الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
298 [ ص: 222 ] حديث تاسع عشر لزيد بن أسلم مسند

مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن رجل من بني الديل ، يقال له : بسر بن محجن ، عن ( أبيه محجن ) : أنه كان في مجلس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأذن بالصلاة ، فقام ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، فصلى ، ثم رجع ، ومحجن في مجلسه ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما منعك أن تصلي مع الناس ، ألست برجل مسلم ؟ قال : بلى يا رسول الله ، ولكني قد صليت في أهلي ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا جئت فصل مع الناس ، وإن كنت قد صليت .

التالي السابق


اختلف الناس عن زيد بن أسلم في اسم هذا الرجل ، فقال مالك ، وأكثر الرواة له عن زيد فيه : بسر بن محجن بالسين المهملة . ( كذلك هو في الموطأ عند جمهور رواته ، وقيل فيه [ ص: 223 ] بشر بن عمر الزهراني . عن مالك عن زيد بن أسلم ، ( عن ) ، بشر بن محجن ، فقيل له في ذلك ؟ فقال : كان مالك بن أنس يروي هذا الحديث قديما عن زيد بن أسلم ، فيقول فيه : بشر ، فقيل له : هو بسر ، فقال : عن بسر أو بشر ، وقال بعد ذلك : عن زيد بن أسلم ، عن ابن محجن ، ولم يقل بسر ولا بشر ) .

وقال فيه الثوري : عن زيد بن أسلم : بشر بالشين المنقوطة . وكان أبو نعيم يقول بالسين ، كما قال مالك ومن تابعه .

( ورواه الدراوردي عن زيد بن أسلم ، فقال فيه : عن بشر بالمنقوطة ، كما قال الثوري .

ورواه ابن جريج ، عن زيد بن أسلم ، فقال فيه : بسر كما قال مالك ، وروى هذا الحديث أيضا حنظلة بن علي الأسلمي ، عن بشر بن محجن ، ولم يذكر أباه .

ورواه عبد الله بن جعفر بن نجيح ، عن زيد بن أسلم ، عن بشر بن محجن ، عن أبيه بالمنقوطة ، كما قال الثوري في رواية أصحاب الثوري عنه . وقد قيل فيه : عن الثوري بسر أيضا ) .

وحدثني أحمد بن عبد الله ، قال : حدثنا الميمون بن حمزة الحسيني ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي ، قال : [ ص: 224 ] سمعت إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، يقول : سمعت أحمد بن صالح في المسجد الجامع بمصر ، يقول : سمعت جماعة من ولده ومن رهطه ، فما اختلف ( علي ) منهم اثنان أنه بشر ، كما قال الثوري .

قال أبو عمر :

في هذا الحديث وجوه من الفقه :

أحدها : قوله - صلى الله عليه وسلم - لمحجن الديلي : ما منعك أن تصلي مع الناس ؟ ألست برجل مسلم ؟ وفي هذا - والله أعلم - دليل على أن من لا يصلي ليس بمسلم ، وإن كان موحدا ، وهذا موضع اختلاف بين أهل العلم ; وتقرير هذا الخطاب في هذا الحديث : أن أحدا لا يكون مسلما إلا أن يصلي ، فمن لم يصل فليس بمسلم .

وفيه أن من أقر بالصلاة بعملها وإقامتها ، أنه يوكل إلى ذلك إذا قال : إني أصلي ; لأن محجنا قال لرسول الله : قد صليت في أهلي ، فقبل منه . ولا حجة في هذا الحديث لمن قال : إن الإقرار بالصلاة دون إقامتها يحقن الدم ; لأنه لم يقل : إني مؤمن بالصلاة ، مقر أني لا أصلي ، بل قال له : قد صليت . والظاهر أنه [ ص: 225 ] لم ينجه إلا قوله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قد صليت في أهلي .

واختلف العلماء في حكم تارك الصلاة عامدا ، وهو على فعلها قادر : فروي عن علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وجابر ، وأبي الدرداء : تكفير تارك الصلاة . قالوا : من لم يصل فهو كافر .

وعن عمر بن الخطاب ، أنه قال : لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة . وعن ابن مسعود من لم يصل فلا دين له .

وقال إبراهيم النخعي ، والحكم بن عتيبة ، وأيوب السختياني ، وابن المبارك ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه : من ترك صلاة واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها لغير عذر ، وأبى من قضائها وأدائها ، وقال : لا أصلي ; فهو كافر ، ودمه وماله حلال ، ولا يرثه ورثته من المسلمين ، ويستتاب ، فإن تاب ، وإلا قتل ، وحكم ماله ما وصفنا ، كحكم مال المرتد ; وبهذا قال أبو داود الطيالسي ، وأبو خيثمة ، وأبو بكر بن أبي شيبة .

وقال إسحاق بن راهويه : وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زماننا هذا : إن تارك الصلاة عمدا من [ ص: 226 ] غير عذر حتى يذهب وقتها كافر ، إذا أبى من قضائها ، وقال لا أصليها . قال إسحاق : وذهاب الوقت أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس ، والمغرب إلى طلوع الفجر . قال : وقد أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل ، أو سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو دفع شيئا أنزله الله ، أو قتل نبيا من أنبياء الله ، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر ; فكذلك تارك الصلاة حتى يخرج وقتها عامدا . قال : ولقد أجمعوا في الصلاة على شيء لم يجمعوا عليه في سائر الشرائع ; لأنهم بأجمعهم قالوا : من عرف بالكفر ، ثم رأوه يصلي الصلاة في وقتها ، حتى صلى كثيرة في وقتها ولم يعلموا منه إقرارا باللسان ، أنه يحكم له بالإيمان ، ولم يحكموا له في الصوم والزكاة والحج بمثل ذلك .

