الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5315 - وعنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قال الله تبارك وتعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري ، تركته وشركه " .

وفي رواية : " فأنا منه بريء ، هو للذي عمله " . رواه مسلم .

التالي السابق


5315 - ( وعنه ) أي : عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : " قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء " ) أي : أنا أغنى من يزعم أنهم شركاء على فرض أن لهم غنى ( " عن الشرك " ) ، أي عما يشركون به مما بيني وبين غيري في قصد العمل ، والمعنى : ما أقبل إلا ما كان خالصا لوجهي ، وابتغاء لمرضاتي ، فاسم المصدر الذي هو الشرك مستعمل في معنى المفعول ، ويؤيد ما قررناه ما أوضحه بطريق الاستئناف بقوله : ( " من عمل عملا أشرك فيه ) أي : في قصد ذلك العمل ( " معي " ) أي : مع ابتغاء وجهي ( " غيري " ) أي : من المخلوقين ، فلا يضره قصد الجنة وتوابعها مثلا ، فإنها من جملة مرضاته سبحانه ، وإن كان المقام الأكمل أن لا يعبده لطمع جنة أو خوف نار ، فإنه عد كفرا عند بعض العارفين ، لكن التحقيق فيه : أنه لو كان بحيث لو لم تخلق جنة ولا نار لما عبده - سبحانه - لكان كافرا ، فإنه يستحق العبادة لذاته ; ولذا مدح صهيب بما روي في حقه : نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله ما عصاه ، قوله : ( " تركته وشركه " ) : خبر من ، والواو بمعنى " مع " ، أو المعنى : تركته عن نظر الرحمة وتركت عمله المشترك عن درجة القبول .

[ ص: 3332 ] ( وفي رواية : " فأنا منه بريء " ) ، قيل : من ذلك العمل ، والأظهر : من عامل ذلك العمل ; لئلا يكون تكرارا في قوله : ( " هو " ) أي : ذلك العمل ( " للذي عمله " ) أي : لأجله ، ممن قصده بذلك العمل رياء وسمعة ، وهو تأكيد لما قبله ، وقال شارح : أي هو لفاعله ، يعني : تركت ذلك العمل وفاعله لا أقبله ، ولا أجازي فاعله بذلك العمل ; لأنه لم يعمله لي ، انتهى . وفيه أنه يلزم منه أن يكون عمله حينئذ مباحا ، مع أن العمل على وجه الإشراك حرام إجماعا ، فيعاقب فاعله بذلك العمل ، فتأمل . ولنذكر بقية كلام الشراح ، فقال ابن الملك - رحمه الله - : أعني أفعل التفضيل من غني به عنه غنية ، أي : استغنى به عنه ، وإضافته إما للزيادة المطلقة ، أي : أنا غني من بين الشركاء ، وإما للزيادة على ما أضيف إليه ، أي : أنا أكثر الشركاء استغناء عن الشرك ; لكون استغنائه من جميع الجهات ، وفي جميع الأوقات ، وفيما ذكره من الوجه الثاني ما لا يخفى .

وقال الطيبي - رحمه الله - : اسم التفضيل هنا لمجرد الزيادة ، والإضافة فيه للبيان ، أو على زعم القوم ، وفيه أن وجه الإضافة للبيان يحتاج إلى مزيد البيان ، وكأنه أراد أن معناه : أنا غني مما بينهم دونهم ، ثم قال : والضمير المنصوب في تركته يجوز أن يرجع إلى العمل ، والمراد من الشرك الشريك . قال النووي - رحمه الله تعالى - : معناه أنا غني عن المشاركة وغيرها ، فمن عمل شيئا لي ولغيري لم أقبله ، بل أتركه مع ذلك الغير ، ويدل عليه الحديث الأول من الفصل الثاني ، ويجوز أن يرجع إلى العامل ، والمراد بالشرك : الشركة . وقوله : وهو يعود إلى العمل على الوجه الأول وإلى العامل على الوجه الثاني ، أي : العامل لما عمل به من الشرك ، يعني : يختص به ولا يتجاوز عنه ، وكذا الضمير في منه . أقول : ويمكن أن يقال : معناه : أنا أغنى من كل من يطلق عليه اسم الشريك ، كقوله تعالى : أحسن الخالقين فإن كثيرا من الشركاء في الدنيا من الأغنياء إذا وقع لهم سهم مع الفقراء ، فإنهم يسامحونهم به ، ويعطونهم إياه ، أو يهبونه لواحد منهم من أفقرهم ، فإذا كان هذا وصف بعض الشركاء من الضعفاء ، فكيف بالذي لا شريك له ، وله وصف العظمة والكبرياء ، هذا وقال الإمام حجة الإسلام : درجات الرياء أربعة أقسام :

الأولى : وهي أغلطها : أن لا يكون مراده الثواب أصلا ، كالذي يصلي بين أظهر الناس ، ولو انفرد لكان لا يصلى ، بل ربما يصلي من غير طهارة مع الناس ، فهذا جرد قصده للرياء فهو الممقوت عند الله تعالى .

والثانية : أن يكون له قصد الثواب أيضا ، ولكن قصدا ضعيفا ، بحيث لو كان في الخلوة لكان لا يفعله ، ولا يحمله ذلك القصد على العمل ، ولو لم يكن الثواب لكان قصد الرياء يحمله على العمل ، فقصد الثواب فيه لا ينفي عنه المقت .

والثالثة : أن يكون قصد الثواب والرياء متساويين ، بحيث لو كان واحد خاليا عن الآخر لم يبعثه على العمل ، فلما اجتمعا انبعثت الرغبة ، وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم رأسا برأس .

والرابعة : أن يكون اطلاع الناس مرجحا مقويا لنشاطه ، ولو لم يكن لم يترك العبادة ، ولو كان قصد الرياء وحده لما أقدم ، فالذي نظنه - والعلم عند الله - أنه لا يحبط أصل الثواب ، ولكنه ينقص منه ، أو يعاقب على مقدار قصد الرياء ، ويثاب على مقدار قصد الثواب ، وأما قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : " أنا أغنى الشركاء " فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان ، أو كان قصد الرياء أرجح ( رواه مسلم ) ، وكذا ابن ماجه الرواية الأولى .




الخدمات العلمية