الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5619 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، ثم الذين يلونهم كأشد كوكب دري في السماء إضاءة ، قلوبهم على قلب رجل واحد ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين ، يرى مخ سوقهن من وراء العظم واللحم من الحسن ، يسبحون الله بكرة وعشيا ، لا يسقمون ، ولا يبولون ، ولا يتغوطون ولا يتفلون ، ولا يتمخطون ، آنيتهم الذهب والفضة ، وأمشاطهم الذهب ، ووقود مجامرهم الألوة ، ورشحهم المسك ، على خلق رجل واحد ، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء " ، متفق عليه .

التالي السابق


5619 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم : ( إن أول زمرة ) بضم الزاي أي أول جماعة ، وهم الأنبياء والأولياء . كذا قاله شارح ، والظاهر أن المراد بهم الأنبياء خاصة ( يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ) ، ولعل دخولها على صورة الشمس مختص بنبينا صلى الله تعالى وسلم ( ثم الذين يلونهم ) أي : يقربون تلك الزمرة في قرب المرتبة من الأولياء والعلماء والشهداء والصلحاء . ( كأشد ) أي كل واحد منهم كأشد ( كوكب دري في السماء ) : وهو بضم الدال وتشديد الراء والياء أي : شديد الإنارة ، منسوب إلى الدر ، وتقدمت لغات أخر مع بيان مبانيها ومعانيها ثم قوله : ( إضاءة ) ، تمييز يبين وجه الشبه . قال الطيبي - رحمه الله - : أفرد المضاف إليه ليفيد الاستغراق في هذا النوع من الكوكب ، يعني : إذا تقصيت كوكبا كوكبا رأيتهم كأشد إضاءة . ( قلوبهم ) أي : قلوب أهل الجنة حينئذ ، أو قلوب الزمرة الأخيرة ، فالأولى بالأولى ( على قلب رجل واحد ) ، أي في الإنفاق والمحبة ، فقوله : ( لا اختلاف بينهم ولا تباغض ) تفسير لقوله : قلوبهم إلخ . وهذا المعنى مقتبس من قوله تعالى : ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ( لكل امرئ منهم زوجتان ) أي : عظيمتان ( من الحور ) : بضم الحاء أي النساء البيض الأبدان ، من الحور وهو البياض الخالص ، ومنه الحواري والحواريون . ( العين ) ، بكسر العين أي : حسان الأعيان ( يرى ) : بصيغة المجهول أي يبصر ( مخ سوقهن ) : جمع الساق ، أي مخ عظامهن ( من وراء العظم واللحم ) الواو لمطلق الجمع أو الترتيب للترقي ( من الحسن ) أي من أجل لطافة خلقتهن .

[ ص: 3581 ] قال الطيبي - رحمه الله - : هو تتميم صونا من توهم ما يتصور في تلك الرؤية مما ينفر عنه الطبع ، والحسن هو الصفاء ورقة البشرة ونعومة الأعضاء ، هذا ولعل الزوجتين المذكورتين لعموم أفراد المؤمنين من أهل الجنة ، وأما أهل الخصوص فيزاد لهم على حسب مقاماتهم . وقال الطيبي - رحمه الله - : الظاهر أن التثنية للتكرير لا للتحديد ، كقوله تعالى : فارجع البصر كرتين لأنه قد جاء أن للواحد من أهل الجنة العدد الكثير من الحور العين . ( يسبحون الله ) أي : أهل الجنة ينزهونه تعالى عن صفات النقصان ، ويثبتون له نعوت الكمال ، فإن النفي والإثبات متلازمان ، كما حقق في كلمة التوحيد من أن الجمع بينهما للتوكيد ، وإلى ذلك أشار في قوله سبحانه : دعواهم فيها سبحانك اللهم ( بكرة وعشيا ) ، أي دائما على أنه أراد بهما ليلا ونهارا بإطلاق الجزء وإرادة الكل ، مجاز . وقال الطيبي - رحمه الله - : يراد بها الديمومة ، كما تقول العرب : أنا عند فلان صباحا ومساء ، لا تقصد الوقتين المعلومين ، بل الديمومة ( لا يسقمون ) : بفتح القاف ويضم ، ففي القاموس : سقم كفرح وكرم ، والمعنى لا يمرضون ولا يضعفون ولا يشيبون ( ولا يبولون ) ، أي من قبل ( ولا يتغوطون ) أي من دبر ( ولا يتفلون ) بضم الفاء وتكسر أي لا يبزقون ( ولا يتمخطون ) ، أي ليس في فمهم وأنفهم من المياه الزائدة والمواد الفاسدة ليحتاجوا إلى إخراجها ، ولأن الجنة مساكن طيبة للطيبين ، فلا يلائمها الأدناس والأنجاس ( آنيتهم ) : جمع إناء أي : ظروفهم ( الذهب والفضة ) ، أي ملمعة على إرادة الزينة ، أو ظروف بعضهم الذهب ، وظروف بعضهم الفضة ، فالواو بمعنى ( أو ) للتنويع ( وأمشاطهم ) : جمع مشط ( الذهب ، ووقود مجامرهم ) : بفتح الواو أي : ما يوقد به مباخرهم ( الألوة ) : بفتح الهمزة ويضم ، وبضم اللام وتشديد الواو .

