الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
159 [ ص: 270 ] حديث ثالث لنافع عن ابن عمر .

مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح فقال : ألا صلوا في الرحال ، ثم قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول : ألا صلوا في الرحال .

التالي السابق


قال أبو عمر : ( لم يختلف عن مالك في إسناد هذا الحديث ولا في لفظه ، وقد حدثنا خلف بن قاسم : حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن العسكري : حدثنا المزني : حدثنا الشافعي أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه أذن بالصلاة في ليلة قرة وريح فقال : ألا صلوا في الرحال ثم قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول : ألا صلوا في الرحال ) .

[ ص: 271 ] وفي هذا الحديث من الفقه الرخصة في التخلف عن الجماعة في ليلة المطر والريح الشديدة ، وقيل : إن هذا إنما كان في السفر ، وعلى ذلك تدل ترجمة مالك للباب الذي ذكر فيه هذا الحديث ، وقيل أن ذلك كان يوم جمعة .

( وإذا كان في السفر فلا معنى لذكر يوم الجمعة ) وجائز أن يكونوا ذلك الوقت كانوا يصلون بصلاة الإمام في رحال لهم ، وجائز أن تكون لهم رخصة في سفرهم يتخلفون عن الجماعة لشدة المضرة في السفر ، وفي ذكر الرحال دليل على أنه كان في سفر ، والله أعلم .

وقيل : إن ذلك جائز في الحضر والسفر ، ولا فرق بين الحضر والسفر ; لأن العلة المطر والأذى ، والحضر والسفر في ذلك سواء ، فيدخل السفر بالنص ، والحضر بالمعنى ; لأن العلة فيه المطر .

وقد رخصت جماعة من أهل العلم في وقت المطر الشديد في التخلف عن الجمعة لمن وجبت عليه ، فكيف بالجماعة في غير الجمعة ، وقد مضى القول فيمن ذهب إلى أن الجماعة شهودها لمن سمع النداء فريضة ، ومن قال إن ذلك سنة ، وليس بفرض فيما سلف من كتابنا هذا ، وسيتكرر القول في ذلك في مواضع من كتابنا هذا ، إن شاء الله .

[ ص: 272 ] واستدل قوم على أن الكلام في الأذان جائز بهذا الحديث ) إذا كان الكلام مما لا بد منه ، وزعم أن قوله : ألا صلوا في الرحال كان في نفس الأذان بأثر حي على الفلاح ، واستدلوا بما : حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس قال : أخبرنا رجل من ثقيف أنه سمع منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني في ليلة المطر في السفر يقول : حي على الصلاة حي على الفلاح ، صلوا في رحالكم ، ففي هذا الحديث أن ذلك كان في السفر ، وأن قوله كان في نفس الأذان ، وأن ذلك كان في مطر . حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا حماد عن أيوب ، وعامر الأحول ، وعبد الحميد صاحب الزيادي عن عبد الله بن الحارث قال : خطبنا ابن عباس في يوم ذي ريح فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة أمره أن ينادي : الصلاة في الرحال قال : فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقال : كأنكم أنكرتم هذا قد فعل هذا من هو خير مني [ ص: 273 ] ( وذكره أبو داود عن مسدد عن حماد عن عبد الحميد عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس ، وزاد فيه أن الجمعة عزمة ، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشون في الطين ، والمطر ) وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا نصر بن علي قال : حدثنا سفيان بن حبيب أخبرنا عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المليح عن أبيه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية في يوم جمعة ، فذكر الحديث .

قال أبو داود وحدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الأعلى عن صاحب له عن أبي المليح أن ذلك كان يوم جمعة ، ووجدت في أصل سماع أبي بخطه رحمه الله أن محمد بن أحمد بن قاسم بن هلال حدثهم قال : حدثنا سعيد بن عثمان الأعنافي قال : حدثنا نصر بن مرزوق قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمع عمرو بن أوس حدثه رجل من ثقيف سمع منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر في ليلة مطر يقول حي على الصلاة حي على الفلاح صلوا في رحالكم .

[ ص: 274 ] فقد بان بهذا الحديث أن ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - إنما كان في السفر مع المطر ، وهذه رخصة تخص قوله - صلى الله عليه وسلم - هل تسمع النداء قال : نعم قال : فلا رخصة لك ، وفي هذا الحديث دليل على جواز التأخر في حين المطر الدائم عن شهود الجماعة ، والجمعة لما في ذلك من أذى المطر ، والله أعلم لهذه الحال ، وإذا جاز للمطر الدائم ظاهرا أن يصلي المسافر فيومئ من الركوع والسجود من أجل الماء والمطر والطين ، ولولا المطر الدائم ، والطين لم يجز ذلك له كان المختلف عن شهود الجمعة والجماعة أولى بذلك ، وقد ذكرنا الحكم في صلاة الطين والمطر ، وحكم الجمع بين الصلاتين في المطر كل ذلك في موضعه من كتابنا هذا فلا وجه لإعادة شيء منه هاهنا .

