الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
702 - وعنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه

خمسا وعشرين ضعفا ; وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة ، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة ; فإذا صلى ، لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه : اللهم صل عليه ، اللهم ارحمه . ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة
) .

وفي رواية : قال : ( إذا دخل المسجد كانت الصلاة تحبسه ) . وزاد في دعاء الملائكة ( اللهم اغفر له ، اللهم تب عليه . ما لم يؤذ فيه ، ما لم يحدث فيه ) . متفق عليه .

التالي السابق


702 - ( وعنه ) : أي : عن أبي هريرة ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة الرجل ) أي : ثواب صلاته ( في الجماعة تضعف ) بالتشديد ، ويجوز التخفيف ، قاله في الأزهار ، أي : تزاد ( على صلاته ) يقال : ضعف الشيء إذا زاد ، وضعفته وأضعفته وضاعفته بمعنى ، كذا في النهاية . وقال ابن حجر : إسناد الزيادة إليها مجاز عن ثوابها ، أو يقدر مضاف أي : ثواب صلاة الرجل على ثواب صلاته وحده ( في بيته وفي سوقه ) : عطف بإعادة الجار . قال ابن حجر : بل وفي المسجد أيضا كما علم من أدلة أخرى ، وخصا بالذكر لأن ذلك التضعيف إذا فات من بهما وإن احتاج إلى ملازمتهما فمن بغيرهما أولى بأن يفوته اهـ . وفيه بحث .

والظاهر أن وجه تخصيصهما كون الغالب أن توجد الجماعة في المسجد دونهما ; ولذا أطلق تعليل التضعيف الآتي بالخروج إلى المسجد من غير تقييد بجماعة . وقيل : معناه أن الصلاة في المسجد جماعة تزيد على الصلاة في البيت وفي السوق جماعة وفرادى . وقال العسقلاني : والذي يظهر أن المراد بمقابلة الجماعة في المسجد الصلاة في

[ ص: 595 ] غيره منفردا ( خمسا وعشرين ضعفا ) أي : مثلا ، وفي رواية : سبعا وعشرين . وسيأتي الكلام عليهما في مبحث الجماعة . قال ابن الملك : المراد الكثرة لا الحصر . قال العسقلاني : قوله بخمس وعشرين ، وفي رواية الأصيلي : خمسا وعشرين ، وقوله : ضعفا كذا في الروايات التي وقفنا عليها ، وحكى الكرماني وغيره خمسا وعشرين درجة ، فيؤول الضعف بالدرجة أو بالصلاة ، ( وذلك ) أي : التضعيف البعيد المرتب على القصد والنية ( أنه ) أي : لأنه أو بأنه يعني الرجل أو الشأن ( إذا توضأ فأحسن الوضوء ) بأن جمع بين العمل بالفرائض والسنن ( ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه ) : أي : من بيته إلى المسجد ( إلا الصلاة ) أي : قصد الصلاة بجماعة لا شغل آخر ، جملة حالية مؤسسة لا مؤكدة كما قال الطيبي : الجملة الحالية كالتعليل للحكم ، كأنه لما أضاف الصلاة إلى الرجل المعرف بلام الجنس ، أفاد صلاة الرجل الكامل الذي لا يلهيه أمر دنيوي عن ذكر الله في بيت الله تضعف أضعافا ; لأن مثله لا يقصر في شرائطها وأركانها وآدابها ، فإذا توضأ أحسن الوضوء ، وإذا خرج إلى الصلاة لا يشوبه شيء مما يكدره ، وإذا صلى لم يتعجل للخروج ، ومن هذا شأنه فجدير بأن يضاعف ثواب صلاته . ( لم يخط ) قال العسقلاني : بفتح أوله وضم الطاء ، وقوله ( خطوة ) بضم أوله ، ويجوز الفتح . قال الجوهري : هي بالضم ما بين القدمين ، وبالفتح المرة الواحدة ، وجزم اليعمري أنها هنا بالفتح قال القرطبي : إنها في روايات مسلم بالضم ( إلا رفعت له بها درجة ) أي : لم يكن عليه ذنوب ( وحط عنه بها خطيئة ) أي : إذا كان عليه سيئات ، ويمكن أن يجمع له بين الرفع والحط وهو الظاهر والفضل واسع . ( فإذا صلى لم تزل ) بالتأنيث ويذكر ( الملائكة تصلي عليه ) أي : تدعو له بالخير وتستغفر من ذنوبه ( ما دام في مصلاه : اللهم اغفر له ، اللهم تب عليه ) جملة مبينة لقوله : تصلي عليه ، وفي ذلك فخامة ( اللهم ارحمه ) قال الطيبي : طلب الرحمة بعد طلب المغفرة لأن صلاة الملائكة استغفار لهم ( ولا يزال أحدكم في صلاة ) أي : حكما أخرويا يتعلق به الثواب ( ما انتظر الصلاة ) أي : ما دام ينتظرها ، فإن الأعمال بالنيات ، بل نية المؤمن خير من عمله . ( وفي رواية : قال : ( إذا دخل المسجد كانت الصلاة تحبسه ) أي : لا يمنعه من الخروج من المسجد غير انتظار الصلاة ، وفي رواية لمسلم : ( لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه ) أي : لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة . وجاء في بعض الحكايات : أن عبدا استأذن سيده أن يدخل المسجد ويصلي ، فأذن له ووقف خارج المسجد ينتظره ، فأبطأ العبد عليه فقال له : اخرج ، فقال : ما يخليني أخرج ، فقال : من هو ؟ فقال : الذي لا يخليك تدخل . ( وزاد ) أي : في هذه الرواية ( في دعاء الملائكة : اللهم اغفر له ، اللهم تب عليه ) أي : وفقه للتوبة أو اقبلها منه أو ثبته عليها ، والمعنى : لا تزال الملائكة داعين له ما دام في مصلاه أو منتظرا للصلاة ( ما لم يؤذ فيه ) : أي : أحدا من المسلمين بلسانه أو يده ; فإنه حدث معنوي ، ومن ثمة أتبعه بالحدث الظاهري فقال : ( ما لم يحدث فيه ) أي : حدثا حقيقيا ، وهو بسكون الحاء وتخفيف الدال المكسورة ، أي : ما لم يبطل وضوؤه ، لما روي أن أبا هريرة لما روى هذا الحديث قال له رجل من حضرموت : وما الحدث يا أبا هريرة ; قال : فساء أو ضراط . نقله ابن الملك ، وهو في بعض طرق الحديث عند الترمذي ، ولعل سبب الاستفسار إطلاق الحدث على غير ذلك عندهم ، أو ظنوا أن الإحداث بمعنى الابتداع ، وتشديد الدال خطأ كذا في النهاية . وقال العسقلاني : ما لم يؤذ بحدث ، كذا للأكثر بالفعل المجزوم على البدلية ، ويجوز الرفع على الاستئناف ، وللكشميهني : بحدث فيه بلفظ الجار والمجرور متعلقا بـ يؤذ ، والمراد بالحدث الناقض للوضوء ، ويحتمل أن يكون أعم من ذلك اهـ .

وقال ابن المهلب : معناه أن الحدث في المسجد خطيئة يحرم بها المحدث استغفار الملائكة ودعاءهم المرجو بركته ، وقيل : إخراج الريح من الدبر لا يحرم ، لكن الأولى اجتنابه ; لأن الملائكة تتأذى بما يتأذى منه بنو آدم ، كما يأتي في الحديث . ويؤخذ منه أن الحدث الأصغر ، وإن منع دعاء الملائكة ، لا يمنع جواز الجلوس في المسجد [ ص: 596 ] وادعى بعضهم فيه الإجماع وفيه نظر ، فقد نقل عن ابن المسيب والحسن أنه كالجنب يمر فيه ولا يجلس ، وإن جلس فيه لعبادة كاعتكاف أو انتظار صلاة أو ذكر كان مستحبا ، وإلا فمباحا ، وقيل : يكره لخبر : إنما بنيت المساجد لذكر الله . قال ابن حجر : ويجوز النوم فيه بلا كراهة عندنا ; لأن أهل الصفة كانوا يديمون النوم في المسجد ، وقيل : يكره للمقيم دون الغريب ، وهو قريب من مذهب مالك وأحمد ، وقال جمع من السلف بكراهته مطلقا ، وخبر : إنه عليه السلام خرج على ناس من أصحابه وهم رقود في المسجد فقال : انقلبوا فإن هذا ليس للمرء مرقدا . إسناده مجهول منقطع ، وخبر أبو ذر : رآني عليه السلام نائما في المسجد فضربني برجله وقال : لا أراك نائما فيه . في إسناده مجهول أيضا فلا حجة فيه اهـ . والجمع ممكن بأن يقال : يكره لمن له مسكن دون غيره ( متفق عليه ) قال ميرك : فيه نظر ، لأن قول : اللهم تب عليه ليس في البخاري ، بل يعلم من شرح الشيخ ابن حجر أنه من زيادات ابن ماجه ، والله أعلم . ويفهم من كلام الشيخ الجزري أن قوله : لا يزال أحدكم إلخ . من إفراد مسلم ، ورواه أبو داود ، والترمذي أيضا تأمل ، والله أعلم .




الخدمات العلمية