قال النووي - رحمه الله - : هو العود الهندي ، وقال شارح : المجمر - بالفتح - ما يوضع فيه الجمر ويحترق فيه العود ، وبالكسر الآلة . وقال بعضهم : فيه أنه لا نار في الجنة . وأجيب : بأنه يفوح بغير نار . أقول : وقد يكون بالنور ، وهو في غاية من الظهور ، وفي النهاية : المجامر جمع مجمر بالكسر ، وهي التي توضع فيه النار للبخور ، وبالضم هو الذي يتبخر به وأعد له الجمر . قال الطيبي - رحمه الله - : والمراد في الحديث هو الأول ، وفائدة الإضافة أن الألوة هو الوقود نفسه ، بخلاف المتعارف ، فإن وقودهم غير الألوة . انتهى .

وهذا كله من اللذات المتوالية ، والشهوات المتعالية ، وإلا فلا تلبد لشعورهم ، ولا وسخ ، ولا عفونة لأبدانهم وثيابهم ، بل ريحهم أطيب من المسك ، فلا حاجة لهم إلى التمشيط والتبخر إلا لزيادة الزينة ، والتلذذ بأنواع النعمة الحسية كما قال : ( ورشحهم ) أي عرقهم رائحة ( المسك ) ، والمعنى رائحة عرقهم رائحة المسك ، فهو تشبيه بليغ ( على خلق رجل واحد ) بضم الخاء واللام وتسكن ، والمعنى أنهم على قلب واحد كما سبق ، وبفتح الأول ، والمعنى أنهم أتراب في سن واحد ، وهو ثلاثون أو ثلاث وثلاثون سنة على ما سيأتي في الحديث ، وهو الملائم المناسب لقوله : ( على صورة أبيهم آدم ) ، أي في القامة ، وبينه بقوله : ( ستون ذراعا في السماء ) أي طولا ، فكنى عنه به ، قاله الطيبي - رحمه الله - وقيل : العرض سبعة ، والله تعالى أعلم .

قال النووي - رحمه الله - : روي بضم الخاء واللام ، وبفتح الخاء وإسكان اللام ، وكلاهما صحيح ، ورجح الضم بقوله في الحديث الآخر : لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم على قلب واحد ، وقد يرجح الفتح بقوله : لا يتمخطون ولا يتفلون . قال الطيبي - رحمه الله - : فعلى هذا لا يكون قوله : على صورة أبيهم آدم بدلا من قوله : على خلق رجل واحد ، بل يكون خبر مبتدأ محذوف ، فإذا قيل : الموصوفون بالصفات المذكورة كلها على خلق رجل واحد - حسن الإبدال ، انتهى . وإنما الاختلاف في المراد بلفظ الحديث ، وإلا فلا خلاف أن أهل الجنة كلهم كاملون في الخلق والخلق جميعا بل الخلق - بالضم - هو الخليق بالاعتبار ، فإنه موجب بحسن الخلق - بالفتح - ولذا قيل : الظاهر عنوان الباطن ، وقد ورد أنه سبحانه ما خلق نبيا إلا حسن الصورة وحسن الصوت ، ولكن قوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم بيان أن يكون له - صلى الله تعالى عليه وسلم - شأن عظيم في خلق تصويره الجسيم ، فإن المؤمن مرآة المؤمن ، فبمقدار صفاء المرآة وصقالتها وتخليتها وتجليتها تنعكس وتتجلى فيها صورة المحبوب المطلوب . ( متفق عليه ) وفي الجامع : ( أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والثانية على لون أحسن كوكب دري في السماء ، لكل رجل منهم زوجتان ، على كل زوجة سبعون حلة ، يبدو مخ ساقها من ورائها ) . رواه أحمد والترمذي عن أبي سعيد .

[ ص: 3582 ]



الخدمات العلمية