الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1327 [ ص: 70 ] الحديث الحادي عشر لزيد بن أسلم

مسند يجري مجرى المتصل

مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب ، أو ورق بأكثر من وزنها ، فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن مثل هذا ، إلا مثلا بمثل ، فقال له معاوية : ما أرى بهذا بأسا ، فقال أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية ؟ أنا أخبره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويخبرني عن رأيه ، لا أساكنك أرضا أنت بها ، ثم قدم أبو الدرداء على عمر ، فذكر ذلك له ، فكتب عمر إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا مثل بمثل ، وزنا بوزن .

التالي السابق


قد ذكرنا أبا الدرداء عويمرا - رحمه الله - في كتاب الصحابة بما يغني عن ذكره هاهنا ، وكذلك ذكرنا معاوية هنالك .

والسقاية : الآنية ، قيل : إنها آنية كالكأس وشبهه ، يشرب بها . وقال الأخفش السقاية الإناء الذي يشرب به .

[ ص: 71 ] وقال أبو عبيدة في قوله عز وجل : جعل السقاية في رحل أخيه ، قال : السقاية مكيال كان يسمى السقاية . وقال غيره : بل كل إناء يشرب فيه .

وذكر ابن حبيب عن مالك ، قال : السقاية البرادة يبرد فيها الماء تعلق ، وقال الأخفش : أهل الحجاز يسمون البرادة سقاية ، ويسمون الحوض الذي فيه الماء سقاية .

وقال ابن وهب : بلغني أنها كانت قلادة خرز ، وذهب ، وورق .

وقال ابن حبيب : من قال إن السقاية قلادة ، فقد وهم وأخطأ ، وهو قول لا وجه له ثم أهل العلم باللسان .

قال أبو عمر :

ظاهر هذا الحديث الانقطاع ; لأن عطاء لا أحفظ له سماعا من أبي الدرداء ، وما أظنه سمع منه شيئا ; لأن أبا الدرداء توفي بالشام في خلافة عثمان لسنتين بقيتا من خلافته ، ذكر ذلك أبو زرعة عن أبي مسهر ، عن سعيد بن عبد العزيز .

[ ص: 72 ] وقال الواقدي : توفي أبو الدرداء سنة اثنتين وثلاثين ، ومولد عطاء بن يسار سنة إحدى وعشرين ، وقيل سنة عشرين

قال أبو عمر :

وقد روى عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر ، عن أبي الدرداء حديث لهم البشرى ، وممكن أن يكون سمع عطاء بن يسار من معاوية ; لأن معاوية توفي سنة ستين ، وقد سمع عطاء بن يسار من أبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن عمر ، وجماعة من الصحابة هم أقدم موتا من معاوية ، ولكنه لم يشهد هذه القصة ; لأنها كانت في زمن عمر ، وتوفي عمر سنة ثلاث وعشرين ، أو أربع وعشرين من الهجرة .

واختلف في وقت وفاة عطاء بن يسار ، فقال الهيثم بن عدي : توفي سنة سبع وتسعين ، وقال الواقدي : توفي عطاء بن يسار سنة ثلاث ومائة ، وهو ابن أربع وثمانين سنة ، أخبرني بذلك أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه .

على أن هذه القصة لا يعرفها أهل العلم لأبي الدرداء إلا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ، وأنكرها بعضهم ; لأن شبيها بهذه القصة عرضت لمعاوية مع عبادة بن الصامت ، وهي صحيحة مشهورة محفوظة لعبادة مع معاوية من وجوه وطرق شتى .

[ ص: 73 ] وحديث تحريم التفاضل في الورق بالورق ، والذهب ، لعبادة ، محفوظ عند أهل العلم ، ولا أعلم أن أبا الدرداء روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصرف ، ولا في بيع الذهب بالذهب ، ولا الورق بالورق حديثا ، والله أعلم .

وكان معاوية يذهب إلى أن النهي والتحريم إنما ورد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدينار المضروب ، والدرهم المضروب ، لا في التبر من الذهب والفضة بالمضروب ، ولا في المصوغ بالمضروب ، وقيل : إن ذلك إنما كان منه في المصوغ خاصة ، والله أعلم حتى وقع له مع عبادة ما يأتي ذكره في هذا الباب ، وقد سأل عن ذلك أبا سعيد بعد حين ، فأخبره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريم التفاضل في الفضة بالفضة ، والذهب بالذهب : تبرهما وعينهما ، وتبر كل واحد منهما بعينه .

