الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4 - وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان " متفق عليه .

التالي السابق


4 - ( وعن ) أي : وروي عن ( ابن عمر رضي الله عنهما ) : أسلم مع أبيه بمكة ، وهو صغير ، وأول مشاهده الخندق على الصحيح ، وكان من أهل الورع والعلم والزهد قال جابر : ما من أحد إلا مالت به الدنيا ومال بها ما خلا عمر ، وابنه عبد الله .

وقال نافع : ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو زاد ، ولد قبل الوحي بسنة ، ومات سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر ، وكان أوصى أن يدفن في الحل فلم يقدر على ذلك من أجل الحجاج ، ودفن بذي طوى في مقبرة المهاجرين ، وكان الحجاج قد أمر رجلا فسم زج رمحه ، وزاحمه في الطريق ، ووضع الزج في ظهر قدمه ، وذلك أن الحجاج خطب يوما ، وأخر الصلاة ، فقال ابن عمر : إن الشمس لا تنتظرك ، فقال له الحجاج : لقد هممت أن أضرك الذي في عينك . قال : " لا تفعل فإنك سفيه مسلط ، وقيل : إنه أخفى قوله ذلك عن الحجاج ، ولم يسمعه ، وكان يتقدمه في المواقف بعرفة ، وغيرها إلى المواضع التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف فيها ، وكان ذلك يعز على الحجاج ، والحاصل أنه كان يخاف عليه أن يدعي الخلافة فحصل له الشهادة ، وله أربع وثمانون سنة . روى عنه خلق كثير . [ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( بني الإسلام ) ] هو : اسم للشريعة دون الإيمان ، وقد يطلق على الإذعان بالقلب ، والاستسلام بجميع القوى والجوارح : في جميع الأحوال ، وهو الذي أمر به إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - حيث قال له : أسلم ، وهذا أخص من الأول ، والمراد له الإسلام الكامل لأن حقيقته مبنية على الشهادتين فقط ، وإنما اقتصر على بيان أركانه مع إيماء إلى بقية شعب إيمانه فلا يتوجه ما قيل إنما يصح الحديث على مذهب الشافعي ، وغيره من أن الإسلام عبارة عن مجموع الثلاث . [ ( على خمس ) ] أي : خمس دعائم ، كما في رواية ، أو خصال أي : قواعد ، وفي رواية لمسلم بالتاء أي : خمسة أشياء ، أو أركان ، أو أصول ، وإنما جاز هنا لحذف المعدود شبهت حالة الإسلام مع أركانه الخمس على وجه الدوام بحال خباء أقيم على خمسة أعمدة ، وقطبها الذي تدور عليه الأركان هي الشهادة الناشئة عن صميم القلب الشاهد عليه لفظ الشهادة المشبهة بالعمود الوسط للخيمة ، وبقية شعب الإيمان بمنزلة الأوتاد للخباء . قال الحسن - رضي الله عنه - في مجمع شهود جنازة للفرزدق : ما أعددت لهذا المقام ؟ فقال : شهادة أن لا إله إلا الله منذ كذا سنة . فقال الحسن : هذا العمود فأين الأطناب ، وهو تمثيل شبه الإسلام بخيمة عمودها كلمة التوحيد ، والأطناب الأعمال الصالحة [ ( شهادة أن لا إله إلا الله ) ] : بالجر ، وهو الأشهر على أنه عطف بيان ، أو بدل من خمس بدل كل ، وهو مجموع المجرورات المتعاطفة من كل ، ويصح أن يكون بدل بعض مع ملاحظة الربط قبل العطف لعدم الرابط ، وبالنصب على تقدير أعني ، وبالرفع على أنه خبر [ ص: 68 ] مبتدأ محذوف وهو : هي ، أو إحداهما ، أو على أنه مبتدأ خبره محذوف أي : منها شهادة أن لا إله إلا الله ، و ( أن ) مخففة ، و ( لا ) نافية للجنس ، و ( إله ) اسمها ركب معها تركيب خمسة عشر ففتحة فتحته بناء لا إعراب خلافا للزجاج حيث زعم أنه نصب بها لفظا ، وخبرها محذوف اتفاقا تقديره موجود إن أريد بالإله المعبود بحق ، وإلا فتقديره معبود بحق ، وإلا حرف استثناء ، وقيل : بمعنى غير ، وهي مع ما بعدها صفة الله ، وخبره محذوف ، وجوز نصب الجلالة نعتا لإله على أن إلا بمعنى غير ، وقيل على الاستثناء ، والله مرفوع على البدلية من ضمير الخبر المستتر فيه ، وقيل بدل من اسم لا باعتبار محله قبلها ، وقيل على أنه خبر لا [ ( وأن محمدا عبده ) ] أي : الكامل [ ( ورسوله ) أي : المكمل ، ولتلازم الشهادتين شرعا جعلتا خصلة واحدة ، واقتصر في رواية على إحدى الشهادتين اكتفاء ، أو نسيانا . قيل : وأخذ من جمعهما كذلك في أكثر الروايات أنه لا بد في صحة الإسلام من الإتيان بهما على التوالي ، والترتيب ، [ ( وإقام الصلاة ) ] أي : المفروضة ، وحذفت تاء الإقامة المعوضة عن عين الفعل المحذوفة عند الإضافة لطول العبارة ، هذا هو التحقيق على ما قاله الزجاج ، وقيل هما مصدران . [ ( وإيتاء الزكاة ) ] أي : إعطائها وتمليكها لمصارفها ، والمراد بها الصدقة المكتوبة [ ( والحج ) ] : بفتح الحاء وكسرها مصدران ، وفي رواية ، وحج البيت أي : قصده لأداء النسك فاللام عوض عن المضاف إليه ، وقيل اللام للعهد الذهني ، والواو لمطلق الجمع فلا يرد أن الصوم فرض قبل الزكاة ، وهي قبل الحج ، ولعل النكتة في التقديم الذكري هي الإشارة إلى أن العبادة إما بدنية فقط ، أو مالية فقط ، أو مركبة منهما ، أو إيماء إلى أن الطاعة المثلثة إما يومية ، أو سنوية ، أو عمرية ، ولم يذكر الاستطاعة ; لشهرتها ، أو على اعتبارها في كل طاعة .

[ ( وصوم رمضان ) ] أي : أيامه بشرائط ، وأركان معلومة . قيل : فيه حذف شهر ، وفيه أن رمضان اسم للشهر ، وقوله تعالى : ( شهر رمضان ) إضافته بيانية ، وقد ورد في بعض الروايات تقديمه على الحج ، وكلاهما صحيح لما تقدم ، ولذا قدم البخاري كتاب الحج على الصوم ، والجمهور أخروه عن جميع العبادات لكون وجوبه يتعلق بآخر العمر . قال النووي : ذكر البخاري هذا الحديث في مفتتح كتاب الإيمان ليبين أن الإسلام يطلق على الأفعال ، وأن الإسلام والإيمان قد يكونان بمعنى واحد . وقال ابن حجر : وجه ذكر الأربعة الأخيرة مع الشهادتين ، وإن توقف الدخول في الإسلام عليهما فقط التنبيه على تعظيم شأنها ، وأنها أظهر شعائر الإسلام إذ بها يتم الاستسلام ، وبترك بعضها ينحل قيد الانقياد ، وإن لم يؤد إلى كفر حيث لا إنكار إجماعا إلا ما جاء عن أحمد وغيره في ترك الصلاة فإنه لدليل خاص كقوله - عليه الصلاة والسلام - : " من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر " : ولم يذكر الجهاد لأنه فرض كفاية إلا في بعض الأحوال ، والكلام في فروض العين التي هي أعظم شعائر الإسلام ، ولهذا زيد في آخره في رواية ، وأن الجهاد من العمل الحسن ، قيل وجه الحصر في تلك الخمسة أن العبادة إما فعل أو ترك . الثاني الصوم ، والأول إما لساني وهو الشهادتان ، أو بدني وهو الصلاة ، أو مالي وهو الزكاة ، أو مالي وبدني وهو الحج ، وقدمت الشهادتان ؛ لأنهما الأصل ، ثم الصلاة لأنها العماد الأعظم ، ومن ثم جاء في حديث : وعمودها الصلاة . وفي حديث : الصلاة عماد الدين . وقال تعالى : ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) ولذا سميت أم العبادات كما سميت الخمر أم الخبائث ، ثم الزكاة ؛ لأنها قرينتها في مواضع من القرآن ، وللمناسبة البدنية والمالية في القرآن ، ثم الحج لكونه مجمعا للعبادتين ، ومحلا للمشقتين ، ولأن تاركه من غير عذر على مدرجة خاتمة السوء كما يدل عليه الحديث الذي [ ص: 69 ] اختلف في ضعفه ، وصحته : من استطاع الحج فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا ، وإن شاء نصرانيا ، ويدل على أصالة الحديث قوله تعالى : ( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) حيث وضع من كفر موضع من لم يحج مع إفادة مبالغة التهديد في قوله : " عن العالمين " ، حيث عدل عنه ، وأما تأخيره عن الصوم كما في رواية صحيحة فرعاية للترتيب ، فإن الصوم فرض في السنة الثانية ، والحج فرض سنة خمس ، أو ست ، أو ثمان ، أو تسع . ( متفق عليه ) .

ورواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي أيضا ، والأحاديث الثلاثة المتقدمة من جملة الأحاديث الأربعينية النووية .




الخدمات العلمية