الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
835 [ ص: 79 ] حديث ثان لجعفر بن محمد مسند مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول حين خرج من المسجد ، وهو يريد الصفا ، وهو يقول : نبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا .

التالي السابق


قال أبو عمر : في هذا الحديث أن الخروج إلى الصفا من المسجد ; لأن الحاج أو المعتمر إذا دخل أحدهما مكة أول شيء يبدأ به إذا لم يكن الحاج مراهقا يخشى فوت الوقوف بعرفة أول ما يبدأ به الطواف بالبيت ، يبدأ بالحجر فيستلمه ، ثم يطوف منه بالبيت سبعا ، فإذا طاف به سبعا صلى في المسجد عند المقام ، أو حيث أمكنه ركعتين بأثر أسبوعه يخرج من باب الصفا إن شاء إلى الصفا فيرقى عليها ، ثم يبتدئ السعي منها بين الصفا والمروة ، لا بد من ذلك ، وهذا كله منصوص في حديث جابر عن النبي صلى الله عليه ، وبعض الناس أحسن سياقة له من بعض . حدثنا خلف بن قاسم حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن يزيد الحلبي القاضي قال : حدثنا محمد بن معاذ بن المستهل بن أبي جامع البصري يعرف بدران حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه ، عن جابر أن النبي صلى الله عليه طاف بالبيت فرمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثا ومشى أربعة ، ثم صلى ركعتين ، فقرأ فيهما ب " قل يا أيها الكافرون " و " قل هو الله أحد " ، ثم خرج يريد الصفا والمروة ، فقال : نبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا ، فرقي ثلاثا ، وأهل [ ص: 80 ] واحدة ، ثم هبط ، فلما انصبت قدماه سعى حتى ظهر من طريق المسيل ، وفي هذا الحديث دليل على أن النسق بالواو جائز أن يقال فيه قبل وبعد ; لقوله صلى الله عليه : نبدأ بما بدأ الله به فقد أخبر أن الله بدأ بذكر الصفا قبل المروة وعطف المروة عليها ، إنما كان بالواو ، وإذا كان الابتداء بالصفا قبل المروة سنة مسنونة وعملا واجبا ، فكذلك كل ما رتبه الله ونسق بعضه على بعض بالواو في كتابه من آية الوضوء . وهذا موضع اختلف فيه العلماء وأهل الأمصار وأهل العربية ، فمذهب مالك في أكثر الروايات عنه وأشهرها أن الواو لا توجب التعقيب ، ولا تعطي رتبة ، وبذلك قال أصحابه ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والليث بن سعد المزني صاحب الشافعي وداود بن علي قالوا فيمن غسل ذراعيه ، أو رجليه قبل أن يغسل وجهه ، أو قدم غسل رجليه قبل غسل يديه ، أو مسح برأسه قبل غسل وجهه - أن ذلك يجزئه ، إلا أن مالكا يستحب لمن نكس وضوءه ولم يصل - أن يستأنف الوضوء على نسق الآية ، ثم يستأنف صلاته ، فإن صلى لم يأمره بإعادة الصلاة ، لكنه يستحب له استئناف الوضوء على النسق لما يستقبل ، ولا يرى ذلك واجبا عليه ، هذا هو تحصيل مذهب مالك . وقد روى علي بن زياد عن مالك قال : من غسل ذراعيه ، ثم وجهه ، ثم ذكر مكانه أعاد غسل ذراعيه ، وإن لم يذكر حتى صلى أعاد الوضوء والصلاة ، قال علي ثم قال بعد ذلك : لا يعيد الصلاة ويعيد الوضوء لما يستقبل ، وذكر أبو مصعب عن مالك وأهل المدينة أن من قدم في الوضوء يديه على وجهه ، ولم يتوضأ على ترتيب الآية فعليه الإعادة لما صلى بذلك الوضوء . وكل من ذكرناه من العلماء مع مالك يستحب أن يكون الوضوء نسقا ، والحجة لمالك ومن ذكرنا من العلماء أن سيبويه وسائر البصريين من النحويين ، قالوا في قول الرجل : أعط زيدا وعمرا دينارا : إن ذلك إنما يوجب الجمع بينهما في العطاء ولا يوجب تقدمة [ ص: 81 ] زيد على عمرو ، فكذلك قول الله عز وجل إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ، إنما يوجب ذلك الجمع بين الأعضاء المذكورة