قال إسحاق : فمن لم يجعل تارك الصلاة كافرا ، فقد ناقض وخالف أصل قوله وقول غيره ، قال : ولقد كفر إبليس إذ لم يسجد السجدة التي أمر بسجودها ، قال : وكذلك تارك الصلاة عمدا ( حتى يذهب وقتها ، كافر إذا أبى من قضائها ) . وقال أحمد بن حنبل : لا يكفر أحد بذنب إلا تارك الصلاة عمدا ، ثم ذكر استتابته وقتله .

[ ص: 227 ] وحجة من قال بهذا القول ، ما روي من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( في تكفير تارك الصلاة :

منها حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أنه ، قال : ليس بين العبد وبين الكفر ، أو قال بين الشرك ، إلا ترك الصلاة . وحديث بريدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : من ترك صلاة العصر - يعني متعمدا - فقد حبط عمله .

هذا كله مما احتج به إسحاق بن راهويه في هذه المسألة ، لقوله المذكور ، واحتج أيضا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا قوما ، لم يغر عليهم حتى يصبح ، فإذا أصبح كان إذا سمع أذانا أمسك ، وإذا لم يسمع أذانا أغار ووضع السيف . واحتج أيضا بقول الله عز وجل : أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا .

[ ص: 228 ] وبقوله عز وجل : وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين ، وبقوله عز وجل : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ، وبقوله عز وجل : الذين يقيمون الصلاة ، وأقاموا الصلاة ، وبآيات نحو هذا كثيرة ، وآثار .

واحتج غيره ممن ذهب مذهبه في هذه المسألة ، بحديث أبي هريرة ، قال : من ترك الصلاة ، حشر مع قارون وفرعون وهامان . وبحديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، فذلك المسلم .

قالوا : هذا دليل على أن من لم يصل صلاتنا ، ولم يستقبل قبلتنا ، فليس بمسلم . وبما رواه شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، قال : أوصاني خليلي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - بسبع : لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت وإن حرقت ، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدا ، فمن تركها فقد برئت منه ( الذمة ) ، ولا تشرب [ ص: 229 ] الخمر ، فإنها مفتاح كل شر ، وأطع والديك ، وإن أمراك أن تخرج لهما من دنياك فافعل ، ولا تنازع الأمر أهله ، وإن رأيت أنك أنت ، ولا تفر من الزحف ; فإن فيه الهلكة ، وأنفق على أهلك من طولك ، وأخفهم في الله ، ولا ترفع عصاك عنهم .

وبما روي عن الصحابة الذين قدمنا الذكر عنهم ( بذلك ) .

وجدت في كتاب أبي - رحمه الله - بخطه ، أن أحمد بن سعيد بن حزم ، حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن محمد بن بدر الباهلي ، قال : حدثنا أبو شريح محمد بن زكرياء كاتب العمري ، قال : حدثنا الفريابي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة .

ورواه ابن جريج عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : حدثنا أحمد بن حرب ، قال : حدثنا [ ص: 230 ] محمد بن ربيعة ، عن ابن جريج فذكره ، وأخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا الحسين بن حريث ، قال : حدثنا الفضل بن موسى ، عن الحسين بن واقد ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : قال - صلى الله عليه وسلم - : إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر . وذكر إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا محمد بن أبي بكر ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا المسعودي ، قال : أنبأني الحسن بن سعد ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ، قال : قيل لعبد الله إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن الذين هم على صلاتهم دائمون والذين هم على صلواتهم يحافظون ، فقال عبد الله : على مواقيتها ، فقال : ما كنا نرى إلا أن تترك ، فقال عبد الله : تركها الكفر .

وفي هذه المسألة قول ثان ، قال الشافعي : يقول الإمام لتارك الصلاة : صل ، فإن قال : لا أصلي سئل ؟ فإن ذكر علة تحبسه ، أمر بالصلاة على قدر طاقته ، فإن أبى من الصلاة حتى يخرج وقتها ، قتله الإمام ، وإنما يستتاب ما دام وقت الصلاة قائما ، يستتاب في أدائها وإقامتها ، فإن أبى ، قتل وورثه ورثته ، وهذا [ ص: 231 ] قول أصحاب مالك ومذهبهم ، وبعضهم يرويه عن مالك .

وروى محمد بن علي البجلي ، قال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : سمعت ابن وهب ، يقول : قال مالك من آمن بالله وصدق المرسلين ، وأبى أن يصلي ، قتل .

وبه قال أبو ثور ، وجميع أصحاب الشافعي ; وهو قول مكحول ، وحماد بن زيد ، ووكيع . ومن حجة من ذهب هذا المذهب ، أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - استحل دماء مانعي الزكاة ، وقال : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فقاتلهم على ذلك في جمهور الصحابة ، وأراق دماءهم ، لمنعهم الزكاة ، وإبايتهم من أدائها .

فمن امتنع من الصلاة وأبى من إقامتها ، كان أحرى بذلك .

ألا ترى أن أبا بكر ، شبه الزكاة بالصلاة ، ومعلوم أنهم كانوا مقرين بالإسلام والشهادة ، يوضح لك ذلك قول عمر لأبي بكر : كيف تقاتلهم ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ، فقال أبو بكر : هذا من حقها ، والله لو منعوني عناقا أو عقالا مما كانوا يعطون [ ص: 232 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لقاتلتهم على ذلك .

ولو كفر القوم لقال أبو بكر : قد تركوا لا إله إلا الله ، وصاروا مشركين ، وقد قالوا لأبي بكر بعد الإسار : ما كفرنا بعد إيماننا ، ولكن شححنا على أموالنا ، وذلك بين في شعرهم .

