الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن محمد بن سيرين عن أم عطية الأنصارية قالت دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور فإذا فرغتن فآذنني قالت فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه فقال أشعرنها إياه تعني بحقوه إزاره [ ص: 70 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 70 ] 518 521 - ( مالك ، عن أيوب بن أبي تميمة ) بفوقية بلفظ واحدة التمائم ، واسمه كيسان ( السختياني ، عن محمد بن سيرين ) الأنصاري مولاهم ( عن أم عطية ) اسمها نسيبة ، بنون ومهملة وموحدة مصغر على المشهور ، وعن ابن معين وغيره : فتح النون وكسر السين ، بنت كعب ، ويقال بنت الحارث ( الأنصارية ) صحابية فاضلة مشهورة مدنية ، ثم سكنت البصرة ، قال ابن المنذر وابن عبد البر : ليس في أحاديث غسل الميت أصح منه ولا أعم ، وعليه عول العلماء أنها ( قالت : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته ) وفي رواية عبد الوهاب الثقفي وابن جريج عن أيوب : " دخل علينا ونحن نغسل ابنته " وجمع بأنه دخل حين شرع النسوة في الغسل . وللنسائي من وجه آخر عن أم عطية : " ماتت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إلينا " والمشهور أنها زينب والدة أمامة المتقدمة ، وهي أكبر بناته ، ماتت في أول سنة ثمان . ولمسلم عن عاصم الأحول عن أم عطية : " ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لنا : اغسلنها " الحديث . ولابن ماجه بإسناد جيد : " دخل علينا ونحن نغسل ابنته أم كلثوم " وفي مبهمات ابن بشكوال من وجه آخر عن أم عطية : " كنت فيمن غسل أم كلثوم " وللدولابي عن أم عمرة : " أن أم عطية كانت فيمن غسل أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم " فيمكن ترجيحه لتعدد طرقه ، وبه جزم الداودي ، والجمع بأن تكون حضرتهما جميعا ، فقد جزم ابن عبد البر بأن أم عطية كانت غاسلة الميتات ، وعزو النووي تبعا لعياض أي تبعا لابن عبد البر تسميتها أم كلثوم لبعض أهل السير قصور شديد ، وقول المنذري إنها ماتت والنبي ببدر فلم يشهدها غلط ، فالميتة وهو ببدر رقية .

                                                                                                          ( فقال : اغسلنها ) أمر لأم عطية ومن معها ، ووقفت من تسميتهن على ثلاث ، فعند الدولابي عن أسماء بنت عميس أنها كانت فيمن غسلها ، قالت : ومعنا صفية بنت عبد المطلب . ولأبي داود عن ليلى بنت قانف بقاف ونون الثقفية قالت : كنت فيمن غسلها . وللطبراني عن أم سليم ما يومي إلى أنها حضرت ذلك أيضا ، قال ابن بزيزة : استدل به على وجوب غسل الميت ، وهو ينبني على أن قوله ( بعد أن رأيتن ذلك ) يرجع إلى الغسل أو إلى العدد ، والثاني أرجح فيثبت المدعى .

                                                                                                          قال ابن دقيق العيد : لكن قوله ( ثلاثا ) ليس للوجوب على المشهور من مذاهب العلماء ، فالاستدلال به على تجويز إرادة المعنيين المختلفين بلفظ واحد ; لأن لفظ ( ثلاثا ) لا يستقل بنفسه فلا بد من دخوله تحت الأمر ، فيراد به الوجوب بالنسبة لأصل الغسل والندب بالنسبة إلى الإيتار اهـ . وقواعد الشافعية أي [ ص: 71 ] والمالكية لا تأبى ذلك . وذهب الحسن والكوفيون وأهل الظاهر والمزني إلى وجوب الثلاث ، وإن خرج منه شيء بعدها غسل موضعه فقط ، ولا يزاد على الثلاث ، وهو خلاف ظاهر الحديث .

                                                                                                          ( أو خمسا ) وفي رواية حفصة عن أم عطية : " اغسلنها وترا وليكن ثلاثا أو خمسا " وأو للترتيب لا للتخيير ، وحاصله أن الإيتار مطلوب والثلاثة مستحبة فإن حصل الإنقاء بها لم يشرع ما زاد وإلا زيد وترا حتى يحصل الإنقاء ، والواجب مرة واحدة تعم جميع البدن ، قاله النووي . قال ابن العربي في قوله : أو خمسا ، إشارة إلى الإيتار ; لأنه نقلهن من الثلاث إلى الخمس وسكت عن الأربع ( أو أكثر من ذلك ) بكسر الكاف ; لأنه خطاب للمؤنث . وفي رواية أيوب عن حفصة عن أم عطية عند البخاري ثلاثا أو خمسا أو سبعا ، ولم أر في شيء من الروايات بعد سبعا التعبير بأكثر من ذلك إلا في رواية أبي ذر وأما سواها فإما سبعا وإما أو أكثر من ذلك ، فيحتمل تفسيره بالسبع ، وبه قال أحمد وكره الزيادة عليها . وقال ابن عبد البر : لا أعلم أحدا قال بمجاوزة السبع ، وساق من طريق قتادة أن ابن سيرين كان يأخذ الغسل عن أم عطية ثلاثا وإلا فخمسا وإلا فأكثر ، قال : فرأينا أن أكثر من ذلك سبع ( إن رأيتن ذلك ) تفويض إلى اجتهادهن بحسب الحاجة لا التشهي . وقال ابن المنذر : إنما فوض إليهن بالشرط المذكور وهو الإيتار ، وقال بعضهم : يحتمل أن يرجع إلى الأعداد المذكورة ، ويحتمل أن معناه إن رأيتن فعل ذلك وإلا فالإنقاء يكفي ، قاله كله الحافظ ببعض اختصار .