في الغسل ، ولا يوجب النسق ، وقد قال الله عز وجل : وأتموا الحج والعمرة لله فبدأ بالحج قبل العمرة ، وجائز عند الجميع أن يعتمر الرجل قبل أن يحج ، وكذلك قوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة جائز لمن وجب عليه إخراج زكاة ماله في حين وقت صلاة أن يبدأ بإخراج الزكاة ، ثم يصلي الصلاة في وقتها عند الجميع ، وكذلك قوله فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله لا يختلف العلماء أنه جائز لمن وجب عليه في قتل الخطأ إخراج الدية وتحرير الرقبة ويسلمها قبل أن يحرر الرقبة ، وهذا كله منسوق بالواو ، ومثله كثير في القرآن ، فدل على أن الواو لا توجب رتبة . وقد روي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود أنهما قالا : ما أبالي بأي أعضائي بدأت في الوضوء إذا أتممت وضوئي . وهم أهل اللسان فلم يبق لهم من الآية ، إلا معنى الجمع ، لا معنى الترتيب ، وقد أجمعوا أن غسل الأعضاء كلها مأمور في غسل الجنابة ، ولا ترتيب في ذلك عند الجميع ، فكذلك غسل أعضاء الوضوء ; لأن المعنى في ذلك الغسل ، لا التبدية ، وقد قال الله عز وجل : يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ، ومعلوم أن السجود بعد الركوع ، وإنما أراد الجمع ، لا الرتبة . هذا جملة ما احتج به من احتج للقائلين بما ذكرنا . وأما الذين ذهبوا إلى إبطال وضوء من لم يأت بالوضوء على ترتيب الآية ، وإبطال صلاته إن صلى بذلك الوضوء المنكوس منهم الشافعي وسائر أصحابه والقائلين بقوله ، إلا المزني . ومنهم أحمد بن حنبل وأبو عبيد [ ص: 82 ] القاسم بن سلام وإسحاق بن ثور وإليه ذهب أبو مصعب صاحب مالك ذكره في مختصره ، وحكاه عن أهل المدينة ومالك معهم ، فمن الحجة لهم أن الواو توجب الرتبة والجمع جميعا وحكى ذلك بعض أصحاب الشافعي في كتاب الأصول له ، عن نحويي الكوفة الكسائي والفراء وهشام بن معاوية أنهم قالوا في واو العطف : إنها توجب الجمع وتدل على تقدمة المقدم في قولهم : أعط زيدا وعمرا ، قالوا : وذلك زيادة في فائدة الخطاب مع الجمع ، قالوا : ولو كانت الواو توجب الرتبة أحيانا ، ولا توجبها أحيانا ، ولم يكن بد من بيان مراد الله عز وجل في الآية على ما زعم مخالفونا لكان في بيان رسول الله صلى الله عليه لذلك بفعله ما يوجبه ; لأنه مذ بعثه الله إلى أن مات لم يتوضأ إلا على الترتيب ، فصار ذلك فرضا ; لأنه بيان لمراد الله عز وجل فيما احتمل التأويل من الوضوء كتبيينه عدد الصلوات ومقدار الزكوات وغير ذلك من بيانه للفرائض المجملات التي لم يختلف أنها مفروضات ، فمن توضأ على غير ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجزه بدليل قوله صلى الله عليه : كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وبدليل قوله أيضا ، وقد توضأ على الترتيب : هذا وضوء لا يقبل الله صلاة إلا به قالوا : وأما الحديث عن علي وابن مسعود فغير صحيح عنهما ; لأن حديث علي انفرد به عبد الله بن عمرو [ ص: 83 ] بن هند الجملي ولم يسمع من علي . والمنقطع من الحديث لا تجب به حجة . قالوا : وكذلك حديث عبد الله بن مسعود أشد انقطاعا ; لأنه لا يوجد إلا من رواية مجاهد عن ابن مسعود ومجاهد لم يسمع من ابن مسعود ولا رآه ، ولا أدركه ، وهو أيضا حديث مختلف فيه ; لأن عبد الرزاق ومحمد بن بكر البرساني روياه عن ابن جريج عن سليمان الأحول عن مجاهد عن ابن مسعود قال : ما أبالي بأيهما بدأت باليمنى ، أو باليسرى . ورواه حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن مجاهد قال : قال عبد الله بن مسعود : لا بأس أن تبدأ بيديك قبل رجليك ، قالوا : وعبد الرزاق أثبت في ابن جريج من حفص بن غياث