قال شاعرهم :


ألا فأصبحينا قبل نائرة الفجر لعل منايانا قريب وما ندري ؟     أطعنا رسول الله ما كان بيننا
فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر !     فإن الذي سألوكم فمنعتم
لكالتمر أو أشهى إليهم من التمر

فرأى أبو بكر في عامة الصحابة ومعه عمر قتالهم ، وبعث خالد بن الوليد وغيره إلى قتال من ارتد .

هذا كله احتج به الشافعي رحمه الله ، وقال : ففي هذا دلالة على أن من امتنع مما افترض الله عليه ، كان على الإمام أخذه به ، وقتاله عليه ، وإن أتى ذلك على نفسه .

وأما توريث ورثتهم أموالهم ; فلأن عمر بن الخطاب لما ولي ، رد على ورثة مانعي الزكاة كل ما وجد من أموالهم بأيدي الناس .

[ ص: 233 ] وقد كان أبو بكر سباهم ، كما سبى أهل الردة ، فخالفه في ذلك عمر ، لصلاتهم وتوحيدهم ، ورد إلى ورثتهم أموالهم في جماعة الصحابة ، ولم ينكر ذلك عليه أحد .

وقال أهل السير : إن عمر لما ولي ، أرسل إلى النسوة اللاتي كان المسلمون حازوهن ، ( فخيرهن ) أن يمكثن عند من هن عنده بتزويج وصداق ، أو يرجعن إلى أهليهن بالفداء ، فاخترن أن يمكثن عند من كن عنده ، فمكثن عندهم بتزويج وصداق .

قال : وكان الصداق الذي جعل لمن اختار أهله ، عشر أواق لكل امرأة ، والأوقية أربعون درهما ، فاحتج الشافعي بفعل عمر هذا في جماعة الصحابة أيضا من غير نكير .

( وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن طلحة بن يزيد ، قال : قال عمر بن الخطاب : لأن أكون سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاث أحب إلي من حمر النعم : الخليفة بعده ؟ ، وعن قوم أقروا بالزكاة ، ولم يؤدوها ، أيحل لنا قتالهم ؟ وعن الكلالة ؟

[ ص: 234 ] وروى حماد بن زيد ، عن عمرو بن مالك النكري ، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس ، قال : قواعد الدين ثلاثة : شهادة أن لا إله إلا الله ، والصلاة ، وصوم رمضان . ثم قال ابن عباس : تجده كثير المال ولا يزكي ، فلا يقال لذلك : كافر ، ولا يحل دمه .

وقد ذكرنا هذا الحديث بإسناده في كتاب الزكاة من كتاب الاستذكار ) .

ومن حجته أيضا ما حدثناه عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا هشام بن حسان ، عن ( الحسن ) ، عن ضبة بن محصن ، عن أم سلمة ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنه سيكون أمراء تعرفون وتنكرون ، فمن أنكر فقد برئ ، ومن كره فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع . قالوا : يا رسول الله ! ألا نقاتلهم ؟ قال : لا ، ما صلوا الخمس .

[ ص: 235 ] وفيه دليل ( على ) أنهم إن لم يصلوا الخمس ، قوتلوا .

ومن حجتهم أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - : نهيت عن قتل المصلين ، وفي ذلك دليل على أن من لم يصل لم ينه عن قتله ، والله أعلم .

ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه الذين شاوروه في قتل مالك بن الدخشم : أليس يصلي ؟ قالوا : بلى ، ولا صلاة له ، فنهاهم عن قتله ( لصلاته ، إذ قالوا له : بلى إنه يصلي ، ولو قالوا : إنه لا يصلي ، ما نهاهم عن قتله ) ، والله أعلم .

ولم يحتج عليهم في المنع من قتله ، إلا بالشهادة والصلاة ; لأنه قال لهم : أليس يشهد أن لا إله إلا الله ؟ قالوا : بلى ، ولا شهادة له ، فقال : أليس يصلي ؟ قالوا : بلى ، ولا صلاة له ، قال : أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم . وقد قال في غير ذلك الحديث : نهيت عن قتل المصلين .

واعتلوا في دفع الآثار المروية في تكفير تارك الصلاة ، بأن [ ص: 236 ] قالوا : معناها من ترك الصلاة جاحدا ( لها معاندا ) ، مستكبرا غير مقر بفرضها . قالوا : ويلزم من كفرهم بتلك الآثار ، وقبلها على ظاهرها فيهم ، أن يكفر القاتل ، والشاتم للمسلم ، وأن يكفر الزاني ، وشارب الخمر ، والسارق ، والمنتهب ، ومن رغب عن نسب أبيه . فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ، وقال : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه ( فيها ) أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن .

وقال : لا ترغبوا عن آبائكم ، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم . وقال : لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض . إلى آثار مثل هذه ، لا يخرج بها العلماء المؤمن من الإسلام ، وإن كان بفعل ذلك فاسقا عندهم ، فغير نكير أن تكون الآثار في تارك الصلاة كذلك .

[ ص: 237 ] قالوا : ومعنى قوله : سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ; أنه ليس بكفر يخرج عن الملة ; وكذلك كل ما ورد من تكفير من ذكرنا ، ممن يضرب بعضهم رقاب بعض ، ونحو ذلك .

وقد جاء عن ابن عباس ، وهو أحد الذين روي عنهم تكفير تارك الصلاة ، ( أنه ) قال في حكم الحاكم ( الجائر ) : كفر دون كفر .

حدثني محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا أحمد بن مطرف ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن حجير ، عن طاوس ، قال : قال ابن عباس : ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ، إنه ليس بكفر ينقل عن الملة ، ثم قرأ : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، واحتجوا أيضا بقول عبد الله بن عمر لا يبلغ المرء حقيقة الكفر ، حتى يدعو مثنى مثنى .

