الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1881 [ ص: 247 ] حديث سادس وخمسون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو على المنبر ، وهو يذكر الصدقة ، والتعفف عن المسألة : اليد العليا خير من اليد السفلى ، واليد العليا هي المنفقة والسفلى السائلة .

التالي السابق


لا خلاف علمته في إسناد هذا الحديث ولفظه ، واختلف فيه على أيوب ، عن نافع فرواه حماد بن زيد ، وعبد الوارث ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، فقال فيه : اليد العليا المتعففة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد بن مسرهد ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اليد العليا خير من اليد السفلى اليد العليا المتعففة ، واليد السفلى السائلة .

[ ص: 248 ] قال أبو عمر : رواية مالك في قوله : اليد العليا المنفقة ، أولى وأشبه بالأصول من قول من قال : المتعففة بدليل حديث من طارق المحاربي ، قال : قدمنا المدينة ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر يخطب الناس ، ويقول : يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول أمك وأباك ، وأختك ، وأخاك ، ثم أدناك أدناك ذكره النسوي ، عن يوسف بن عيسى ، عن الفضل بن موسى ، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد ، عن جامع بن شداد ، عن طارق المحاربي .

وفي قوله : المنفقة آداب ، وفروض ، وسنن ، فمن الإنفاق فرضا الزكوات ، والكفارات ، ونفقة البنين ، والآباء ، والزوجات ، وما كان مثل ذلك من النفقات ، ومن الإنفاق سنة الأضاحي ، وزكاة الفطر عند من رآها سنة لا فرضا ، وغير ذلك كثير ، والتطوع كله أدب ، وسنة مندوب إليها ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كل معروف صدقة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، حدثنا عن أبيه ، عن رجل من بني يربوع ، قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس فسمعه يقول : يد المعطي العليا أمك وأباك ، وأختك ، وأخاك وأدناك أدناك .

[ ص: 249 ] ومثله حديث عطية السعدي ذكره عبد الرزاق ، عن معمر ، عن سماك بن الفضل ، عن عروة بن محمد بن عطية السعدي ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اليد العليا المعطية .

ومثله حديث أبي الأحوص ، عن أبيه مالك بن نضلة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الأيدي ثلاثة : يد الله العليا ، ويد المعطي التي تليها ، ويد السائل السفلى ، أعط الفضل ، ولا تعجز عن نفسك . ذكره أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا عبيدة بن حميد ، قال : ( حدثنا ) أبو الزعراء ، عن أبي الأحوص ، وهذه الآثار كلها تدل على صحة ما نقل مالك من قوله : واليد العليا المنفقة ، ( ولم يقل المتعففة ) ، لأن العلو في الإعطاء لا في التعفف ، وقد بان في هذه الآثار ما ذكرنا ، وبالله التوفيق .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، حدثنا علي بن محمد بن مسرور ، قال : حدثنا أحمد بن أبي سليمان ، حدثنا سحنون بن سعيد ، حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني حيوة بن شريح ، وابن لهيعة ، عن محمد بن عجلان قال : سمعت القعقاع بن حكيم

[ ص: 250 ] يحدث ، عن عبد الله بن عمر ، أن عبد العزيز بن مروان كتب إليه : أن ارفع إلي حاجتك فكتب إليه عبد الله بن عمر يقول : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول ، وإني لا أحسب اليد العليا إلا المعطية ، ولا السفلى إلا السائلة ، وإني غير سائلك شيئا ، ولا رادا رزقا ساقه الله إلي منك والسلام .

وقد روى عن النبي - عليه السلام - : اليد العليا خير من اليد السفلى ، جماعة من أصحابه منهم حكيم بن حزام ، وأبو هريرة ، وهي آثار صحاح كلها .

وفي هذا الحديث من الفقه إباحة الكلام للخطيب بكل ما يصلح مما يكون موعظة ، أو علما ، أو قربة إلى الله - عز وجل - وفيه الحض على الاكتساب ، والإنفاق .

ومعلوم أن الإنفاق لا يكون إلا مع الاكتساب ، وهذا كله مقيد بقوله - صلى الله عليه وسلم - : أجملوا في الطلب خذوا ما حل ودعوا ما حرم . وفيه ذم المسألة ، وعيبها ويقتضي ذلك حمد اليأس ، وذم الطمع فيما في أيدي الناس .

ذكر عبد الرزاق ، عن جعفر بن سليمان ، عن حميد الأعرج ، عن عكرمة بن خالد أن سعدا ، قال لابنه حين حضره [ ص: 251 ] الموت : يا بني ، إنك لن تلقى أحدا هو لك أنصح مني ، إذا أردت أن تصلي فأحسن وضوءك ، ثم صل صلاة لا ترى أنك تصلي بعدها ، وإياك والطمع ، فإنه فقر حاضر ، وعليك باليأس ، فإنه الغنى ، وإياك وما يعتذر منه من العمل ، والقول ، ثم اعمل ما بدا لك .

وروى العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يفتح إنسان على نفسه باب مسألة ، إلا فتح الله عليه باب فقر ، ولأن يأخذ الرجل حبلا فيعمد إلى الجبل فيحتطب على ظهره ، ويأكل منه خير له من أن يسأل الناس معطى ، أو ممنوعا .

وقد روي معنى قول سعد المذكور في هذا الباب مرفوعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حدثناه سلمة بن سعيد بن سلمة بن حفص ، قال : حدثنا علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي المعروف بالدارقطني الحافظ إملاء بمصر سنة ست وخمسين وثلاثمائة ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال : حدثنا الحسن بن راشد بن عبد ربه الواسطي ، قال : حدثني أبي راشد بن عبد ربه ، قال : حدثنا نافع ، عن ابن [ ص: 252 ] عمر قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، حدثني حديثا واجعله مذكرا ، أي قال : صل صلاة مودع كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك ، وعليك باليأس مما في أيدي الناس تعش غنيا ، وإياك وما يعتذر منه .

وقد مضى فيما يجوز من السؤال ، ومن يجوز له ما فيه كفاية في باب زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار وسيأتي تمام هذا الباب بما فيه من الآثار في باب أبي الزناد - إن شاء الله - .




الخدمات العلمية