وإنما كان سؤاله أبا سعيد ، استثباتا ; لأنه كان يعتقد أن النهي إنما ورد في العين ، ولم يكن - والله أعلم - علم بالنهي حتى أعلمه غيره . وخفاء مثل هذا على مثله غير نكير ; لأنه من علم الخاصة . وذلك موجود لغير واحد من الصحابة .

[ ص: 74 ] ويحتمل أن يكون مذهبه كان كمذهب ابن عباس ; فقد كان ابن عباس - وهو بحر في العلم - لا يرى بالدرهم بالدرهمين يدا بيد بأسا ، حتى صرفه عن ذلك أبو سعيد .

وذكر الحلواني ، قال : حدثنا محمد بن عيسى ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو حرة ، قال : سأل رجل ابن سيرين عن شيء ؟ فقال : لا علم لي به ، فقال الرجل : إني أحب أن تقول فيه برأيك ، قال : إني أكره أن أقول فيه برأيي ، ثم يبدو لي غيره ، فأطلبك فلا أجدك ، إن ابن عباس قد رأى في الصرف رأيا ، ثم رجع عنه .

[ ص: 75 ] أخبرني عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا حماد بن سليمان الربعي ، عن أبي الجوزاء ، قال : سمعت ابن عباس وهو يأمر بالصرف الدرهم بالدرهمين ، والدينار بالدينارين يدا بيد ، فقدمت العراق ، فأفتيت الناس بذلك ، ثم بلغني أنه نزل عن ذلك ، فقدمت مكة ، فسألته ، فقال لي : إنما كان ذلك رأيا مني ، وهذا أبو سعيد يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنه .

قال أبو عمر :

حديث أبي سعيد في الصرف عند مالك ، عن نافع ، عن أبي سعيد ، يأتي ذكره في باب نافع من هذا الكتاب ، إن شاء الله .

فغير نكير أن يخفى على معاوية ما خفي على ابن عباس .

وقد روينا عن معاوية - كما قدمنا ذكره - أنه كان يذهب إلى أن الربا في المضروب دون غيره ، وهو شيء لا وجه له عند أحد من أهل العلم ، وقد قلنا : إن قصته المذكورة في هذا الحديث مع أبي الدرداء ، لا توجد إلا في حديث زيد هذا .

وإذا كان ابن عباس ، وعمر قبله ، وأبو بكر قبلهما ، يخفى عليهم ما يوجد عند غيرهم ممن هو دونهم ، فمعاوية أحرى أن يوجد عليه مثل ذلك مع أبي الدرداء .

[ ص: 76 ] وأما قصة معاوية مع عبادة ، فحدثني أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن حكيم بن جابر ، عن عبادة بن الصامت ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : الذهب بالذهب مثلا بمثل ، الكفة بالكفة ، والفضة بالفضة مثلا بمثل ، الكفة بالكفة ، والبر بالبر ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، والشعير بالشعير مثلا بمثل ، يدا بيد ، والتمر بالتمر مثلا بمثل ، يدا بيد . قال : حتى ذكر الملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، قال معاوية : إن هذا لا يقول شيئا ، فقال لي عبادة : والله لا أبالي أن لا أكون بأرضكم هذه .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن إسماعيل ، قال : حدثني حكيم بن جابر ، عن عبادة بن الصامت ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر نحوه إلى قوله : الملح بالملح [ ص: 77 ] وقال : قال معاوية : إن هذا لا يقول شيئا ، فقال عبادة : إني والله ما أبالي أن لا أكون بأرض معاوية ، أشهد أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد بن مسرهد ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن خالد الحذاء ، قال : أنبأنا أبو قلابة ، عن أبي أسماء ، عن عبادة بن الصامت ، أنهم أرادوا بيع آنية من فضة إلى العطاء ، فقال عبادة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة : والبر بالبر ، والتمر بالتمر ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح ، يدا بيد ، مثلا بمثل ، من زاد أو ازداد فقد أربى .

هكذا عن خالد الحذاء عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، وهو خطأ ، والصواب في هذا الحديث ما قاله أيوب عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث ، عن خالد عن أبي قلابة عن أبي أسماء خطأ ، وقد خالفه الثوري وغيره عن خالد .

[ ص: 78 ] وأخطأ في قوله : إن الآنية بيعت إلى العطاء ، وإنما بيعت في أعطيات الناس ، لا إلى العطاء ، وإنما الحديثلأبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن عبادة ، لا أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، كذلك روى الثوري ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة .

ذكر وكيع ، وعبد الرزاق ، وعبد الملك بن الصباح الديناري كلهم عن الثوري عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت ، قال : كان معاوية يبيع الآنية من الفضة بأكثر من وزنها ، فقال : عبادة سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : الذهب بالذهب ، وزنا بوزن ، والفضة بالفضة ، وزنا بوزن : والبر بالبر ، مثلا بمثل ، والشعير بالشعير ، مثلا بمثل ، والتمر بالتمر ، مثلا بمثل ، والملح بالملح ، مثلا بالمثل ، وبيعوا الذهب بالفضة يدا بيد كيف شئتم ، والبر بالشعير يدا بيد كيف شئتم ، والتمر بالملح يدا بيد كيف شئتم . هذا لفظ حديث عبد الرزاق ، وقال وكيع : إذا اختلف الأصناف ، فبيعوا كيف شئتم .

وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثهم : قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث ، قال : كنا في غزاة وعلينا معاوية ، فأصبنا ذهبا ، وفضة ، فأمر معاوية رجلا ببيعها الناس في أعطياتهم ، فتنازع الناس فيها فقام عبادة ، فنهاهم فردوها ، فأتى الرجل معاوية ، فشكا إليه فقام معاوية خطيبا ، فقال : ما بال [ ص: 79 ] رجال يتحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث يكذبون فيها لم نسمعها : فقام عبادة ، فقال : والله لنحدثن عن رسول الله بما سمعنا وإن كره معاوية ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تبيعوا الذهب بالذهب ، ولا الفضة بالفضة ، ولا التمر بالتمر ، ولا البر بالبر ، ولا الشعير بالشعير ، ولا الملح بالملح ، إلا مثلا بمثل ، وسواء بسواء ، عينا بعين .

وحدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا عبد الله بن عمر ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : كنت في حلقة بالشام فيها مسلم بن يسار ، فجاء أبو الأشعث ، قالوا : أبو الأشعث ؟ فجلس ، فقلت : حدث أخاك حديث عبادة بن الصامت ، قال : نعم غزونا وعلى الناس معاوية ، فغنمنا غنائم كثيرة ، فكان فيما غنمنا آنية من فضة ، فأمر معاوية رجلا ببيعها في أعطيات الناس ، فتنازع الناس في ذلك ، فبلغ عبادة بن الصامت ذلك ، فقال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كره معاوية ، أو قال : أو رغم معاوية ، ما أبالي أن أصحبه في جنده ليلة سوداء ، قال حماد هذا ، أو نحوه .

[ ص: 80 ] وروى هذا الحديث محمد ابن سيرين عن محمد بن يسار ، وعبد الله بن عبيد ، عن عبادة : حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن سلمة بن علقمة ، عن محمد ابن سيرين ، قال : حدثني مسلم بن يسار ، وعبد الله بن عبيد ، وقد كان يدعى ابن هرمز ، قالا : جمع المنزل بين عبادة بن الصامت ، وبين معاوية ، إما في بيعة ، أو في كنيسة ، فقام عبادة ، فقال : نهى رسول الله عن الذهب بالذهب ، فذكر نحو ما تقدم ، وزاد : وأمرنا أن نبيع الذهب بالفضة ، والفضة بالذهب ، والبر بالشعير ، والشعير بالبر ، يدا بيد ، كيف شئنا .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن أبي العوام ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا هشام بن حسان عن محمد ابن سيرين ، عن رجلين أحدهما مسلم بن يسار ، عن عبادة بن الصامت نحوه .