                                                                                                          قال ابن عبد البر : وجميع رواة الموطأ قالوا : إن رأيتن ذلك ، إلا يحيى ، وهو مما عد من سقطه ، وفي هذه اللفظة من الفقه رد عدد الغسلات إلى الغاسل على حسب ما يرى بعد الثلاث من بلوغ الوتر فيها ( بماء وسدر ) متعلق بقوله اغسلنها ، وظاهره أن السدر يخلط في كل مرة من مرات الغسل . وقال القرطبي : يجعل السدر في ماء ويخضخض إلى أن تخرج رغوته ويدلك به جسده ثم يصب عليه الماء القراح فهذه غسلة . وقال قوم : يطرح ورقات السدر في الماء لئلا يمازج الماء فيتغير عن وصف المطلق ، وأنكر ذلك أحمد فقال : يغسل في كل مرة بالماء والسدر . وقال ابن العربي : هذا الحديث أصل في التطهير إذا لم يسلب الماء الإطلاق . وهو مبني على الصحيح المشهور عند الجمهور أن غسل الميت تعبدي يشترط فيه ما يشترط في بقية الاغتسالات الواجبة والمندوبة ، خلافا لابن شعبان وغيره من المالكية أنه للتنظيف فيجزئ بماء الورد ونحوه ، وإنما كره للسرف ، وقيل : شرع احتياطا لاحتمال أنه جنب ، وفيه نظر ; لأن لازمه أن لا يشرع من لم يبلغ وهو خلاف الإجماع ( واجعلن في ) الغسلة ( الآخرة ) بكسر الخاء ( كافورا ) طيب معروف ، يكون من شجر بجبال الهند والصين ، يظل خلقا كثيرا وتألفه النمور ، وخشبه أبيض هش ، ويوجد في [ ص: 72 ] أجوافه الكافور ، وهو أنواع ولونه أحمر وإنما يبيض بالتصعيد ( أو شيئا من كافور ) شك من الراوي ، قال أي اللفظين والأول محمول على الثاني ; لأنه نكرة في سياق الإثبات فيصدق بكل شيء منه . وجزم في رواية الثقفي وابن جريج عن أيوب عند البخاري بالشق الأول ، وظاهره جعل الكافور في الماء ، وبه قال الجمهور .

                                                                                                          وقال النخعي والكوفيون : إنما يجعل في الحنوط بعد انتهاء الغسل والتجفيف ، وحكمة الكافور زيادة على تطييب رائحة الموضع للحاضرين من الملائكة وغيرهم أن فيه تجفيفا وتبريدا وقوة نفوذ وخاصية في تصليب بدن الميت وطرد الهوام عنه ورد ما يتحلل من الفضلات ومنع إسراع الفساد إليه ، وهو أقوى الروائح الطيبة في ذلك ، وهذا سر جعله في الأخيرة ; إذ لو كان في الأولى مثلا لأذهبه الماء ، وهل يقوم المسك مثلا مقامه إن نظر إلى مجرد التطييب ؟ نعم ، وإلا فلا ، وقد يقال : إذا عدم الكافور قام غيره مقامه إذا ماثله ولو بخاصية واحدة قاله الحافظ .

                                                                                                          ( فإذا فرغتن ) من غسلها ( فآذنني ) بمد الهمزة وكسر المعجمة وفتح النون الأولى مشددة وكسر الثانية ، أي أعلمنني ( قالت ) أم عطية ( فلما فرغنا ) بصيغة الماضي ، جماعة المتكلمين ، وفي رواية " فرغن " بصيغة الغائب لجمع المؤنث ( آذناه ) أعلمناه ( فأعطانا حقوه ) بفتح الحاء المهملة ويجوز كسرها وهي لغة هذيل بعدها قاف ساكنة ( فقال أشعرنها ) بهمزة قطع ( إياه ) أي اجعلنه شعارها ، أي الثوب الذي يلي جسدها تبركا ، وحكمة تأخيره معه حتى فرغن من الغسل دون إعطائه لهن ليكون قريب العهد من جسده الكريم بلا فاصل من انتقاله من جسده إلى جسدها ، وهو أصل في التبرك بآثار الصالحين ( تعني ) أم عطية ( بحقوه إزاره ) وهو في الأصل معقد الإزار مجازا ، وفي رواية ابن عون عن ابن سيرين : " فنزع من حقوه إزاره " والحقو في هذا على حقيقته ، وهذا الحديث رواه البخاري عن إسماعيل بن عبد الله ومسلم ، والثلاثة عن قتيبة بن سعيد وأبو داود عن القعنبي ، الثلاثة أيضا عن مالك به ، وله طرق في الصحيحين وغيرهما عن أيوب وغيره بزيادات ، ومداره على محمد بن سيرين وأخته حفصة بنت سيرين عن أم عطية .




                                                                                                          الخدمات العلمية