الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5071 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستحي فاصنع ما شئت " . رواه البخاري .

التالي السابق


5071 - ( وعن أبي مسعود ) : هو عقبة بن عمر الأنصاري شهد العقبة ، روى عنه ابنه بشير وخلق سواه قال ميرك : وفي نسخة ابن مسعود وهو غلط . ( قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن مما أدرك الناس ) : بالرفع نص الكازروني على أنه الرواية ، وفي بعض النسخ بالنصب أي : مما وصل إليهم وظفروا به ولحقوه ( من كلام النبوة ) : ( من ) تبعيضية ، والمعنى أن من جملة أخبار أصحاب النبوة ( الأولى ) أي : السابقة من الأنبياء والمرسلين أضافه إليهم إعلاما بأنه من نتائج الوحي ( إذا لم تستحي ) : بسكون الحاء وكسر الياء وحذف الثانية للجزم ( فاصنع ما شئت ) أي : الرادع عما لا ينبغي هو الحياء ، فإذا لم يكن صدر كل ما لا ينبغي فالأمر بمعنى الخبر أو الأمر للتهديد وأنشد :


إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستحي فاصنع ما تشاء فلا والله ما في العيش خير
وفي الدنيا إذا ذهب الحياء



قال الطيبي : من في مما ابتدائية ، وهو خبر إن واسمه قوله : إذا لم تستحي على تأويل أن هذا القول حاصل مما أدرك الناس ، والراجع إلى ما محذوف والناس فاعل أدرك ، وعليه كلام الشيخ التوربشتي حيث قال : المعنى أن مما بقي بين الناس وأدركوه من كلام الأنبياء ، ويجوز أن يكون فاعل أدرك الضمير الراجع إلى " ما " والناس مفعوله ، وعليه كلام القاضي أي مما بلغ الناس من كلام الأنبياء المتقدمين أن الحياء هو المانع من اقتراف القبائح والاشتغال بمنهيات الشرع ومستحبات العقل ، وقوله : إذا لم تستحي الجملة الشرطية اسم إن على الحكاية قال الخطابي ، قوله : من كلام النبوة الأولى معناه اتفاق كلام الأنبياء عليهم السلام على استحسان الحياء فما من نبي إلا وقد ندب إليه ، وبعث عليه ، ولم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم ، ولم يبدل فيما بدل منها ، وذلك أنه أمر قد علم صوابه وبان فضله ، واتفقت العقول على حسنه ، وما كان هذا صفة له لم يجز عليه النسخ والتبديل ، وقيد النبوة بالأولى للإرشاد إلى اتفاق كلمة الأنبياء عليهم السلام من أولهم إلى آخرهم .

[ ص: 3173 ] وفي شرح السنة قوله : فاصنع ما شئت فيه أقاويل . أحدها : أن معناه الخبر ، وإن كان لفظه لفظ الأمر كأنه يقول : إذا لم يمنعك الحياء فعلت ما شئت بما تدعوك إليه نفسك من القبيح ، وإلى هذا المعنى ذهب أبو عبيد . وثانيها : أن معناه الوعيد كقوله تعالى : اعملوا ما شئتم أي : اصنع ما شئت ، فإن الله يجازيك ، وإليه ذهب أبو العباس . وثالثها : معناه ينبغي أن تنظر إلى ما تريد أن تفعله ، فإن كان ذلك مما لا يستحى منه فافعله ، وإن كان مما يستحي منه فدعه ، وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي ، وروى هذا الحديث جرير عن منصور بإسناده ، ثم قال جرير : معناه أن يريد الرجل أن يعمل الخير فيدعه حياء من الناس كأنه يخاف مذهب الرياء يقول : فلا يمنعك الحياء من مضي ما أردت . قال أبو عبيد : وهو شبيه بالحديث الآخر إذا جاءك الشيطان وأنت تصلي ، فقال : إنك مراء فزدها طولا قلت : ويؤيده كلام الفضيل بن عياض ترك العمل لأجل الناس رياء ، والعمل لأجلهم شرك ، والإخلاص أن يخلصك الله منهما . واختار النووي أن صيغة الأمر للإباحة أي : إذا أردت أن تفعل شيئا ، فإن كان بحيث لا يستحي من الله ، ومن الناس في فعله فافعله ، وإلا فلا . وزبدة كلامه أنك إذا لم تستحي من صنع أمر فذلك دليل على جواز ارتكابه ، ثم قال : وعلى هذا مدار الإسلام وتوجيهه أن أفعال الإنسان إما أن يستحى منها أم لا . فالأول يشمل الحرام والمكروه ، وتركهما هو المشروع . والثاني : يشمل الواجب والمندوب والمباح ، وفعلها مشروع في الأولين جائز في الثالث ، فعلى هذا يتضمن الحديث الأحكام الخمسة .

وقال بعض العارفين : التحقيق أن الحياء ينشأ عن علم القلب بأن الله رقيب عليه فيحافظ ظاهره وباطنه من مخالفة أحكامه ، ويستقبح ما صدر من هفواته ، ويتحمل أنواع البلاء في نظره نشيطا ولا يشتكي إلى غيره ، فإذا ترقى عن ذلك وتحقق أن الله تعالى جل جلاله ولا إله غيره أقرب الأشياء إليه بلا ريب ، استحيا من قربه فوق ما يستحيي من رؤيته ، فيدعوه ذلك إلى محبته والخلوة معه مستوحشا من الأغيار مستلذا بروح أنس الملك الغفار ، حتى تطلع عليه طوالع أنواع التوحيد ، وتلمع في سرد بوارق أسرار التفريد ، فيستحيي من شهود مشهوده ، فانيا عن الخلق باقيا مع الحق . قال العارف السهروردي :

الحياء إطراق الروح إجلالا لعظم الجلال ، ومن هذا القبيل حياء إسرافيل ، كما ورد : إنه يستتر بجناحه حياء من الله عز وجل ، وحياء عثمان رضي الله عنه كما قال : إني لأغتسل في البيت المظلم . فأنطوي حياء من الله عز وجل . قلت : روى ابن عساكر عن أبي هريرة مرفوعا : " الحياء من الإيمان وأحيا أمتي عثمان " . ( رواه البخاري ) : وكذا رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي مسعود وأحمد أيضا عن حذيفة .




الخدمات العلمية