وقالوا : يحتمل قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يزني الزاني حين يزني ، وهو مؤمن . يريد مستكمل الإيمان ; لأن الإيمان يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية ; وكذلك السارق ، وشارب الخمر ، ومن ذكر معهم .

[ ص: 238 ] وعلى نحو ذلك تأولوا قول عمر بن الخطاب : لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة . قالوا : أراد أنه لا كبير حظ له ، ولا حظا كاملا له في الإسلام ، ومثله قول ابن مسعود وما أشبهه ، وجعلوه كقوله : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ، أي أنه ليس له صلاة كاملة . ومثله الحديث : ليس المسكين بالطواف عليكم ، يريد : ليس هو المسكين حقا ; لأن هناك من هو أشد مسكنة منه ، وهو الذي لا يسأل ، ونحو هذا مما اعتلوا به .

وقد رأى مالك استتابة الإباضية والقدرية ، فإن تابوا وإلا قتلوا . ذكر ذلك إسماعيل القاضي ، عن أبي ثابت ، عن ابن القاسم ، وقال : قلت لأبي ثابت : هذا رأي مالك في هؤلاء حسب ؟ قال : بل في كل أهل البدع . قال القاضي : وإنما رأى مالك ذلك فيهم ; لإفسادهم في الأرض ، وهم أعظم إفسادا من المحاربين ; لأن إفساد الدين أعظم من إفساد المال ، لا أنهم كفار .

قال أبو عمر :

فهذا مالك يريق دماء هؤلاء ، وليسوا عنده كفارا ; فكذلك تارك الصلاة عنده من هذا الباب قتله ، لا من جهة الكفر .

[ ص: 239 ] ومما يدل على أن تارك الصلاة ليس بكافر كفرا ينقل عن الإسلام إذا كان مؤمنا بها ، معتقدا لها ، حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة ، فلم يزل يسأل الله ويدعوه ، حتى صارت جلدة ( واحدة ) ، فامتلأ قبره نارا ، فلما أفاق ، قال : علام جلدتموني ؟ قالوا : إنك صليت صلاة بغير طهور ، ومررت على مظلوم فلم تنصره .

قال الطحاوي : في هذا الحديث ما يدل على أن تارك الصلاة ليس بكافر ; لأن من صلى صلاة بغير طهور ، فلم يصل ، وقد أجيبت دعوته ، ولو كان كافرا ما أجيبت له دعوة ; لأن الله تبارك وتعالى ، يقول : وما دعاء الكافرين إلا في ضلال .

وقد ذكرنا إسناد حديث ابن مسعود هذا في باب يحيى بن سعيد عند قوله - صلى الله عليه وسلم - : خمس كتبهن الله على العباد ، ثم قال : ومن لم يأت بهن ، فليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له .

ومما يدل على أن الكفر منه ما لا ينقل عن الإسلام ، قوله - صلى الله عليه وسلم - : يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ، وكافر [ ص: 240 ] النعمة يسمى كافرا ، وأصل الكفر في اللغة : الستر ، ومنه قيل لليل : كافر ; لأنه يستر .

قال لبيد :

في ليلة كفر النجوم غمامها

أي سترها ، وفي هذه المسألة قول ثالث قاله ابن شهاب ، رواه شعيب بن أبي حمزة عنه ، قال : إذا ترك الرجل الصلاة ، فإن كان إنما تركها ; لأنه ابتدع دينا غير الإسلام قتل ، وإن كان إنما هو فاسق ، فإنه يضرب ضربا مبرحا ، ويسجن حتى يرجع ، قال : والذي يفطر في رمضان كذلك ، قال أبو جعفر الطحاوي : وهو قولنا ، وإليه يذهب جماعة من سلف الأمة من أهل الحجاز والعراق .

قال أبو عمر :

بهذا يقول داود بن علي ، وهو قول أبي حنيفة في تارك الصلاة : إنه يسجن ويضرب ولا يقتل .

وابن شهاب القائل ما ذكرنا ، هو القائل أيضا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله . كان ذلك في أول الإسلام ، ثم نزلت الفرائض بعد ، وقوله هذا يدل على أن الإيمان عنده قول وعمل ( والله أعلم ) ، وهو قول الطائفتين [ ص: 241 ] اللتين ذكرنا قولهم قبل قول ابن شهاب ، كلهم يقولون : الإيمان قول وعمل .



وقد اختلفوا في تارك الصلاة كما علمت ، واحتج من ذهب هذا المذهب - أعني مذهب ابن شهاب في أنه يضرب ويسجن ولا يقتل - بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها ، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها . قالوا : وحقها الثلاث التي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس . قالوا : والكافر جاحد ، وتارك الصلاة المقر بالإسلام ليس بجاحد ، ولا كافر ، وليس بمستكبر ، ولا معاند ; وإنما يكفر بالصلاة من جحدها ، واستكبر عن أدائها .

قالوا : وقد كان مؤمنا عند الجميع بيقين قبل تركه للصلاة ، ثم اختلفوا فيه إذا ترك الصلاة فلا يجب قتله إلا بيقين ، ( ولا يقين ) مع [ ص: 242 ] الاختلاف ; فالواجب القول بأقل ما قيل في ذلك ، وهو الضرب والسجن . وأما القتل ، ففيه اختلاف ، والحدود تدرأ بالشبهات . واحتجوا أيضا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : سيكون عليكم بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها ، فصلوا الصلاة لوقتها ، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة . قالوا : وهذا يدل على أنهم غير كفار بتأخيرها ، حتى يخرج وقتها ، ولو كفروا بذلك ، ما أمرهم بالصلاة خلفهم بسبحة ، ولا غيرها .

