيتي التي أوحيتها إلى أمك : أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم [ القصص : 7 ] الآية . انتهى .

وقال غيره : المراد في الآيات كلاءته تعالى وحفظه .

ومن ذلك : ( اليد ) في قوله : لما خلقت بيدي [ ص : 75 ] . يد الله فوق أيديهم [ الفتح : 10 ] مما عملت أيدينا [ يس : 71 ] . وأن الفضل بيد الله [ الحديد : 29 ] . وهي مؤولة بالقدرة .

وقال السهيلي : اليد في الأصل - كالبصر - عبارة عن صفة لموصوف ، ولذلك مدح سبحانه وتعالى بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله : أولي الأيدي والأبصار [ ص : 45 ] . ولم يمدحهم بالجوارح ; لأن المدح إنما يتعلق بالصفات لا بالجواهر ، قال : ولهذا قال الأشعري : إن اليد صفة ورد بها الشرع . والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة ، إلا أنها أخص والقدرة أعم ، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة ; فإن في اليد تشريفا لازما .

وقال البغوي في قوله : ( بيدي ) : في تحقيق الله التثنية في اليد دليل على أنها [ ص: 608 ] ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة ، وإنما هما صفتان من صفات ذاته .

وقال مجاهد : اليد هاهنا صلة وتأكيد ، كقوله : ويبقى وجه ربك [ الرحمن : 27 ] .

قال البغوي : وهذا تأويل غير قوي ; لأنها لو كانت صلة لكان لإبليس أن يقول : إن كنت خلقته فقد خلقتني ، وكذلك في القدرة والنعمة ، لا يكون لآدم في الخلق مزية على إبليس .

وقال ابن اللبان : فإن قلت : فما حقيقة اليدين في خلق آدم ؟

قلت : الله أعلم بما أراد ; ولكن الذي استثمرته من تدبر كتابه : أن ( اليدين ) استعارة لنور قدرته القائم بصفة فضله ، ولنورها القائم بصفة عدله . ونبه على تخصيص آدم وتكريمه بأن جمع له في خلقه بين فضله وعدله . قال : وصاحبة الفضل هي اليمين ، التي ذكرها في قوله : والسماوات مطويات بيمينه [ الزمر : 67 ] . سبحانه وتعالى .

ومن ذلك : ( الساق ) في قوله : يوم يكشف عن ساق [ القلم : 42 ] ومعناه : عن شدة وأمر عظيم ، كما يقال : قامت الحرب على ساق .

أخرج الحاكم في المستدرك : من طريق عكرمة ، عن ابن عباس : أنه سئل عن قوله : يوم يكشف عن ساق قال : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر ، فإنه ديوان العرب ، أما سمعتم قول الشاعر :


اصبر عناق إنه شر باق قد سن لي قومك ضرب الأعناق




وقامت الحرب بنا على ساق

قال ابن عباس : هذا يوم كرب وشدة .

ومن ذلك : ( الجنب ) في قوله تعالى : على ما فرطت في جنب الله [ الزمر : 56 ] أي : في طاعته وحقه ; لأن التفريط إنما يقع في ذلك ، ولا يقع في الجنب المعهود .

ومن ذلك : صفة ( القرب ) في قوله : فإني قريب [ البقرة : 186 ] . ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ ق : 16 ] أي : بالعلم .

ومن ذلك : صفة ( الفوقية ) في قوله : وهو القاهر فوق عباده [ الأنعام : 18 ] .

[ ص: 609 ] يخافون ربهم من فوقهم [ النحل : 50 ] . والمراد بها العلو من غير جهة ، وقد قال فرعون : وإنا فوقهم قاهرون [ الأعراف : 127 ] ولا شك أنه لم يرد العلو المكاني .

ومن ذلك : صفة ( المجيء ) في قوله : وجاء ربك [ الفجر : 22 ] . أو يأتي ربك [ الأنعام : 158 ] أي : أمره ; لأن الملك إنما يأتي بأمره أو بتسليطه ، كما قال تعالى : وهم بأمره يعملون [ الأنبياء : 27 ] فصار كما لو صرح به .

وكذا قوله : فاذهب أنت وربك فقاتلا [ المائدة : 24 ] أي : اذهب بربك ، أي : بتوفيقه وقوته .

ومن ذلك : صفة ( الحب ) في قوله يحبهم ويحبونه [ المائدة : 54 ] . فاتبعوني يحببكم الله [ آل عمران : 31 ] .

وصفة ( الغضب ) في قوله : وغضب الله عليهم [ الفتح : 6 ] .

وصفة ( الرضا ) في قوله : رضي الله عنهم [ المائدة : 119 ] .

وصفة ( العجب ) في قوله : بل عجبت [ الصافات : 12 ] - بضم التاء - وقوله وإن تعجب فعجب قولهم [ الرعد : 5 ] .

وصفة ( الرحمة ) في آيات كثيرة .

وقد قال العلماء : كل صفة يستحيل حقيقتها على الله تعالى تفسر بلازمها .

قال الإمام فخر الدين : جميع الأعراض النفسانية - أعني : الرحمة والفرح ، والسرور والغضب والحياء والمكر والاستهزاء - لها أوائل ولها غايات ، مثاله : الغضب فإن أوله غليان دم القلب ، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه ، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب ، بل على غرضه الذي هو إرادة الإضرار . وكذلك : الحياء ، له أول وهو انكسار يحصل في النفس ، وله غرض وهو ترك الفعل ، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس . انتهى .

[ ص: 610 ] وقال الحسين بن الفضل : العجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه . وسئل الجنيد عن قوله : وإن تعجب فعجب قولهم [ الرعد : 5 ] . فقال : إن الله لا يعجب من شيء ، ولكن الله وافق رسوله ، فقال : وإن تعجب فعجب قولهم أي : هو كما تقول .

ومن ذلك لفظة ( عند ) في قوله تعالى : عند ربك [ الأعراف : 206 ] . و من عنده [ المائدة : 52 ] ، ومعناهما الإشارة إلى التمكين والزلفى والرفعة .

ومن ذلك : قوله : وهو معكم أين ما كنتم [ الحديد : 4 ] ، أي : بعلمه ، وقوله : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم [ الأنعام : 3 ] .

قال البيهقي : الأصح أن معناه أنه المعبود في السماوات وفي الأرض ، مثل قوله : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [ الزخرف : 84 ] .

وقال الأشعري : الظرف متعلق ب ( يعلم ) أي : عالم بما في السماوات والأرض .

ومن ذلك قوله : سنفرغ لكم أيها الثقلان [ الرحمن : 31 ] أي : سنقصد لجزائكم .

تنبيه : قال ابن اللبان : ليس من المتشابه قوله تعالى : إن بطش ربك لشديد ; لأنه فسره بعده بقوله : إنه هو يبدئ ويعيد [ البروج : 12 - 13 ] تنبيها على أن بطشه عبارة عن تصرفه في بدئه وإعادته وجميع تصرفاته في مخلوقاته .

التالي السابق


الخدمات العلمية