وأما الكلام في الأذان فإن أهل العلم اختلفوا في إجازته وكراهيته ; فقال منهم قائلون : إذا كان الكلام في شأن الصلاة ، والأذان فلا بأس بذلك ، كما روي عن ابن عباس أنه أمر مؤذنه في يوم المطر أن يقول بعد قوله حي على الفلاح : ألا صلوا في الرحال قالوا : فإن تكلم بما ليس من شأن الصلاة فقد أساء ، ولا إعادة عليه للأذان .

هذا قول طائفة من أهل الحديث ، وهو يشبه مذهب ابن القاسم ، وروايته عن مالك فيمن تكلم في شأن الصلاة وإصلاحها [ ص: 275 ] أنه لا شيء عليه فكذلك الأذان قياسا ونظرا ، إلا أن مالكا لم يختلف قوله ، ومذهبه في كراهية الكلام في الأذان على كل حال .

قال أبو عمر ، رضي الله عنه :

احتج من أجاز نحو هذا من الكلام في الأذان بأن قال : قد ثبت التثويب في الفجر ، وهو قول المؤذن : الصلاة خير من النوم ، فكل ما كان حضا على الصلاة أو من شأنها فلا بأس بالكلام به في الأذان قياسا على ذلك ، واستدلالا بالحديث المذكور في هذا الباب ، وبالله التوفيق .

وكان مالك رحمه الله ، فيما روى عنه غير واحد يكره الكلام في الأذان ، وقال : لم أعلم أحدا يقتدى به فعل ذلك ، وكره رد السلام في الأذان لئلا يشتغل المؤذن بغير ما هو فيه من الأذان ، وكذلك لا يشمت عاطسا ، ولكنه إن فعل شيئا من ذلك ، وتكلم في أذانه يبقى ، ولا شيء عليه ، ونحو هذا كله قول الشافعي يستحب للإنسان أن لا يتكلم في أذانه ، ولا في إقامته ، وإن تكلم أجزأه ، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه : لا يتكلم المؤذن في الأذان ، ولا في الإقامة فإن تكلم مضى ويجزيه ، وهو قول الثوري وإسحاق ، وروي عن ابن شهاب أنه قال : إن تكلم الرجل في الأذان ، وفي الإقامة [ ص: 276 ] أعادهما ، وروي عنه أنه أمر مؤذنا تكلم في أذانه أن يعيد ، وليس ذلك منه بصحيح ، والإسناد ( فيه عنه ضعيف ) ، وكره الكلام في الأذان النخعي ، وابن سيرين ، والأوزاعي ، ولم يجئ عن واحد منهم أن عليه إعادة الأذان ، ولا ابتداءه ، ورخصت طائفة من العلماء في ( الكلام في ) الأذان منهم الحسن وعروة ، وعطاء وقتادة ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل ، وروي ذلك عن سليمان بن صرد رضي الله عنه ، وروى الوليد بن مزيد عن الأوزاعي : لا بأس أن يرد السلام في أذانه ، ولا يرد في إقامته قال : وقال الأوزاعي : ما سمعت قط أن مؤذنا أعاد الأذان .

قال أبو عمر ، رضي الله عنه :

هذا الحديث دليل على أن الأذان من شأن الصلاة لا يدعه مسافر ولا حاضر ، وهذا موضع اختلف فيه العلماء ، مع إجماعهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤذن له في حياته كلها لكل صلاة في سفر وحضر ، وأنه ندب المسلمين لذلك وسنه لهم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - في غزواته إذا سمع أذانا كف وعلم أنها دار إيمان ، وإذا لم يسمعه أغار ، وكان يأمر سراياه بذلك ، وقال الله [ ص: 277 ] عز وجل : " ( وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ) " وقال : ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ) الآية ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان الحديث .

واختلف العلماء في وجوب الأذان فالمشهور من مذهب مالك عنه ، وعن أصحابه أن الأذان إنما هو للجماعات حيث يجتمع الناس للأئمة فأما ( ما ) سوى ذلك من أهل الحضر ، والسفر فإن الإقامة تجزيهم ، واختلف المتأخرون من أصحاب مالك على قولين في وجوب الأذان ; فقال بعضهم : الأذان سنة مؤكدة واجبة على الكفاية وليس بفرض ، وقال بعضهم : هو فرض على الكفاية في المصر خاصة ، وقول أبي حنيفة وأصحابه أنه سنة مؤكدة على الكفاية ، وقال الشافعي : لا أحب ( لأحد ) أن يصلي إلا بأذان وإقامة ، والإقامة عنده أوكد ، وهو قول الثوري .

واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال : هو سنة على الكفاية ، ومنهم من قال : هو فرض على الكفاية .