وحدثنا سعيد بن نصر قراءة مني عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا ابن جدعان ، عن محمد ابن سيرين ، عن مسلم بن يسار ، عن عبادة بن الصامت ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الذهب بالذهب مثلا بمثل ، [ ص: 81 ] والورق بالورق مثلا بمثل ، والتمر بالتمر مثلا بمثل ، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل ، والشعير بالشعير مثلا بمثل ، حتى خص الملح بالملح مثلا بمثل ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى .

واللفظ لحديث الحميدي .

وروى هذا الحديث بكر المزني ، عن مسلم بن يسار ، عن عبادة ، كما رواه محمد بن سيرين : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا مبارك بن فضالة ، قال : حدثنا بكر بن عبد الله المزني ، عن أبي عبد الله مسلم بن يسار ، قال : خطب معاوية بالشام ، فقال : ما بال أقوام يزعمون أن النبي عليه السلام نهى عن الصرف ، وقد شهدنا النبي عليه السلام ولم نسمعه نهى عنه ، فقام عبادة بن الصامت ، فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن يباع الذهب بالذهب ، إلا مثلا بمثل ، والورق بالورق ، إلا مثلا بمثل ، وذكر ستة أشياء : البر ، والتمر ، والشعير ، والملح ، إلا مثلا بمثل ، لنحدثن بما سمعنا ، وإن كرهت يا معاوية ; لندعنك ، ولنلحقن بأمير المؤمنين ، فقال : أيها الرجل أنت وما سمعت .

[ ص: 82 ] حدثنا أحمد بن قاسم ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن الجهم السمري ، قالا جميعا : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن مسلم بن يسار ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن عبادة بن الصامت أنه قام ، فقال : يا أيها الناس إنكم قد أحدثتم بيوعا لا أدري ما هي ؟ وإن الذهب بالذهب وزنا بوزن ، تبره وعينه ، يدا بيد ، زاد محمد بن الجهم : والفضة بالفضة وزنا بوزن ، يدا بيد تبرها وعينها ، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة ، والفضة بالفضة أكثرهما يدا بيد ، ولا يصلح نساء ، والبر بالبر ، مدا بمد يدا بيد ، والشعير بالشعير مدا بمد ، يدا بيد ; ولا بأس ببيع الشعير بالبر والشعير أكثرهما ، يدا بيد ، ولا يصلح نسيئة ، والتمر بالتمر ، حتى عد الملح بالملح ، مثلا بمثل يدا بيد من زاد أو ازداد ، فقد أربى .

قال قتادة : وكان عبادة بدريا عقبيا أحد نقباء الأنصار ، وكان بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يخاف في الله لومة [ ص: 83 ] لائم ، هكذا رواه ابن أبي عروبة عن قتادة ، عن مسلم بن يسار موقوفا ، فذكر الحديث ، وتابع هشام الدستوائي سعيد بن أبي عروبة على هذا الإسناد ، عن قتادة ، عن مسلم بن يسار .

ورواه همام عن قتادة عن أبي الخليل عن مسلم المكي عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن عبادة بن الصامت ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وسعيد ، وهشام ، كلاهما عندهم أحفظ من همام ، فهذا ما بلغنا في قصة معاوية مع عبادة في بيع الآنية بأكثر من وزنها ذهبا كانت أو فضة ، وذلك عند العلماء معروف لمعاوية مع عبادة ، لا مع أبي الدرداء ، والله أعلم .

وممكن أن يكون له مع أبي الدرداء مثل هذه القصة أو نحوها ، ولكن الحديث في الصرف محفوظ لعبادة ، وهو الأصل الذي عول عليه العلماء في باب الربا ، ولم يختلفوا أن فعل معاوية في ذاك غير جائز وأن بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، لا يجوز إلا مثلا بمثل تبرهما ، وعينهما ، ومصوغهما ، وعلى أي وجه كانت ، وقد مضى في باب حميد بن قيس ، حديث ابن عمر في الصائغ الذي أراد أن يأخذ فضل عمله ، فقال ابن عمر : لا ، هذا عهد رآه إلينا ، وعهدنا إليكم .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا موسى بن معاوية ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا سفيان عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، [ ص: 84 ] عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن عبادة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد .

وقرأت على عبد الوارث أن قاسما حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا أمي الصيرفي ، قال : حدثنا أبو صالح سنة مائة ، قال : كتب أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إلى عماله : أن لا يشتروا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، ولا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل ، ولا الحنطة بالحنطة إلا مثلا بمثل ، ولا الشعير بالشعير إلا مثلا بمثل ، ولا التمر بالتمر إلا مثلا بمثل .

قال أبو عمر :

على هذا مذهب الصحابة ، والتابعين ، وجماعة فقهاء المسلمين ، فلا وجه للإكثار فيه .

[ ص: 85 ] حدثني خلف بن القاسم بن سهل الحافظ ، قال : حدثنا أبو الميمون البجلي عبد الرحمن بن عمر بدمشق ، قال : حدثنا أبو زرعة ، قال : حدثنا محمد بن المبارك ، عن يحيى بن حمزة ، عن برد بن سنان ، عن إسحاق بن قبيصة بن [ ص: 86 ] ذؤيب ، عن أبيه : أن عبادة أنكر على معاوية شيئا ، فقال : لا أساكنك بأرض أنت بها ، ورحل إلى المدينة ، فقال له عمر : ما أقدمك ؟ فأخبره ، فقال : ارجع إلى مكانك ، فقبح الله أرضا لست فيها ، ولا أمثالك ، وكتب إلى معاوية : لا إمارة لك عليه .

قال أبو عمر :

فقول عبادة : لا أساكنك بأرض أنت بها ، وقول أبي الدرداء على ما في حديث زيد بن أسلم يحتمل أن يكون القائل ذلك قد خاف على نفسه الفتنة لبقائه بأرض ينفذ فيها في العلم قول خلاف الحق عنده ، وربما كان ذلك منه أنفة لمجاورة من رد عليه سنة علمها من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيه ، وقد تضيق صدور العلماء عند مثل هذا ، وهو عندهم عظيم : رد السنن بالرأي .

[ ص: 87 ] وجائز للمرء أن يهجر من خاف الضلال عليه ، ولم يسمع منه ولم يطعه ، وخاف أن يضل غيره ، وليس هذا من الهجرة المكروهة ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن لا يكلموا كعب بن مالك حين أحدث في تخلفه عن تبوك ما أحدث ، حتى تاب الله عليه ، وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع ، وهجرته ، وقطع الكلام معه .

وقد حلف ابن مسعود أن لا يكلم رجلا رآه يضحك في جنازة

أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا أحمد بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الملك بن بحر ، قال : حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا العباس بن الوليد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي ، عن رجل من عبس ، أن ابن مسعود رأى رجلا يضحك في جنازة ، فقال : تضحك وأنت في جنازة ؟ ! والله لا أكلمك أبدا .

وغير نكير أن يجهل معاوية ما قد علم أبو الدرداء ، وعبادة : فإنهما جليلان من فقهاء الصحابة وكبارهم .

[ ص: 88 ] قال أبو عمر :

حديث عبادة المذكور في هذا الباب ، وإن كانوا قد اختلفوا في إسناده ، فهو عند جماعة من فقهاء الأمصار أصل ما يدور عليه عندهم معاني الربا ; إلا أنهم قد اختلفت مذاهبهم في ذلك ، على ما أوضحناه في باب ابن شهاب ، عن مالك بن أوس بن الحدثان من هذا الكتاب ، والحمد لله .

قال أبو عمر :

ولا يوجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء ذكر فيه الربا غير هذه الستة الأشياء المذكورة في حديثعبادة ، وهي الذهب ، والفضة ، والبر ، والشعير ، والتمر ، والملح ، فجعلها جماعة علماء المسلمين القائلين بالقياس أصول الربا ، وقاسوا عليها ما أشبهها ، وما كان في معناها ، واستدلوا بقوله في الحديث : حتى خص الملح بالملح ، فجلعوا الملح أصلا لكل إدام ، فحرموا التفاضل في كل إدام ، كما حرموا التفاضل في كل مأكول على علل أصولها مستنبطة من هذا الحديث ، فذهب العراقيون إلى أن العلة فيها الكيل والوزن ، لأن كل ما ذكر من الأنواع الستة لم تخل من كيل أو وزن ، وكذلك جاء الحديث به نصا ، قال في الذهب ، وفي الورق : وزنا بوزن ، وقال في غير ذلك مدا بمد ونحو ذلك .

[ ص: 89 ] وسئل الشافعي ، فقال : العلة في ذلك الأكل لا غير إلا في الذهب والورق ، فلم يقس عليهما غيرهما ، لأنهما أثمان المبيعات ، وقيم المتلفات ، وكذلك قول أصحاب مالك في الذهب والورق ، وعللوا الأربعة ، بأنها أقوات مدخرة فأجازوا التفاضل فيما لا يدخر إذا كان يدا بيد ، ولا بأس عندهم رمانة برمانتين ، وتفاحة بتفاحتين أو ما كان مثل ذلك يدا بيد ، وذلك غير جائز عند الشافعي ; لأن علته في ذلك الأكل ، وسواء عنده ما يدخر ، وما لا يدخر .

والربا عند جماعة العلماء في الصنف الواحد يدخله من جهتين ، وهما النساء ، والتفاضل ، فلا يجوز شيء من الأنواع الستة بمثله ، إلا يدا بيد ، مثلا بمثل ، على ما نص عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإذا اختلف الجنس جاز فيه التفاضل ، ولم يجز فيه النساء ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بيعوا الذهب بالورق ، كيف شئتم يدا بيد ، وبيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدا بيد .

إلا أن مالكا جعل البر والشعير جنسا واحدا ، فلم يجز فيه التفاضل لشيء ، رواه عن سعد بن أبي وقاص ، [ ص: 90 ] وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، وسليمان بن يسار ; وخالفه في ذلك جماعة فقهاء الأمصار .

وسنذكر هذا المعنى مجودا في باب عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان من كتابنا هذا إن شاء الله .

قال أبو عمر :

لا ربا عند العلماء في غير هذه الأنواع الستة ، وما كان في معناها في عللهم وأصولهم التي ذكرنا ، ولا حرام عندهم في شيء من البيوع بعد ما تضمنت أصولهم المذكورة في هذا الباب على ما وصفنا ، إلا من طريق الزيادة في السلف ، والقول بالذرائع عند من قالها ، وهم مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما .

وكان سعيد بن المسيب ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد ، وجماعة ذهبوا إلى أن لا ربا إلا في ذهب ، أو ورق أو ما كان [ ص: 91 ] يكال ، أو يوزن مما يؤكل ، ويشرب استدلالا - والله أعلم - بحديث عبادة المذكور في هذا الباب وكانوا ينفون القول بالذرائع ، ويقولون : لا يحكم على مسلم أو غيره بظن ، ولا تشرع الأحكام بالظنون ، ولا ينبغي أن يظن المسلم إلا الخير .

وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : إنما الربا على من أراد أن يربي ، فهذا ما في السنة من أصول الربا .

وأما الربا الذي ورد به القرآن فهو الزيادة في الأجل ، يكون بإزائه زيادة في الثمن ، وذلك أنهم كانوا يتبايعون بالدين إلى أجل ، فإذا حل الأجل ، قال صاحب المال : إما أن تقضي ، وإما أن تربي ، فحرم الله ذلك في كتابه ، وعلى لسان رسوله ، واجتمعت عليه أمته .

ومن هذا الباب عند أهل العلم ضعف وتعجل ; لأنه عكس المسألة ، ومن رخص فيه لم يكن عنده من هذا الباب ، وجعله من باب المعروف .

وأما من نفى القياس من العلماء فإنهم لا يرون الربا في غير الستة الأشياء المذكورة في حديث عبادة بن الصامت ، وما عداها عندهم فحلال جائز بعموم قول الله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا ، وممن روي عنه هذا القول قتادة ، وما حفظته لغيره ، [ ص: 92 ] وهو مذهب داود بن علي ولهذا الباب تلخيص يطول شرحه ويتسع القول فيه ، وفيما ذكرت لك كفاية ، ومقنع لمن تدبر وفهم ، وبالله التوفيق .

وقد ذكرنا منه نكتا مستوعبة كافية في غير موضع من كتابنا هذا ، والحمد لله .




الخدمات العلمية