الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
402 [ ص: 261 ] حديث ثان لنافع عن ابن عمر .

مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي قباء راكبا وماشيا .

التالي السابق


هكذا قال يحيى عن مالك عن نافع ، وتابعه القعنبي ، وإسحاق بن عيسى الطباع ، وعبد الله بن وهب ، وعبد الله بن نافع ، ورواه جل رواة الموطأ عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ، والحديث صحيح لمالك عن نافع ، وعبد الله بن دينار جميعا عن ابن عمر على ما روى القعنبي ومن تابعه ، فهو عند مالك عنهما جميعا عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأتي قباء راكبا وماشيا .

والدليل على أن هذا الحديث لمالك عن نافع ، وأنه من حديث نافع كما هو من حديث عبد الله بن دينار أن أيوب السختياني ، وعبيد الله بن عمر روياه عن نافع عن ابن عمر ، [ ص: 262 ] إلا أن أيوب قال فيه : مسجد قباء ، ولم يقل مالك ، ولا عبيد الله مسجد قباء ( وإنما قالا : قباء ) .

وقباء موضع معروف ، وهو مذكر ممدود قال عمرو بن الوليد بن عقبة أبو قطيفة :


ألا ليت شعري هل تغير بعدنا قباء وهل زال العتيق وحاضره

.

وقال ابن الزبعري :


ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
حين ألقت بقباء رحلها واستحر القتل في عبد الأشل
ساعة ثم استخفوا رقصا رقص الخيفان في سفح الجبل

.

الخيفان : ( اسم الجراد أبدانا ) .

واختلف في معنى هذا الحديث ; فقيل : كان يأتي قباء زائرا للأنصار ، وهم بنو عمرو ، وقيل : كان يأتي قباء يتفرج في حيطانها ، ويستريح عندهم ، وقيل كان يأتي قباء للصلاة في مسجدها تبركا به لما نزل فيه أنه أسس على التقوى .

وقال أبو عمر : ليس على شيء من هذه الأقاويل دليل لا مدفع له ، وممكن أن تكون كلها أو بعضها ، والله أعلم .

[ ص: 263 ] والأولى في ذلك حمل الحديث مجمله على مفسره فيكون قول من قال : مسجد قباء مفسرا لما أجمل غيره ، وقد جاءت آثار تصحح ذلك ، والحمد لله .

وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ; مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، ومسجد بيت المقدس ولم يذكر مسجد قباء ، وجائز أن يكون إعمال المطي إلى الثلاثة مساجد إعمال مشقة ، وكلفة فلا يلزم ذلك في غيرها إعمال المطي ، والله أعلم .

وقال أبو عمر : وأشبه ما قيل في ذلك بأصول سنته - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأتي مسجد قباء للصلاة فيه ، والله أعلم . ( وهو أكثر ما روي في ذلك ، وأعلى ما قيل فيه ) .

وقد اختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى فقيل مسجد قباء ، وقيل : مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد استدل من قال : إن مسجد قباء هو المسجد الذي أسس على التقوى بقول من قال من أهل العلم أن ( هذه ) الآية نزلت في أهل مسجد قباء ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) ذكر وكيع عن طلحة بن عمرو ، وعن [ ص: 264 ] عطاء قال : أحدث قوم من أهل قباء الوضوء وضوء الاستنجاء فأنزل الله فيهم ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) وروى أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي ( مسجد ) قباء ، وحدثنا خلف بن سعيد قال : حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ( وحدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد : حدثنا أبي : حدثنا عمر بن حفص بن أبي تمام : حدثنا إبراهيم بن أبي مرزوق ) قالا : حدثنا عارم أبو النعمان قال : حدثنا حماد بن زيد عن أيوب ( عن نافع ) قال : كان عبد الله بن عمر يأتي مسجد قباء في كل سبت إذا صلى الغداة ، وكان يكره أن يخرج منه حتى يصلي فيه ، وقال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيه راكبا وماشيا ، ففي هذا الحديث أنه كان يأتي قباء يصلي في مسجدها ، وهو أصح ما روي في ذلك ، وأوضحه ، فعلى هذا يكون إعمال المطي إلى الثلاثة مساجد يعني به الرحلة ، والكلفة ، والمئونة ، والمشقة لئلا تتعارض الأحاديث ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه [ ص: 265 ] وسلم : أن قصد مسجد قباء ، والصلاة فيه يعدل عمرة ، بإسناد فيه لين من حديث أهل المدينة حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن أبي مسرة قال : حدثني مطرف قال : حدثني ابن أبي الموالي عن شيخ قديم من الأنصار عن أبي أمامة بن سهيل بن حنيف قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من توضأ فأحسن وضوءه ، ثم خرج عامدا إلى مسجد قباء لا يخرجه إلا الصلاة فيه كان بمنزلة عمرة .

قال أبو عمر : الشيخ من الأنصار المذكور في هذا الإسناد هو محمد بن سليمان الكرماني سمعه من أبي أمامة : حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا أبو بكر بن أبي الأسود قال : حدثنا أحمد بن الأسود قال : حدثنا محمد بن سليمان الكرماني قال : سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من تطهر في بيته ، ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه فله أجر عمرة وقد روي من حديث أسيد بن ظهير صلاة في مسجد قباء تعدل عمرة من حديث عبد الحميد بن جعفر عن أبي الأبردة مولى بني [ ص: 266 ] خطمة عن أسيد بن ظهير ، وروي من حديث أهل المدينة ، وهو حديث لا تقوم به حجة عن المسور سمع عمر بن الخطاب يقول الحمد لله الذي قرب منا مسجد قباء ، ولو كان بأفق من الآفاق لضربنا إليه أكباد الإبل ، وروى ابن نافع عن مالك أنه سئل عن إتيان مسجد قباء راكبا أحب إليك أو ماشيا ، وفي أي يوم ترى ذلك ، قال مالك : لا أبالي في أي يوم جئت ، ولا أبالي مشيت إليه أو ركبت ، وليس إتيانه بواجب ، ولا أرى به بأسا .

قال أبو عمر : وقد جاء عن طائفة من العلماء أنهم كانوا يستحبون إتيانه وقصده في سبت للصلاة فيه على ما جاء في ذلك .

قال أبو عمر : اختلف في الفئة الذين بنوا مسجد الضرار ( بقباء ) ، وفي الذين بنوا المسجد الذي أسس على التقوى ( فيه ) إن كان هو ذلك فذكر معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير في قوله ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا ) الآية قال : هم حي من الأنصار يقال لهم : بنو غنم ، قال : والذين بنوا المسجد الذي أسس على التقوى بنو عمرو بن عوف ، وقال ابن جريج : بنو عمرو بن عوف استأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في بنيانه فأذن لهم ، ففرغوا منه يوم الجمعة فصلوا فيه يوم الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد ، وانهار يوم الاثنين في نار جهنم .

[ ص: 267 ] قال أبو عمر : كلام ابن جريج لا أدري ما هو ؟ والذي انهار في نار جهنم مسجد المنافقين لا يختلف العلماء في ذلك ، ولست أدري أبنو عمرو بن عوف هم أم بنو غنم ؟ .

وقول سعيد بن جبير في هذا مخالف لما قال ابن جريج ، وسعيد بن جبير أجل ، ومعلوم أن المسجد الذي كان يأتيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقيا ، ليس المسجد الذي انهار في نار جهنم ، وأما قوله عز وجل ( في نار جهنم ) فإن أهل التفسير قالوا : إنه كان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان ، وقال بعضهم : كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة ، وروى عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه قال : جهنم في الأرض ، ثم تلا : ( فانهار به في نار جهنم ) .

قال أبو عمر : لا يختلفون أن مسجد الضرار بقباء ، واختلفوا في المسجد الذي أسس على التقوى ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الذي أسس على التقوي أنه مسجده - صلى الله عليه وسلم - وهو أثبت من جهة الإسناد عنه من قول من [ ص: 268 ] قال : إنه مسجد قباء ، وجائز أن يكونا جميعا أسسا على تقوى الله ورضوانه بل معلوم أن ذلك كان كذلك إن شاء الله .

( روى أبو كريب قال : حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا صالح بن حسان قال : حدثنا عبد الله بن بريدة في قول الله عز وجل ( أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ) إنما هي أربعة مساجد لم يبنهن إلا نبي : الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل ، وبيت أريحا ببيت المقدس ، بناه داود وسليمان ، ومسجد المدينة ، ومسجد قباء الذي أسس على التقوى بناهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .

حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد قال : حدثنا الحسن بن سلمة بن المعلى وحدثنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا حمزة بن محمد قالا : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد قال : أخبرنا الليث عن عمر بن أبي أنس عن ابن أبي سعيد الخدري عن أبي سعيد الخدري أنه قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال رجل : هو مسجد قباء ، وقال الآخر : هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال [ ص: 269 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هو مسجدي ، وأخبرنا عبد الله قال : حدثنا حمزة قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني زكرياء بن يحيى قال : حدثنا ابن أبي عمر قال : حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد عن أبيه قال : المسجد الذي أسس على التقوى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -




الخدمات العلمية