الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1790 [ ص: 86 ] [ ص: 87 ] حديث سابع عشر لعبد الله بن دينار ، عن ابن عمر

مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم ، فإنما يقول : السام عليكم ، فقل : عليك .

التالي السابق


هكذا قال يحيى ، عن مالك في هذا الحديث " عليك " على لفظ الواحد ، وتابعه قوم ، وقال القعنبي وغيره فيه ، عن مالك : " عليكم " على لفظ الجماعة ، ولم يدخل واحد منهم فيه الواو عن مالك ، وكذلك رواه الدراوردي ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم ، فإنما يقول : السام عليكم ، فقولوا : عليكم ، بلا واو أيضا كما قال مالك .

[ ص: 88 ] ورواه الثوري ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ، فقال فيه " وعليكم " بالواو ، وكذلك في حديث قتادة ، عن أنس " وعليكم " .

قال أبو داود : وكذلك رواية عائشة وأبي عبد الرحمن الجهني وأبي بصرة الغفاري .

قال أبو عمر : في هذا الحديث بيان ما عليه اليهود من العداوة للمسلمين وبذلك كانوا يضعون موضع السلام على المسلمين الدعاء عليهم بالموت ، والسام الموت في هذا الموضع ، وهو معروف في لسان العرب .

حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا عبد الله بن روح ، قال : حدثنا شبابة بن سوار الفزاري ، قال : حدثنا الحسام بن مصك ، قال : حدثنا عبد الله بن بريدة ، عن أبيه بريدة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بهذه الحبة السوداء [ ص: 89 ] فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام , والسام الموت وذكر تمام الحديث في تفسير استعمال الحبة السوداء ، وهو الشونيز .

وروى مثل هذا الحديث ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة من حديث الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ومن حديث العلماء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة .

وفي هذا الحديث أيضا ما يدل على وجوب رد السلام على كل من سلم بمثل سلامه إلا أن تكون تحية طيبة فيجوز أن يرد المحيا أفضل مما حيي به ، أو مثله لا ينقص منه ، قال الله عز وجل : ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) ، ولم يخص مسلما من ذمي .

وفي قوله عز وجل : ( فحيوا بأحسن منها ) دليل على أنه أراد التحية الحسنة .

وأما التحية السيئة فليس على سامعها أن يحيي بأحسن منها ، وإن فعل فقد أخذ بالفضل ، وعليه أن يرد مثلها بدليل هذا الحديث , قوله - صلى الله عليه وسلم - : فقل وعليك , وقد سلف القول في معنى وجوب السلام ورده [ ص: 90 ] للجماعة ، والواحد في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا ، فلا وجه لإعادة ذلك هاهنا .

حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا أشهل بن حاتم ، عن ابن عون قال : أنبأني حميد بن زاذويه ، عن أنس ، قال : أمرنا ، أو نهينا أن لا نزيد أهل الكتاب على : وعليكم .

وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا عبد الله بن روح المدائني ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا عبد الله بن عون . فذكره بإسناده سواء .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : أخبرنا أبو داود ، قال : حدثنا عمرو بن مرزوق ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن أهل الكتاب يسلمون علينا فكيف نرد عليهم ؟ ، قال : قولوا : وعليكم .

[ ص: 91 ] وأما ابتداء أهل الذمة بالسلام ، فقد اختلف فيه السلف ومن بعدهم فكرهت طائفة أن يبتدأ أحد منهم بالسلام لحديث سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تبدءوهم بالسلام ، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه وقال أحمد بن حنبل : المصير إلى هذا الحديث أولى مما خالفه .

وذكر أبو بكر بن أبي شيبة ، عن إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن زياد الألهاني وشرحبيل بن مسلم ، عن أبي أمامة الباهلي أنه كان لا يمر بمسلم ، ولا يهودي ، ولا نصراني إلا بدأه بالسلام .

وروي عن ابن مسعود وأبي الدرداء وفضالة بن عبيد أنهم كانوا يبدءون أهل الذمة بالسلام وعن ابن مسعود أنه كتب إلى رجل من أهل الكتاب : السلام عليك .

وعنه أيضا أنه قال : لو قال لي فرعون خيرا لرددت عليه مثله .

وروى الوليد بن مسلم عن عروة بن رويم ، قال : رأيت أبا أمامة الباهلي يسلم على كل من لقي من مسلم وذمي [ ص: 92 ] ويقول : هي تحية لأهل ملتنا وأمان لأهل ذمتنا واسم من أسماء الله نفشيه بيننا .

وقيل لمحمد بن كعب القرظي : إن عمر بن عبد العزيز سئل عن ابتداء أهل الذمة ، فقال : نرد عليهم ، ولا نبدؤهم ، فقال : أما أنا ، فلا أرى بأسا أن نبدأهم بالسلام . قيل له : لم ؟ ، قال : لقول الله عز وجل : ( فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون ) .

ومذهب مالك في ذلك كمذهب عمر بن عبد العزيز ، وأجاز ذلك ابن وهب ، وقد يحتمل عندي حديث سهيل أن يكون معنى قوله : " لا تبدءوهم " أي ليس عليكم أن تبدءوهم كما تصنعون بالمسلمين ، وإذا حمل على هذا ارتفع الاختلاف .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قالا جميعا : حدثنا حفص بن عمر الحوضي ، قال : حدثنا شعبة ، عن سهيل بن أبي صالح ، قال : خرجت مع أبي إلى الشام ، قال : فجعلوا يمرون بصوامع فيها نصارى فيسلمون عليهم [ ص: 93 ] فقال أبي : لا تبدؤوهم بالسلام ، فإن أبا هريرة حدثنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تبدؤوهم بالسلام ، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيق الطريق .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا ابن نمير عبد الله ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مرثد بن عبد الله اليزني ، عن أبي عبد الرحمن الجهني ، قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : إني راكب غدا إلى يهود ، فلا تبدؤوهم بالسلام ، فإذا سلموا عليكم فقولوا : وعليكم .

قال أبو عمر : فهذا الوجه المعمول به في السلام على أهل الذمة ، والرد عليهم ، ولا أعلم في ذلك خلافا ، والله المستعان .

وقد روى سفيان بن عيينة ، عن زمعة بن صالح ، قال : سمعت ابن طاوس ، يقول : إذا سلم عليك اليهودي فقل : علاك السلام . أي ارتفع عنك السلام .

قال أبو عمر : هذا لا وجه له مع ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولو جاز مخالفة الحديث إلى الرأي في مثل [ ص: 94 ] هذا لاتسع في ذلك القول وكثرت المعاني ، ومثل قول ابن طاوس في هذا الباب - قول من قال : يرد على أهل الكتاب : عليك السلام - بكسر السين - يعني الحجارة ، وهذا غاية في ضعف المعنى ، ولم يبح لنا أن نشتمهم ابتداء ، وحسبنا أن نرد عليهم بمثل ما يقولون في قول : وعليك ، مع امتثال السنة التي فيها النجاة لمن تبعها وبالله التوفيق .

وقد ذكرنا في باب ابن شهاب حكم من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الذمة ; لأن بعض الفقهاء جعل قول اليهود هاهنا من باب السب ، قوله : السام عليكم ، وهذا عندي لا وجه له ، والله أعلم .




الخدمات العلمية