قال أبو عمر :

هذا قول قد قال به جماعة من الأئمة ممن يقول : الإيمان قول وعمل . وقالت به المرجئة أيضا ، ( إلا أن المرجئة ) تقول : ( المؤمن ) المقر مستكمل الإيمان .

وقد ذكرنا اختلاف أئمة ( أهل ) السنة والجماعة في تارك الصلاة .

فأما أهل البدع ; فإن المرجئة ، قالت : تارك الصلاة مومن مستكمل الإيمان ، إذا كان مقرا غير جاحد ، ومصدقا غير مستكبر . وحكيت هذه المقالة عن أبي حنيفة وسائر المرجئة ، وهو قول جهم .

[ ص: 243 ] وقالت المعتزلة : تارك الصلاة فاسق ، لا مومن ولا كافر ، وهو مخلد في النار ، إلا أن يتوب .

وقالت الصفرية والأزارقة من الخوارج : هو كافر ، حلال الدم والمال .

وقالت الإباضية : هو كافر ، غير أن دمه وماله محرمان ، ويسمونه كافر نعمة ; فهذا جميع ما اختلف فيه أهل القبلة في تارك الصلاة .

وفي هذا الحديث أيضا : أن من صلى في بيته ثم دخل المسجد فأقيمت عليه تلك الصلاة ، أنه يصليها معهم ، ولا يخرج حتى يصلي ، وإن كان قد صلى في جماعة أهله أو غيرهم ; لأن في حديث هذا الباب : بلى يا رسول الله ، ولكني قد صليت في أهلي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له على ذلك : أن يصلي ، وإن كان قد صلى في أهله ، ولم يبين أنه كان صلى منفردا .

وهذا موضع اختلف العلماء فيه :

فقال جمهور الفقهاء : إنما هذا لمن صلى وحده ، وأما من صلى في بيته ، أو غير بيته في جماعة ، فلا يعيد تلك الصلاة ; لأن إعادتها في جماعة لا وجه له ، وإنما كانت الإعادة لفضل الجماعة ، وهذا قد صلى في جماعة ، فلا وجه لإعادته في جماعة أخرى ( ولو جاز أن [ ص: 244 ] يعيد في جماعة أخرى من صلى في جماعة ، للزمه أن يعيد في جماعة أخرى ) ثالثة ورابعة ، إلى ما لا نهاية له في تلك الصلاة ، وهذا لا يجوز أن يقول به أحد ، والله أعلم .

واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تعاد صلاة في يوم مرتين . وقالوا : معنى هذا الحديث أن من صلى في جماعة ، لا يعيد في جماعة .

وممن قال بهذا القول : مالك بن أنس ، وأبو حنيفة ، والشافعي وأصحابهم .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان - قراءة مني عليه - أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد البزار ، قال : حدثنا علي ابن المديني ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا حسين ، وهو المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن ( سليمان ) مولى ميمونة ، قال : أتيت على ابن عمر ، وهو على البلاط ، وهم يصلون ، فقلت : ألا تصلي معهم ؟ قال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : لا تصلوا صلاة في يوم مرتين .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا أحمد بن محمد البرتي ، قال : حدثنا أبو معمر ، قال : حدثنا عبد الوارث ، [ ص: 245 ] قال : حدثنا حسين المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن سليمان بن يسار ، قال : مررت بابن عمر ، وهو جالس بالبلاط ، والقوم يصلون ، قال : فقلت ألا تصلي ؟ قال : قد صليت ، قال : قلت القوم يصلون ! قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : لا تصلوا صلاة في يوم مرتين .

وقال أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه - وهو قول داود - : جائز لمن صلى في جماعة ، ثم دخل المسجد ، فأقيمت تلك الصلاة أن يصليها ثانية في جماعة .

( قال أحمد : ولا يجوز له أن يخرج إذا أقيمت عليه الصلاة حتى يصليها ، وإن كان قد صلى في جماعة ) . واحتج بحديث أبي هريرة ، قوله في الذي خرج عند الإقامة من المسجد : أما هذا ، فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - .

وروي عن أبي موسى الأشعري ، وحذيفة بن اليمان ، وأنس بن مالك ، وصلة بن زفر ، والشعبي ، والنخعي : إعادة الصلاة في جماعة لمن صلاها ( في ) جماعة ، وبه قال : حماد بن زيد ، وسليمان [ ص: 246 ] بن حرب ، حكى ذلك أبو بكر الأثرم ، عن أحمد ، وعن سائر من ذكرنا ، كما ذكرنا بالأسانيد .

فمن ذلك أن قال : حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، قال : حدثنا حميد ، عن أنس ، قال : قدمنا مع أبي موسى حين بعثه عمر على البصرة ، فصلى بنا الغداة في المربد ، فانتهينا إلى المسجد الجامع ، فأقيمت الصلاة علينا ، فصلينا مع المغيرة بن شعبة ، قال : وأخبرنا عثمان بن أبي شيبة ، وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن نعيم بن أبي هند ، عن ربعي بن خراش ، عن صلة بن زفر ، قال : انطلقت مع حذيفة في حاجة ، فأتينا على مسجد وهم يصلون الظهر ، فصلينا معهم ; ثم خرجنا ، فأتينا على مسجد يصلون الظهر ، فصلينا معهم ، وذكر مثل ذلك في العصر والمغرب ، ( من إعادتهما في جماعة ، قال : فذهبت أقوم في الثالثة ، فأجلسني ) .

