الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  حديث الثلاثة الذين خلفوا

                                                                  9744 عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال : أخبرني [ عبد الرحمن بن كعب بن ] مالك ، عن أبيه قال : " لم أتخلف عن النبي [ ص: 398 ] صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها حتى كانت غزوة تبوك إلا بدرا ، ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغوثين لعيرهم ، فالتقوا عن غير موعد كما قال الله ، ولعمري إن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس لبدر وما أحب أني كنت شهدت مكان بيعتي ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام ، ثم لم أتخلف بعد عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها حتى كانت غزوة تبوك ، وهي آخر غزوة غزاها ، وآذن النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوة وذلك حين طاب الظلال ، وطابت الثمار ، وكان قل ما أراد غزوة إلا ورى بغيرها وكان يقول : " الحرب خدعة " فأراد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أن يتأهب الناس أهبة ، وأنا أيسر ما كنت وقد جمعت راحلتي وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد وخفة الحاذ ، وأنا في ذلك أصغو [ ص: 399 ] إلى الظلال ، وطيب الثمار ، فلم أزل كذلك حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم غاديا بغداة ، وذلك يوم الخميس [ وكان يحب أن يخرج يوم الخميس ] فأصبح غاديا فقلت : أنطلق غدا إلى السوق فأشتري جهازي ، ثم ألحقهم فانطلقت إلى السوق من الغد فعسر علي بعض شأني أيضا فقلت : أرجع غدا إن شاء الله ، فلم أزل كذلك حتى التبس بي الذنب ، وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أمشي في الأسواق ، وأطوف بالمدينة فيحزنني أني لا أرى أحدا إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق ، وكان ليس أحد تخلف ، إلا رأى أن ذلك سيخفى له وكان الناس كثيرا لا يجمعهم ديوان وكان جميع من تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم بضعة وثمانين رجلا [ ص: 400 ] ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فلما بلغ تبوك قال : " ما فعل كعب بن مالك " قال رجل من قومي : خلفه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه ، فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت والله يا نبي الله ما نعلم [ عليه ] إلا خيرا قال : فبينا هم كذلك إذا هم برجل يزول به السراب فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كن يا أبا خيثمة " فإذا هو أبو خيثمة قال : فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وقفل ودنا من المدينة جعلت أنظر بماذا أخرج من سخط النبي صلى الله عليه وسلم ، وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي حتى إذا قيل النبي صلى الله عليه وسلم هو مصبحكم غدا بالغداة زاح عني الباطل ، وعرفت ألا أنجو إلا بالصدق ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ضحى ، فصلى في المسجد ركعتين ، وكان إذا جاء من سفر فعل ذلك دخل المسجد فصلى فيه ركعتين ، ثم جلس فجعل يأتيه من تخلف فيحلفون له ، ويعتذرون إليه [ ص: 401 ] فيستغفر لهم ويقبل علانيتهم ، ويكل سرائرهم إلى الله فدخلت المسجد ، فإذا هو جالس فلما رآني تبسم تبسم المغضب ، فجئت فجلست بين يديه فقال : " ألم تكن ابتعت ظهرك ؟ " فقلت : بلى يا نبي الله . قال : " فما خلفك ؟ " فقلت : والله لو بين [ يدي ] أحد غيرك من الناس جلست لخرجت من سخطه علي بعذر ، لقد أوتيت جدلا ، ولقد علمت يا نبي الله أني إن أخبرتك اليوم بقول تجد علي فيه ، وهو حق فإني أرجو عفو الله ، وإن حدثتك اليوم حديثا ترضى عني فيه وهو كذب أوشك أن يطلعك الله عليه ، والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخف حاذا مني حين تخلفت عنك قال : " أما هذا فقد صدقكم الحديث ، قم حتى يقضي الله فيك " فقمت فثار على أثري أناس من قومي يؤنبوني فقالوا : والله ما نعلمك أذنبت ذنبا قط قبل هذا فهلا اعتذرت إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعذر رضي عنك فيه ، وكان استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتي من وراء ذلك ، ولم تقف موقفا لا تدري ما يقضى لك فيه ، فلم يزالوا يؤنبوني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي [ ص: 402 ] فقلت : هل قال هذا القول أحد غيري ؟ قالوا : نعم قاله هلال بن أمية ، ومرارة بن ربيعة فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة فقلت : لا والله لا أرجع إليه في هذا أبدا ، ولا أكذب نفسي قال : ونهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا أيها الثلاثة قال : فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد وتنكر لنا الناس حتى ما هم بالذين نعرف ، وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالحيطان التي تعرف لنا ، وتنكرت لنا الأرض حتى ما هي بالأرض التي نعرف وكنت أقوى الناس فكنت أخرج في السوق ، وآتي المسجد فأدخل ، وآتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه فأقول : هل حرك شفتيه بالسلام ؟ فإذا قمت أصلي إلى سارية ، فأقبلت قبل صلاتي نظر إلي بمؤخر عينيه ، وإذا نظرت إليه أعرض عني قال : واستكان صاحباي فجعلا يبكيان الليل والنهار لا يطلعان رءوسهما فبينا أنا أطوف في السوق إذا رجل نصراني جاء بطعام له يبيعه يقول : من يدلني على كعب بن مالك ؟ قال : فطفق الناس يشيرون له إلي فأتاني ، وأتاني بصحيفة من ملك غسان فإذا [ ص: 403 ] فيها : " أما بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك ، ولست بدار مضيعة ولا هوان فالحق بنا نواسك " قال : فقلت هذا أيضا من البلاء والشر ، فسجرت بها التنور فأحرقتها فيه فلما مضت أربعون ليلة إذا رسول من النبي صلى الله عليه وسلم قد أتاني فقال : اعتزل امرأتك فقلت : أطلقها ؟ قال : لا ولكن لا تقربها . قال : فجاءت امرأة هلال بن أمية فقالت : يا نبي الله إن هلال بن أمية شيخ كبير ضعيف فهل تأذن لي أن أخدمه ؟ قال : نعم ولكن لا يقربك قالت : يا نبي الله والله ما به من حركة لشيء ما زال مكبا يبكي الليل والنهار ، منذ كان أمره ما كان ، قال كعب : فلما طال علي البلاء اقتحمت على أبي قتادة حائطه ، وهو ابن عمي فسلمت عليه فلم يرد علي ، فقلت : أنشدك الله يا أبا قتادة ، أتعلم أني أحب الله ورسوله فسكت ، ثم قلت : أنشدك الله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسوله فسكت ، ثم قلت : أنشدك الله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسوله قال : الله ورسوله أعلم قال : فلم أملك نفسي أن بكيت ، ثم [ ص: 404 ] اقتحمت الحائط خارجا حتى إذا مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا ، صليت على ظهر بيت لنا صلاة الفجر ، ثم جلست وأنا في المنزلة التي قال الله ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم إذ سمعت نداء من ذروة سلع أن أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجدا ، وعرفت أن الله قد جاءنا بالفرح ، ثم جاء رجل يركض على فرس ، يبشرني فكان الصوت أسرع من فرسه ، فأعطيته ثوبي بشارة ولبس ثوبين آخرين قال : وكانت توبتنا نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ثلث الليل فقالت أم سلمة : يا نبي الله ألا نبشر كعب بن مالك ؟ قال : " إذا يحطمكم الناس ويمنعونكم النوم سائر الليلة " قال : وكانت أم سلمة محسنة في شأني تحزن بأمري ، فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر ، وكان إذا سر بالأمر استنار ، فجئت فجلست بين يديه فقال : " أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك " قال : قلت يا نبي الله أمر من عند الله أم من عندك ؟ قال : " بل من عند الله " ثم تلا عليهم [ ص: 405 ] لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار حتى بلغ ( التواب الرحيم ) قال : وفينا أنزلت أيضا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين قال : قلت : يا نبي الله إن من توبتي إذا ألا أحدث إلا صدقا ، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله ؟ فقال : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " فقلت : إني أمسك سهمي الذي بخيبر قال : فما أنعم الله علي نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدقته ، أنا وصاحباي أن لا نكون كذبناه فهلكنا ، كما هلكوا وإني لأرجو أن [ لا ] يكون الله عز وجل ابتلى أحدا في الصدق مثل الذي ابتلاني ، ما تعمدت لكذبة بعد وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي قال الزهري : فهذا ما انتهى إلينا من حديث كعب بن مالك .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية