الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني مالك عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يمنع أحدكم جاره خشبة يغرزها في جداره ثم يقول أبو هريرة ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          1462 1425 - ( مالك ، عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ، وقال خالد بن مخلد : عن مالك ، عن أبي الزناد بدل الزهري ( عن الأعرج ) عبد الرحمن بن هرمز ، وقال بشر بن عمر ، وهشام بن يوسف : عن مالك ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بدل الأعرج ، وكذا قال معمر ، رواها الدارقطني في الغرائب وقال : المحفوظ عن مالك الأول ، أي ما في الموطأ ، وبه جزم ابن عبد البر ، ثم أشار إلى احتمال أنه عند الزهري عن الجميع ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يمنع ) بالرفع خبر بمعنى النهي ، وفي رواية بالجزم على أن " لا " ناهية ، ولأحمد : " لا [ ص: 68 ] يمنعن " بزيادة نون التوكيد وهي تؤكد رواية الجزم ( أحدكم جاره ) الملاصق له ( خشبة ) بالتنوين مفرد ، وفي رواية بالهاء بصيغة الجمع ، وقال المزني عن الشافعي عن مالك : " خشبة " بلا تنوين ، وقال عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن مالك " خشبة " بالتنوين ، قال ابن عبد البر : والمعنى واحد لأن المراد بالواحدة الجنس ، قال الحافظ : وهذا الذي يتعين للجمع بين الروايتين وإلا فقد يختلف المعنى لأن أمر الخشبة الواحدة أخف في مسامحة الجار بخلاف الخشب الكثير . وروى الطحاوي عن جماعة من المشايخ أنهم رووه بالإفراد ، وأنكره عبد الغني بن سعيد ، فقال : كل الناس يقولونه بالجمع إلا الطحاوي فقال : " خشبة " بالتوحيد ، ويرد عليه اختلاف الرواية المذكورة إلا إن أراد خاصا من الناس كالذين روى عنهم الطحاوي فله اتجاه اهـ . وفي المفهم : إنما اعتنى الأئمة بضبط هذا الحرف لأن الواحدة تخف على الجار أن يسمح بها بخلاف الخشب الكثير لما فيه من ضرره ، ورجح ابن العربي رواية الإفراد لأن الواحدة مرفق وهي التي يحتاج للسؤال عنها ، وأما الخشب فكثير يوجب استحقاق الحائط على الجار ويشهد له وضع الخشب ، يعني فلا يندبه الشرع إلى ذلك وفيه نظر .

                                                                                                          ( يغرزها ) ، أي الخشبة أو الخشب ، وللقعنبي : أن يغرز خشبة ( في جداره ) أي الأحد المنهي تنزيها فيستحب أن لا يمنع ولا يقضى عليه عند الجمهور ، ومالك وأبي حنيفة والشافعي في الجديد جمعا بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه " . رواه الحاكم بإسناد على شرط الصحيحين . القرطبي : وإذا لم يجبر المالك على إخراج ملكه بعوض فأحرى بغير عوض . ابن العربي : ويدل على أنه للندب أن مثل هذا التركيب جاء للندب في قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها " . وقال الشافعي في القديم وأحمد وإسحاق وابن حبيب وأصحاب الحديث : يجبر إن امتنع لأن الأصح في الأصول أن صيغة " لا تفعل " للتحريم ، فالإذن لازم بشرط احتياج الجار ، وأن لا يضع عليه ما يتضرر به المالك ، وأن لا يقدم على حاجة المالك ، ولا فرق بين أن يحتاج في وضع الجذع إلى ثقب الجدار أو لا; لأن رأس الجذع يسد المنفتح ويقوي الجدار ، واشترط بعضهم تقدم استئذان الجار في ذلك لرواية أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك : " من سأله جاره " . وكذا لابن حبان من طريق الليث عن مالك ، ومثله في رواية ابن عيينة وعقيل عند أبي داود ، وزياد بن سعد عند أبي عوانة ، الثلاثة عن الزهري . وجزم الترمذي وابن عبد البر عن الشافعي بالقول القديم وهو نصه في البويطي ، قال البيهقي : لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا ينكر أن يخصها ، وقد حمله الراوي على ظاهره وهو أعلم بالمراد بما حدث به ، يشير إلى [ ص: 69 ] قوله : ( ثم يقول أبو هريرة ) بعد روايته لهذا الحديث محافظة على العمل به وحضا عليه لما رآهم توقفوا عنه ، ففي الترمذي : أنه لما حدثهم بذلك لما طاطوا رءوسهم . وفي أبي داود : فنكسوا رءوسهم ، فقال : ( ما لي أراكم عنها ) أي عن هذه السنة أو المقالة ( معرضين ) إنكارا لما رأى من إعراضهم واستثقالهم ما سمعوا منه وعدم إقبالهم عليها بل طاطوا رءوسهم ( والله لأرمين بها ) أي لأصرخن بهذه المقالة ( بين أكتافكم ) رويناه بالفوقية ، جمع كتف ، وبالنون جمع كنف بفتحها وهو الجانب ، وهذا بين في أنه حمله على الوجوب ، قاله ابن عبد البر ، أي لأشيعن هذه المقالة فيكم ولأقرعنكم بها كما يضرب الإنسان بالشيء بين كتفيه فيستيقظ من غفلته ، أو الضمير للخشبة ، والمعنى : إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلن الخشبة بين رقابكم كارهين ، وأراد بذلك المبالغة ، قاله الخطابي .

                                                                                                          وبهذا التأويل جزم إمام الحرمين تبعا لغيره وقال : إن ذلك وقع من أبي هريرة حين كان يلي إمرة المدينة ، لكن عند ابن عبد البر من وجه آخر : " لأرمين بها بين أعينكم وإن كرهتم " . وهذا يرجح التأويل الأول . وقال الطيبي : هو كناية عن إلزامهم بالحجة القاطعة على ما ادعاه ، أي لا أقول الخشبة ترمى على الجدار بل بين أكتافكم لما وصى به صلى الله عليه وسلم من بر الجار والإحسان إليه وحمل أثقاله ، وهذا من أبي هريرة ظاهر في أنه يرى الوجوب ، وبه جزم ابن عبد البر ، وقال القرطبي : إنه الظاهر ، وقول الباجي : يحتمل أن مذهبه الندب ؛ إذ لو كانت عنده للوجوب لوبخ الحكام على تركه ولحكم بذلك لأنه كان مستخلفا بالمدينة ، فيه نظر; لأنه إنما كان يلي إمرة المدينة نيابة عن مروان في بعض الأحيان ، فلعله لم يترافع إليه حين توليته ولم يوبخ الحكام لعدم علمه بأنهم لم يحكموا به ، واستدل المهلب وتبعه عياض بقول أبي هريرة هذا على أن العمل كان في ذلك العصر على خلاف مذهبه ; لأنه لو كان على الوجوب لما جهل الصحابة تأويله ولا أعرضوا عنه لأنهم لا يعرضون عن واجب ، فدل على أنهم حملوا الأمر على الاستحباب ، وتعقبه الحافظ فقال : ما أدري من أين له أن المعرضين صحابة وأنهم عدد لا يجهل مثلهم الحكم ، ولم لا يجوز أن الذين خاطبهم أبو هريرة لم يكونوا فقهاء بل هو المتعين; إذ لو كانوا صحابة أو فقهاء ما واجههم بذلك اهـ . والحديث رواه البخاري في المظالم ، وأبو داود في القضاء عن القعنبي ، ومسلم في البيوع عن يحيى التميمي ، كلاهما عن مالك به .




                                                                                                          الخدمات العلمية