[ ص: 278 ] وذكر الطبري عن مالك أنه قال : إن ترك أهل مصر الأذان عامدين أعادوا الصلاة ، وقال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود بن علي : الأذان فرض ، ولم يقولوا على الكفاية ، وقال الأوزاعي وعطاء : من ترك الإقامة أعاد الصلاة ، وقال الطبري : الأذان سنة ، وليس بواجب ، وقال الشافعي : ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التأذين حين جمع بين الصلاتين بمزدلفة ويوم الخندق دليل على أن التأذين ليس بواجب فرضا ، ولو لم تجزئ الصلاة إلا بأذان لم يدع ذلك ، وهو يمكنه قال : وإذا كان هكذا في الأذان كانت الإقامة كذلك ; لأنهما جميعا غير الصلاة ، واختلف أيضا في الأذان للمسافرين فروى ابن القاسم عن مالك أن الأذان إنما هو في المصر للجماعات في المساجد ، وروى أشهب عن مالك .

قال : إن ترك الأذان مسافر عامدا فعليه إعادة الصلاة ، ذكره الطبري ، وقال : أخبرني يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا أشهب عن مالك فذكره ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : أما المسافر فيصلي بأذان وإقامة .

قالوا : ويكره أن يصلي بغير أذان ولا إقامة ، وأما في المصر فيستحب للرجل إذا صلى وحده أن يؤذن ويقيم ، فإن استجزأ بأذان الناس وإقامتهم أجزأه .

[ ص: 279 ] وقال الثوري : لا يستجزئ بإقامة أهل المصر ، وقال الأوزاعي : لا يجزئ المسافر ، ولا الحاضر صلاة إذا ترك الإقامة ، وقال داود بن علي : الأذان واجب على كل مسافر في خاصته ، والإقامة كذلك ، واحتج بحديث مالك بن الحويرث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له ولصاحبه : إذا كنتما في سفركما فأذنا وأقيما وليؤمكما أحدكما وهو قول أهل الظاهر ، ولا أعلم أحدا قال بقوله من فقهاء الأمصار إلا ما روى أشهب عن مالك ، وما روي عن الأوزاعي فيمن ترك الإقامة دون الأذان ، وهو قول عطاء ، ومجاهد .

وقال الثوري : تجزئك الإقامة في السفر عن الأذان ، وإن شئت أذنت ، وأقمت ، وتكفيك الإقامة ، وإن صليت بغير أذان ولا إقامة أجزتك ( صلاتك ) وقال الشافعي ، وأبو حنيفة وأصحابهما : وهو قول أبي ثور وأحمد وإسحاق والطبري ، إذا ترك المسافر الأذان عامدا أو ناسيا أجزأته صلاته ، وكذلك لو ترك الإقامة عندهم لم تكن عليه إعادة صلاته ، وقد أساء إن تركها عامدا ، وهو تحصيل مذهب مالك أيضا ، وقد روى أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان في السفر يصلي بإقامة ، إقامة ، إلا الغداة فإنه كان يؤذن لها ، ويقيم يعني صلاة الصبح .

[ ص: 280 ] قال أبو عمر : قد أجمع العلماء على أن المسجد إذا أذن فيه واحد وأقام أنه يجزئ أذانه وإقامته جميع أهل المسجد ، وأن من أدرك الإمام في سفر أو حضر وقد دخل في صلاته أنه يدخل معه ولا يؤذن ولا يقيم ، فدل إجماعهم في ذلك كله على بطلان قول من أوجب الأذان على كل إنسان في خاصة نفسه مسافرا كان ، أو غير مسافر ، ودل على أن الأذان والإقامة غير واجبين .

ومن جهة القياس والنظر : ليستا من الصلاة فتفسد الصلاة بتركهما ، والذي يصح عندي في هذه المسألة أن الأذان واجب فرضا على الدار أعني المصر أو القرية ، فإذا قام فيها قائم واحد أو أكثر بالأذان سقط فرضه عن سائرهم ، ومن الفرق بين دار الكفر ودار الإسلام لمن لم يعرفها الأذان الدال على الدار ، وكل قرية أو مصر لا يؤذن فيه بالصلاة فأهله لله عز وجل عصاة ، ومن صلى منهم فلا إعادة عليه ; لأن الأذان غير الصلاة ، ووجوبه على الكفاية فمن قام به سقط عن غيره كسائر الفروض الواجبة على الكفاية ، وأما الأذان للمنفرد في سفر أو حضر فسنة عندي مسنونة مندوب إليها مأجور فاعلها عليها ( وبالله التوفيق ) .

[ ص: 281 ] حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال : حدثنا زائدة : حدثنا السائب بن حبيش عن سعدان بن أبي طلحة اليعمري قال : قال لي أبو الدرداء : أين مسكنك ؟ قال : قلت : بقرية دون حمص ، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما من ثلاثة في قرية ولا بلد ، ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية ، قال زائدة : يعني الصلاة في جماعة ، وذكره أبو داود عن أحمد بن يونس بإسناده ، وقال : قال زائدة قال السائب : يعني الجماعة ، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية