الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
741 - وعن أبي أمامة رضي الله عنه ، قال : إن حبرا من اليهود سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أي البقاع خير ؟ فسكت عنه ، وقال : ( أسكت حتى يجيء جبريل ) ، فسكت وجاء جبريل - عليه السلام - ، فسأل فقال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل . ولكن أسأل ربي تبارك وتعالى ، ثم قال جبريل : يا محمد ! إني دنوت من الله دنوا ما دنوت منه قط ، قال : ( وكيف كان يا جبريل ؟ ) ، قال : كان بيني وبينه سبعون ألف حجاب من نور ، فقال : شر البقاع أسواقها ، وخير البقاع مساجدها ، رواه ابن حبان في صحيحه عن ابن عمر .

التالي السابق


741 - ( وعن أبي أمامة قال : إن حبرا ) : بفتح الحاء أشهر من كسرها قاله ابن الملك ، وذكر في الصحاح ) ، أن كسر الحاء أصح ، لكن المشهور في الاستعمال الفتح ليفرق بين العالم وبين ما يكتب به ، كذا في المفاتيح ، وقيل في الكسر وجهه أن العالم يكثر استعماله والله أعلم ، وكان يقال لابن عباس الحبر والبحر لسعة علمه ، قاله الطيبي ، أي : عالما ( من اليهود سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي البقاع ) : بكسر الباء جمع البقعة بالضم ، وهي موضع يجتمع فيه الناس مطلقا ( خير ؟ ) ، أي : أفضل يعني كثير الخير ( فسكت عنه ) ، أي : عن جوابه ( وقال ) ، أي : في نفسه لا أنه نطق به كذا قاله الطيبي ، ولا مانع من أنه نطق به ، بل هو أظهر في المرام ، وأدفع لتوهم الإلزام ، ويدل عليه الروايات الآتية ( أسكت ) : بصيغة المتكلم ، وفي نسخة بصيغة الأمر ( حتى يجيء جبريل ) ، فسكت ) ، أي : إلى مجيء جبريل ، قال الطيبي : فيه أن من استفتي عن مسألة لا يعلمها ، فعليه أن لا يعجل في الإفتاء ، ولا يستنكف عن الاستفتاء ممن هو أعلم منه ، ولا يبادر إلى الاجتهاد ما لم يضطر إليه فإن ذلك من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وسنة جبريل ، ( وجاء جبريل - عليه السلام - ، فسأل ) ، أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه ، أو فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها ( فقال : ما المسئول عنها ) ، أي : عن هذه المسألة ( بأعلم من السائل ) : وتقدم في حديث جبريل ما [ ص: 620 ] يتعلق بهذه العبارة ( ولكن أسأل ربي تبارك ) ، أي : تكاثر خيره وتوالى بره ( وتعالى ) ، أي : ترفع عن كل ما لا يليق بكبريائه ، فالأول إثبات للنعوت الثبوتية ، والثاني نفي للصفات السلبية ، والمعنى لكني أرجع إلى حضرة ربي أسأله عن هذه المسألة فإنه أعلم ، ( ثم قال جبريل ) ، أي : بعد رجوعه ( يا محمد ! إني دنوت ) ، أي : قربت ( من الله دنوا ) : فعول مصدر دنا ( ما دنوت منه قط ) : يعني : أذن لي أن أقرب منه تعالى أكثر مما قربت منه في سائر الأوقات ، قال ابن الملك : ولعل زيادة تقربه منه في هذه المرة لتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد يزيد المحب في احترام رسول الحبيب لأجل الحبيب تم كلامه ، أو لأنه تقرب إليه تعالى بطلب العلم ، ومن وعده تعالى أي : من تقرب إليه شبرا تقرب إليه باعا والله أعلم ، وفيه أن الملائكة يزدادون العلم والقرب من الله تعالى ، إلا أن الملك ترقيه في العلم والقرب نادر بخلاف البشر ، ( قال : ( وكيف كان ) ، أي : دنوك ( يا جبريل ! ) ، قال : كان بيني وبينه ) ، أي : بين عرشه ( سبعون ألف حجاب من نور ) : ظاهره التحديد ، واعلم أن الحجب إنما تحيط بمقدر محسوس وهو الخلق ، فهم محجوبون عنه تعالى بمعاني أسمائه وصفاته وأفعاله ، وأقرب الملائكة الحافون بالعرش ، وهم محجوبون بنور المهابة والعظمة والكبرياء والجلال ، وأما الآدميون فمنهم من حجب برؤية النعم عن المنعم ، وبمشاهدة الأسباب عن المسبب ، ومنهم من حجب بالشهوات المباحة أو المحرمة ، أو بالمال والنساء والبنين وزينة الحياة الدنيا والجاه ، ومنه قول الصوفية : العلم حجاب ، قال بعض مشايخنا : لكنه نوراني ، فأفاد أن الحجب على نوعين : ظلماني وضده ، وقد أشار إليه الحديث بقوله : من نور ( فقال ) ، أي : الرب ( شر البقاع أسواقها ) : لأنها محل الغفلة والمعصية ( وخير البقاع مساجدها ) : لأنها محل الحضور والطاعة ، قال الطيبي : أجاب عن الشر والخير ، وإن كان السؤال عن الخير فقط تنبيها على بيت الرحمن وبيت الشيطان ، قلت : والأشياء تتبين بأضدادها ، ( رواه ) : كذا في أصل المصنف هنا بياض ، وألحق به ابن حبان ، عن ابن عمر ، ولذا قال الطيبي : ذكر الراوي أي المخرج ملحق ، قال ابن حجر : وفي نسخة أخرجه أحمد ، وأبو يعلى الموصلي ، والحاكم ، والحاصل أن ابن حبان أخرجه عن ابن عمر ، وأخرجه أحمد ، وصححه الحاكم من حديث جبير بن مطعم ، وأخرجه الطبراني من حديث أنس ، وأنه حديث صحيح ، وأن من قال لم يرد تكثير الحجب في حديث صحيح يحمل كلامه على ما جاء من ذلك في حديث المعراج ، كرواية : سبعين حجابا غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام ، ثم حملت على رفرف أخضر يغلب ضوءه ضوء الشمس ، حتى وصلت للعرش ، وكرواية : ثم أي ، بعد انقطاع جبريل عنه ، وقوله هذا مقامي إن جاوزته احترقت ، زج بي في النور فحرق به سبعين ألف حجاب ، ليس فيها حجاب يشبه حجابا ، فهاتان ونحوهما هي التي لم تثبت بخلاف ما نحن فيه اهـ .

[ ص: 621 ] والحاصل أن الحجاب الصوري لا يتصور في حقه تعالى بخلاف النوري المعنوي ، وما أحسن قول أبي عطاء : الحق ليس بمحجوب ، وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه ، إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه ، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصرا وكل حاصر لشيء فهو له قاهر ، وهو القاهر فوق عباده ، ومن كلامه أيضا مما يدلك على وجود قهره سبحانه ، أن حجبك عنه بما ليس بموجود معه ، ومن كلامه أيضا : كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء ، كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر قبل وجود كل شيء ، كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الواحد الذي ليس معه شيء ، كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أقرب إليك من كل شيء ؟ .

وقال السيد جمال الدين : هذا الحديث بهذا اللفظ لم أره مخرجا في شيء من الكتب المعتمدة المشهورة ، ولكن رأيت في تخريج أحاديث المصابيح للسلمي أنه قال : وروى ابن حبان في صحيحه ، عن محارب بن دثار ، عن ابن عمر أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي البقاع شر ؟ قال : في ( لا أدري حتى أسأل جبريل ) فسأل جبريل فقال : لا أدري حتى أسأل ميكائيل ، فجاء فقال : خير البقاع المساجد ، وشرها الأسواق .

قال ميرك شاه : ثم رأيت في الترغيب والترهيب للمنذري ، عن عبد الله بن عمر أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي البقاع خير ؟ وأي البقاع شر ؟ قال : ( لا أدري حتى أسأل جبريل ) فقال : لا أدري حتى أسأل ميكائيل ، فجاء فقال : خير البقاع المساجد وشر البقاع الأسواق ، رواه الطبراني في الكبير ، وابن حبان في صحيحه .

وروي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل : [ أي البقاع خير ) ، قال : لا أدرى ، قال : ( فسل عن ذلك ربك ) قال : فبكى جبريل ، وقال : يا محمد ! وما لنا أن نسأله ، هو الذي يخبرنا بما يشاء ، فعرج إلى السماء ، ثم أتاه ، فقال : خير البقاع بيوت الله في الأرض قال : ( فأي البقاع شر ؟ ) فعرج إلى السماء ، ثم أتاه فقال : شر البقاع الأسواق ، رواه الطبراني في الأوسط .

وعن جبير بن مطعم أن رجلا قال : يا رسول الله أي البلدان أحب إلى الله ؟ وأي البلدان أبغض إلى الله قال : ( لا أدري حتى أسأل جبريل ) فأتاه جبريل فأخبره أن أحب البقاع إلى الله المساجد ، وأبغض البلاد إلى الله الأسواق ، رواه أحمد والبزار واللفظ له ، وأبو يعلى والحاكم وقال : صحيح الإسناد اهـ .

وكلامه يدل على أن ذكر الحجب ليس في هذه الروايات ، فتصحيح ابن حجر غير صحيح على إطلاقه فتدبر ، وحاصله أن عدد السبعين غير صحيح ، لا نفس الحجاب فإنه ورد في حديث مسلم على ما مر في صدر الكتاب ، من رواية أبي موسى مرفوعا : ( حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه )

[ ص: 622 ]



الخدمات العلمية