قال : وحدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن إسماعيل بن سالم ، عن عامر ، قال : إذا دخلت المسجد [ ص: 247 ] وقد صليت صلاة وحدك أو في جماعة ، فأقيمت تلك الصلاة ، وأنت في المسجد ، فإني أكره أن تخرج كما تخرج اليهود والنصارى ، ولكن صلها ( معهم ) ، فتكون صلاتك التي ( قد ) صليت قبل ذلك الفريضة ، وصلاتك هذه التطوع ، صلها معهم ، وإن كان العصر .

حدثنا سليمان بن حرب ، قال : صليت ، ثم أتيت مسجد حماد بن زيد ، وذلك ( في ) صلاة العصر ، وقد علم حماد بن زيد أني أصلي بهم هاهنا ، فأقيمت الصلاة ، فقال لي حماد : صل ، قلت : قد صليت ، قال : صل ، فصليت . قلت لسليمان : من صلى في جماعة ، أيعيد ؟ قال : نعم . حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الحميد بن أحمد ، حدثنا الخضر بن داود ، حدثنا أبو بكر الأثرم ، فذكر الأحاديث إلى آخرها .

واتفق أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه على أن معنى حديث ابن عمر الذي قدمنا ذكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تصلوا صلاة في يوم واحد مرتين ، قالا : إنما ذلك أن يصلي الإنسان الفريضة ، ( ثم ) يقوم فيصليها ثانية ينوي بها الفرض مرة أخرى ، يعتقد ذلك ، فأما إذا صلاها مع الإمام على أنها سنة تطوع ، فليس بإعادة للصلاة .

[ ص: 248 ] ( قال أبو عمر :

قد علمنا أن ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ) أمر الذي صلى في أهله وحده ، أن يعيد ( في جماعة ) من أجل فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ ، ليتلافى ما فاته من فضل الجماعة ، إذا كان قد صلى منفردا . والمصلي في جماعة قد حصل له الفرض والفضل ، فلم يكن لإعادته الصلاة وجه ، إلا أن يتطوع بها ، وسنة التطوع أن يصلي ركعتين . وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى - يعني في التطوع - .

وروي عنه أنه نهى عن القصد إلى التطوع بعد العصر والصبح ، فمن هاهنا لم يكن لإعادة الصلاة لمن صلاها في جماعة وجه ، والله أعلم .

والأحاديث عن السلف تدل على ذلك ، لفضل الجماعة ، والله أعلم .

روى مالك ، عن عفيف بن عمر السهمي ، عن رجل من بني أسد ، أنه سأل أبا أيوب الأنصاري ، فقال : إني أصلي في بيتي ، ثم آتي المسجد ، فأجد الإمام يصلي ، أفأصلي معه ؟ فقال أبو أيوب : نعم ، فصل معه ، ومن صنع ذلك ، فإن له سهم جمع ، أو مثل سهم [ ص: 249 ] جمع . قال ابن وهب : يعني يضعف له الأجر .

قال أبو عمر :

قول ابن وهب هذا - والله أعلم - خير من قول من قال : إن الجمع هاهنا الجيش ، وإن له أجر الغازي أو الغزاة ، من قوله : تراءى الجمعان ; يعني الجيشين .

وليس هذا عندي بشيء ، والوجه ما قاله ابن وهب ، وهو المعروف عن العرب : أخبرني عبد الله بن محمد ، حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن الحسن ، حدثنا الزبير بن أبي بكر ، قال : حدثني عمي مصعب بن عبد الله ، أن في وصية المنذر بن الزبير : إن لفلان بغلتي الشهباء ، ولفلان عشرة آلاف درهم ، ولفلان سهم جمع ، قال مصعب : فسألت عبد الله بن المنذر بن الزبير ما يعني بسهم الجمع ؟ قال : نصيب رجلين ) .

واختلف الفقهاء ( أيضا ) فيما يعاد من الصلوات مع الإمام لمن صلاها في بيته ، فقال مالك : تعاد الصلوات ( كلها ) مع الإمام ، إلا المغرب وحدها ، فإنه لا يعيدها لأنها تصير شفعا .

قال : ومن صلى في جماعة ولو مع واحد ، فإنه لا يعيد تلك [ ص: 250 ] الصلاة إلا أن يعيدها في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو المسجد الحرام ، أو المسجد الأقصى .

قال : وإن دخل الذي صلى وحده المسجد ، فوجدهم جلوسا في آخر صلاتهم ، فلا يجلس معهم ، ولا يدخل في صلاتهم ، حتى يعلم أنه يدرك منها ركعة .

ومن قول مالك أنه لا يدري أي صلاتيه فريضته ، وإنما ذلك عنده إلى الله يجعلها أيتهما شاء ، ولا يقول إنها نافلة .

وروي عن ابن عمر ، وسعيد بن المسيب مثل قوله هذا : ذلك إلى الله يجعل أيتهما شاء . واختلفت أجوبته وأجوبة أصحابه فيمن أحدث في الثانية مع الإمام ، أو ذكر بعد فراغه منها أن الأولى على غير وضوء ، أو أسقط منها سجدة ، بما لم أر لذكره وجها في هذا الموضع .

وقال ابن وهب في الموطأ : قال مالك : من أحدث في هذه ، فصلاته في بيته هي صلاته .

قال أبو عمر :

هذا هو الصحيح من قوله ، وقول غيره في هذه المسألة .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يعيد المصلي وحده العصر مع [ ص: 251 ] الإمام ، ولا الفجر ، ولا المغرب ، ويصلي معه الظهر والعشاء ، ويجعل صلاته مع الإمام نافلة .

قال محمد بن الحسن : لأن النافلة بعد العصر والصبح لا تجوز ، ولا تعاد المغرب ; لأن النافلة لا تكون وترا ( في غير الوتر ) .

وقال الأوزاعي : يعيد مع الإمام جميع الصلوات ، إلا المغرب والفجر ; وهو قول عبد الله بن عمر . وحجة من قال هذا القول : أن الوتر في صلاة النافلة غير جائز ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صلاة الليل مثنى مثنى ، ولإجماع العلماء أن النافلة غير الوتر لا تكون وترا ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا وتران في ليلة ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وصلى بعد العصر ركعتين . وجاء عن جماعة من السلف أنهم كانوا يتطوعون بعد العصر ، ما كانت الشمس بيضاء نقية ، ولم يجئ ذلك عن واحد [ ص: 252 ] منهم في الصلاة بعد الصبح . والنهي عند ابن عمر ، ومن قال بقوله عن الصلاة بعد العصر ; معناه : إذا أسفرت الشمس ، وكانت على الغروب . وأما إذا كانت بيضاء نقية ، فلا بأس عندهم بصلاة النافلة .

وللقول في هذا التأويل موضع من كتابنا غير هذا يأتي ذكره في باب محمد بن يحيى بن حبان إن شاء الله ، فلذلك لم ير ابن عمر بإعادة العصر بأسا ، وكره إعادة الصبح .

وقال الشافعي : يصلي الرجل الذي صلى وحده مع الجماعة كل صلاة : المغرب وغيرها ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمحجن الديلي : إذا جئت فصل مع الناس ، وإن كنت قد صليت ، ولم يخص صلاة من صلاة ، قال : والأولى هي الفريضة ، والثانية سنة ( تطوعا ) سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو قول داود ( بن علي ) ، إلا أن داود يرى الإعادة في الجماعة على من صلى وحده فرضا ، ولا يحتسب عنده بما صلى وحده ، وفرضه ما أدركه من صلاة الجماعة ، وأما من صلى في جماعة ، ثم أدرك جماعة أخرى ، فالإعادة هاهنا استحباب .

واختلف عن الثوري ، فروي عنه أنه يعيد الصلوات كلها مع الإمام ، كقول الشافعي سواء . وروي عنه مثل قول مالك . ولا خلاف [ ص: 253 ] عن الثوري أن الثانية تطوع ، وأن التي صلى وحده هي المكتوبة .

وقال أبو ثور يعيدها كلها ، إلا الفجر والعصر ، إلا أن يكون في مسجد ، فتقام الصلاة ، فلا يخرج حتى يصليها ; وحجته النهي عن صلاة النافلة بعد العصر وبعد الصبح .

فأما ما احتج به مالك من قول ابن عمر ، وسعيد بن المسيب : ذلك إلى الله يجعل أيتهما شاء ، ولم يقل واحد منهما أن الثانية نافلة ، فإن ابن عمر ، وسعيد بن المسيب قد اختلف عنهما في ذلك ، وإن كان نقل مالك أصح .

حدثنا سعيد بن نصر ، قال حدثنا أبو عبد الملك محمد بن عبد الله بن أبي دليم ، قال : حدثنا ( محمد ) بن وضاح ، قال : حدثنا آدم بن أبي إياس العسقلاني ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن عثمان بن عبد الله ، قال : سألت عبد الله بن عمر ، عن رجل صلى العصر ، ثم أعاد في الجماعة ، أيهما المكتوبة ؟ قال : الأولى .

حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق ، قال : حدثنا الخضر بن داود ، قال : حدثنا أبو بكر الأثرم ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا الثقفي عن [ ص: 254 ] عبد الله بن عثمان ، عن مجاهد ، قال : خرجت مع ابن عمر من دار عبد الله بن خالد ، حتى نظرنا إلى باب المسجد ، فإذا الناس في ( صلاة ) العصر ، فلم يزل بي واقفا حتى صلى الناس ، وقال : إني ( قد ) صليت في البيت .

وحدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد - قراءة مني عليه - أن أباه حدثه ، قال : حدثنا عبيد الله بن يونس ، قال : حدثنا بقي بن مخلد ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، فذكر بإسناده مثله .

وذكر أبو بكر الأثرم ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا همام ، قال : حدثنا قتادة ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : إذا صليت وحدي ثم أدركت الجماعة ؟ فقال : أعد ، غير أنك إذا أعدت المغرب صليت إليها ركعة أخرى تشفع بها ، واجعل صلاتك وحدك تطوعا . وهذا حديث لا وجه له ، كيف يشفع المغرب وتكون الأولى تطوعا !

[ ص: 255 ] وقد أجمع العلماء أن المغرب لا تشفع بركعة ، إذا نوى بها الفريضة ، وأن التطوع لا يكون وترا في غير الوتر .

وقد كان جماعة من العلماء ينكرون أشياء كثيرة من حديث قتادة ، عن سعيد بن المسيب ; منها هذا .

وأما ما جاء عن ابن عمر من رواية مالك في موطئه ، وما قد ذكرناه عنه هاهنا ، فإن الحديثين وإن تدافعا ، فإنه قد يحتمل أن يخرجا ( وجه ) التدافع : بأن يحملا على أن قوله ذلك إلى الله أنه أراد بذلك القبول ; أي أنه يتقبل أيتهما شاء ، فقد يتقبل الله النافلة التطوع ، ولا يتقبل الفريضة ، وقد يتقبل الله الفريضة دون التطوع ، وقد يتقبلهما بفضله جميعا ، وقد لا يقبل واحدة منهما ، وليس كل صلاة مقبولة . وكان بعض الصالحين يقول : طوبى لمن تقبلت منه صلاة واحدة ! - قال ذلك على جهة الإشفاق .