وقد تابعه البرساني وليس في روايتهما ما يوجب تقديما ، ولا تأخيرا ; لأن اليمنى واليسرى لا تنازع بين المسلمين في تقديم إحداهما على الأخرى ; لأنه ليس فيهما نسق بواو ، وقد جمعهما الله بقوله : وأيديكم ، وهذا لم يختلف فيه فيحتاج إليه ، قالوا : وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنتم تقرءون الوصية قبل الدين وقضى رسول الله بالدين قبل الوصية ، وهو مشهور ثابت عن علي رضي الله عنه ، قالوا : فهذا علي قد أوجبت عنده " أو " التي هي في أكثر أحوالها بمعنى الواو - القبل والبعد ، فالواو عنده أحرى بهذا وأولى ، لا محالة ; لأن الواو أقوى عملا في العطف من " أو " عند الجميع ، ومن الحجة لهم أيضا ما أخبرنا به عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا أحمد بن [ ص: 84 ] دحيم حدثنا إبراهيم بن حماد قال : حدثنا عمي إسماعيل بن إسحاق القاضي قال : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، قال : أخبرنا عطاف بن خالد قال : أخبرني إبراهيم بن مسلم بن أبي حرة عن عبد الله بن عباس قال : ما ندمت على شيء لم أكن علمت به ما ندمت على المشي إلى بيت الله أن لا أكون مشيت ; لأني سمعت الله عز وجل ، يقول حين ذكر إبراهيم وأمره أن ينادي في الناس بالحج ، قال : يأتوك رجالا فبدأ بالرجال قبل الركبان ، فهذا ابن عباس قد صرح بأن الواو توجب عنده القبل والبعد والترتيب . وأخبرنا خلف بن القاسم قال : أخبرنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال : حدثنا أحمد بن محمد بن سلام قال : حدثنا أبو بكر بن أبي العوام قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أيوب بن ابن مدرك عن أبي عبيدة عن عون بن عبد الله في قوله عز وجل ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، قال : ضج والله القوم من الصغار قبل الكبار ، فهذا أيضا مثل ما تقدم عن ابن عباس سواء ، قالوا : وليس الصلاة والزكاة في التقدمة في معنى هذا الباب في شيء ; لأنهما فرضان مختلفان : أحدهما في مال ، والثاني في بدن ، وقد يجب الواحد على من لا يجب عليه الآخر ، وكذلك الدية والرقبة شيئان ، لا يحتاج فيهما إلى الرتبة . وأما الطهارة ففرض واحد مرتبط بعضه ببعض كالركوع والسجود وكالصفا والمروة اللذين أمرنا بالترتيب فيهما ، قالوا : والفرق بين جمع زيد وعمرو في العطاء وبين [ ص: 85 ] أعضاء الوضوء ; لأنه لا يمكن أن يجمع بين عمرو وزيد معا في عطية واحدة ، وذلك غير متمكن في أعضاء الوضوء ، إلا على الرتبة ، فالواجب أن لا يقدم بعضها على بعض ; لأن رسول الله لم يفعل ذلك منذ افتراض الله عليه الوضوء إلى أن توفي صلى الله عليه ، ولو كان ذلك جائزا لفعله صلى الله عليه ، ولو مرة واحدة ; لأنه كان إذا خير في أمرين أخذ أيسرهما ، فلما لم يفعل ذلك علمنا أن الرتبة في الوضوء كالركوع والسجود ، ولا يجوز أن يقدم السجود على الركوع بإجماع . واحتجوا أيضا بأن الواو في آية الوضوء في الأعضاء كلها معطوفة على الفاء في قوله فاغسلوا وجوهكم الآية ، قالوا : وما كان معطوفا على الفاء فحكمه حكم الفاء ، بواو كان معطوفا ، أو بغير واو ; لأن أصله العطف على الفاء ، وحكمها إيجاب الرتبة والعجلة ، قالوا : وحروف العطف كلها قد أجمعوا أنها توجب الرتبة ، إلا الواو فإنهم قد اختلفوا فيها ، فالواجب أن يكون حكمها حكم أخواتها من حروف العطف في إيجاب الترتيب . وأما قول الله عز وجل يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي فجائز أن يكون عبادتها في شريعتها الركوع بعد السجود ، فإن صح أن ذلك ليس كذلك فالوجه فيه أن الله عز وجل أمرها أولا بالقنوت ، وهو الطاعة ، ثم السجود وهي الصلاة