وقد روينا عن ابن عمر مثل هذا ومعناه :

أخبرنا أحمد بن قاسم ، قال : حدثنا محمد بن عيسى ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثنا [ ص: 256 ] هشام بن عمار ، قال : حدثنا هشام بن يحيى الغساني ، عن أبيه ، قال : جاء سائل إلى ابن عمر ، فقال لابنه : أعطه دينارا ، فقال له ابنه : تقبل الله منك يا أبتاه ; فقال : لو علمت أن الله تقبل مني سجدة واحدة ، أو صدقة درهم واحد ، لم يكن غائب أحب إلي من الموت ; أتدري ممن يتقبل الله ؟ : إنما يتقبل الله من المتقين .

فكان ابن عمر - والله أعلم - ، وسعيد بن المسيب إذا سأل كل واحد منهما السائل : أيتهما صلاتي ؟ أي أيتهما التي يتقبل الله مني ؟ أجابه كل واحد منهما ، بأن ذلك ليس إليه علمه ، وأن ذلك أمر علمه إلى الله ، وهو تأويل محتمل صحيح .

وقد تأول هذا التأويل عبد الملك بن الماجشون ، وقال : إن الأولى هي صلاته ; والنظر يصحح ما قاله ; لإجماع الفقهاء القائلين بأن شهود الجماعة ليس بفرض واجب ، على أن الذي صلى وحده لو لم يدخل المسجد فيعيد مع الجماعة ، لم يكن عليه شيء .

وفي قول ابن عمر : تعاد مع الإمام كل صلاة ، إلا المغرب والفجر ، دليل على أن الأخرى عنده تطوع وسنة .

[ ص: 257 ] ويشهد لما ذكرناه ما رواه ابن أبي ذئب عن عثمان بن عبد الله أن الأولى صلاته .

ومما يصحح هذا المذهب أيضا ما رواه أبو ذر ، وأبو هريرة ، وجماعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : سيكون عليكم بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها ، فصلوا الصلاة لوقتها ، واجعلوا صلاتكم معهم سبحة ; أي نافلة .

وحديث يزيد بن الأسود الخزاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : إذا صليتما في رحالكما ، ثم أتيتما الناس وهم يصلون ، فصليا معهم ، فإنها لكما نافلة . وهذه الأحاديث تدل على أن الأولى فرضه ، والثانية تطوع ( له ) ; وتدل أيضا ( على ) إعادة الصلاة مع الإمام ، أنه أمر عام من غير تخصيص ولا تعيين .

وذكر أبو بكر الأثرم ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا جرير بن حازم ، قال : سمعت حمادا ، قال : كان إبراهيم يقول : إذا نوى الرجل صلاة ، كتبتها الملائكة ، فمن يستطيع أن يحولها ؟ فما صلى بعدها فهو تطوع .

[ ص: 258 ] قرأت على عبد الوارث بن سفيان ، حدثكم قاسم بن أصبغ ؟ قال : نعم حدثنا ، قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك ، قال : حدثنا علي ابن المديني ، قال : حدثنا هشيم بن بشير ، قال : أخبرنا يعلى بن عطاء ، عن جابر بن يزيد بن الأسود ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه أتي برجلين بعدما صلى الغداة كانا في آخر المسجد لم يصليا معه ، قال : ما منعكما أن تصليا معنا ؟ قالا : كنا قد صلينا في رحالنا . قال : فلا تفعلا ، إذا صليتما في رحالكما . ثم أتيتما مسجد جماعة ، فصليا معهم ، فإنها لكما نافلة .

وهذا نص في موضع الخلاف يقطعه ، وبالله التوفيق .

وروى شعبة ، عن يعلى بن عطاء بإسناده مثله سواء .

والحجة لمالك والقائلين بقوله : إن الصلوات كلها تعاد مع الإمام ، إلا المغرب ، قوله - صلى الله عليه وسلم - : صلاة الليل مثنى مثنى . وقوله عليه الصلاة والسلام : لا وتران في ليلة .

ومعلوم أن المغرب إن أعادها ، كانت إحدى صلاتيه تطوعا ; وسنة التطوع أن تصلى ركعتين ، وغير جائز أن يكون وتران في ليلة ; لأن ذلك لو كان صار شفعا ، وبطل معنى الوتر ، فلما كان في إعادة المغرب مخالفة لهذين الحديثين ، منع مالك من إعادتها .

[ ص: 259 ] ولا يدخل على من قال بقوله في إعادة العصر والصبح مع الإمام ، مخالفة لحديث النهي عن التطوع بالنافلة بعد الصبح والعصر ; لأنهم لا يقولون : إن الثانية نافلة ، بل يقولون : إننا لا نعلم أي الصلاتين فرضه ، ولا يأمرونه أن يدخل مع الإمام إلا بنية الفرض ; ثم ذلك إلى الله يجعلها أيتهما شاء ، فأيتهما جعلها ، فالأخرى تطوع .

والأغلب عندهم في الظن أن الثانية فرضه ، لفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ . وتأولوا في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث يزيد بن الأسود : فإنها لكما نافلة . قالوا : ( معنى نافلة : فضيلة ، وزيادة خير ; ولا يوجب أن يكون معنى قوله ذلك ) أن يكون تطوعا ; واحتجوا بقول الله تعالى : نافلة لك . أي : فضيلة ، وبقوله عز وجل : ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ; أي : فضيلة .

( ومن أدل دليل على أن الأولى فرضه ، والثانية نفل على مذهب مالك وأصحابه ، مما لم يختلفوا فيه - أنهم لم يختلفوا أن من صلى وحده ، لا يكون إماما في تلك الصلاة ، فدل على أنها غير فريضة ، وإذا كانت غير فريضة ، كانت تطوعا ، وبالله التوفيق ) .




الخدمات العلمية