بعينها كما قال : وأدبار السجود ؛ أي أدبار الصلوات واركعي مع الراكعين أي اشكري مع الشاكرين . ومنه قول الله تعالى فخر راكعا أي سجد شكرا لله ، وكذلك قال ابن عباس وغيره : هي سجدة شكر ، واحتجوا أيضا بقول الله عز وجل اركعوا واسجدوا مع إجماع المسلمين أنه لا يجوز لأحد أن يسجد قبل أن يركع ، قالوا : فهذه الواو قد أوجبت الرتبة في هذا الموضع من غير خلاف . واحتجوا أيضا بقول الله عز وجل إن الصفا والمروة من شعائر الله مع قول رسول الله [ ص: 86 ] نبدأ بما بدأ الله به ، ورجحوا قولهم بأن الاحتياط في الصلوات واجب ، وهو ما قالوه ; لأن من صلى بعد أن توضأ على النسق كانت صلاته تامة بإجماع ، قالوا : ومن الدليل على ثبوت الترتيب في الوضوء دخول المسح بين الغسل ; لأنه لو قدم ذكر الرجلين وأخر مسح الرأس لما فهم المراد من تقديم المسح ، فأدخل المسح بين الغسلين ليعلم أنه مقدم عليه ليثبت ترتيب الرأس قبل الرجلين ، ولولا ذلك لقال : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برءوسكم ، ولما احتاج أن يأتي بلفظ ملتبس محتمل للتأويل لولا فائدة الترتيب في ذلك ، ألا ترى أن تقديم ذكر الرأس ليس على من جعل الرجلين ممسوحتين فلفائدة وجوب الترتيب وردت الآية بالتقديم والتأخير ، والله أعلم ، هذا جملة ما احتج به الشافعيون في هذه المسألة . قال أبو عمر : أما ما ادعوه عن العرب ونسبوه إلى الفراء والكسائي وهشام فليس بمشهور عنهم ، والذي عليه جماعة أهل العربية أن الواو إنما توجب التسوية . وأما ما ذكروه من آية الوصية والدين ، فلا معنى له ; لأن المال إذا كان مأمونا وبذر الورثة فنفذوا الوصية قبل أداء الدين ، ثم أدوا الدين بعد من مال الميت - لم تجب عليهم إعادة الوصية ، ولو نفذوا الوصية ، ولم يكن في المال ما يؤدى منه الدين وكانوا قد علموا به ضمنوا ; لأنهم قد تعدوا ، وكذلك قوله : اركعوا واسجدوا ولسنا ننكر - إذا صحب الواو بيان يدل على التقدمة - أن ذلك كذلك لموضع البيان ، وإنما قلنا إن حق الواو في اللغة التسوية لا غير حتى يأتي إجماع يدل على غير ذلك ويبين المراد فيه ، والإجماع في آية الوضوء معدوم ، بل أكثر أهل العلم على خلاف الشافعي في ذلك مع ما روي في ذلك عن علي وابن مسعود . وأما ما ادعوه من أن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية بيان كبيانه [ ص: 87 ] ركعات الصلوات فخطأ ; لأن الصلوات فرضها مجمل ، لا سبيل إلى الوصول لمراد الله منها إلا بالبيان ، فصار البيان فيها فرضا بإجماع ، وليس آية الوضوء كذلك لأنا لو تركنا وظاهرها كان الظاهر يغنينا عن غيره ; لأنها محكمة مستغنية عن بيان . فلم يكن فعله فيها صلى الله عليه وسلم إلا على الاستحباب ، وعلى الأفضل كما كان يبدأ بيمينه قبل يساره ، وكان يحب التيامن في أمره كله ، وليس ذلك بفرض عند الجميع . وأما ما احتجوا به من قول الله عز وجل إن الصفا والمروة من شعائر الله مع قول رسول الله نبدأ بما بدأ الله به ، فلا حجة فيه ; لأنا كذلك نقول : نبدأ بما بدأ الله به ، هذا الذي هو أولى ولسنا نختلف في ذلك ، وإنما الخلاف بيننا وبينهم فيمن لم يبدأ بما بدأ الله به ، هل يفسد عمله في ذلك أم لا ؟ ، وقد أريناهم أنه لا يفسد بالدلائل التي ذكرنا ، على أن قوله صلى الله عليه وسلم نبدأ بما بدأ الله به ظاهره أنه سنة ، والله أعلم . ; لأن فعله ليس بفرض ، إلا أن يصحبه دليل يدخله في حيز الفروض ، ولو كان فرضا لقال : ابدءوا بما بدأ الله ، يأمرهم بذلك . ولفظ الأمر في هذا الحديث لا يؤخذ من رواية من يحتج به ، وهذا الإدخال والاحتجاج مذهب أصحابنا المالكيين ; لأنهم يذهبون إلى أن أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجوب أبدا حتى يقوم الدليل على أنها أريد بها الندب ، وهذه المسألة خارجة على مذهبهم عن أصلهم هذا ، وقد ينفصل من هذا بما يطول ذكره ، وقد يحتمل أن يحتج بقوله صلى الله عليه وسلم نبدأ بما بدأ الله به على أن الواو لا توجب الترتيب ; لأنها لو كانت توجب الترتيب لم يحتج رسول الله أن يقول لهم : نبدأ بما بدأ الله به ; لأنهم أهل اللسان الذي نزل القرآن به ، فلو كان مفهوما في فحوى الخطاب أن الواو توجب القبل والبعد ما احتاج [ ص: 88 ] رسول الله - والله أعلم - أن يبين لهم ذلك ، وإنما بين لهم ذلك ; لأن المراد كان من السعي بين الصفا والمروة أن يبدأ فيه بالصفا ، ولم يكن ذلك بينا في الخطاب فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد اختلف الفقهاء فيمن نكس السعي بين الصفا والمروة فبدأ بالمروة قبل الصفا ، فقال منهم قائلون : لا يجزئه وعليه أن يلغي ابتداءه بالمروة ويبني على سعيه من الصفا ويختم بالمروة ، منهم مالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة ومن قال بقولهم . وقال بعض العراقيين : يجزئه ذلك ، وإنما الابتداء عندهم بالصفا استحباب ، وقد اختلف عن عطاء فروي عنه أنه يلغي الشوط ، وهو الذي عليه العمل عند الفقهاء . وروي عنه أنه من جهل ذلك أجزأ عنه ، والحجة لمالك ومن قال بقوله - ما قدمنا ذكره . وأما ترجيحهم بالاحتياط في الصلاة فأصل غير مطرد عند الجميع ، ألا ترى أن الشافعي لم ير ذلك حجة في اختلاف نية المأموم والإمام ، وفي الجمعة خلف العبد ، وفي الوضوء بما حل فيه النجاسة إذا كان فوق القلتين ولم يتغير ، وهذا كله الاحتياط فيه غير قوله ، ولم ير للاحتياط معنى إذ قام له الدليل على صحة ما ذهب إليه ، فكذلك لا معنى لما ذكروه من الاحتياط مع ظاهر قول الله عز وجل والمشهور من لسان العرب . وأما قولهم من فعل فعلنا كان مصليا بإجماع ، فهذا أيضا أصل لا يراعيه أحد من الفقهاء مع قيام الدليل على ما ذهب إليه . وأما قولهم إن وجوب الترتيب أوجب التقديم والتأخير في آية الوضوء فظن ، والظن لا يغني من الحق شيئا ، والتقديم والتأخير في القرآن كثير ، وهو معروف في لسان العرب متكرر في كتاب الله ، فليس في قولهم ذلك شيء يلزم ، والله أعلم . أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن [ ص: 89 ] قال : أخبرنا أحمد بن سلمان النجاد ببغداد ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال : حدثنا عوف بن أبي جميلة الأعرابي قال : حدثني عبد الله بن عمرو بن هند الجملي أن عليا قال : ما أبالي بأي أعضائي بدأت إذا أتممت وضوئي ، قال : عوف ولم يسمع من علي وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال : أحب إلي أن يبدأ بالأول فالأول : المضمضة ، ثم الاستنشاق ، ثم الوجه ، ثم اليدين ، ثم المسح على الرأس ، ثم الرجلين ، قال : فإن قدم شيئا على شيء ، فلا حرج ، وهو يكرهه . قال أبو عمر : قول مالك في مثل قول عطاء سواء . وأما على قول من لم ير بتنكيس السعي وتنكيس الطواف بأسا فالحجة عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بالصفا وختم بالمروة في السعي وطاف بالبيت على رتبته ، ثم قال : خذوا عني مناسككم . والحج في الكتاب مجمل وبيانه له كبيانه لسائر المجملات من الصلوات والزكوات ، إلا أن يجمع على شيء من ذلك فيخرج بدليله ، وبالله التوفيق . [ ص: 90 ] ذكر عبد الرزاق عن الثوري عن أبي الزبير عن جابر قال : دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة وأمرهم بالسكينة ، وأن يوضعوا في وادي محسر ، وأمرهم بمثل حصى الخذف . وقال : خذوا عني مناسككم ، لعلي لا أحج بعد عامي هذا




الخدمات العلمية