الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1042 - وعن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - قال : قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، فقدمت المدينة ، فدخلت عليه ، فقلت : أخبرني عن الصلاة ، فقال : " صل صلاة الصبح ، ثم أقصر عن الصلاة حين تطلع الشمس حتى ترتفع ، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفار ، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ، ثم أقصر عن الصلاة ; فإن حينئذ تسجر جهنم ، فإذا أقبل الفيء فصل ; فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس ; فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار " قال : قلت : يا نبي الله فالوضوء حدثني عنه قال : " ما منكم رجل يقرب وضوءه فيمضمض ويستنشق فيستنثر ، إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه ، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله ، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين ; إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء ، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين ، إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء ، فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل ، وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه " ، رواه مسلم .

التالي السابق


1042 ( وعن عمرو بن عبسة ) : بالتحريك ، قال الطيبي : من بني سليم ، أسلم قديما ، قيل : كان رابع أربعة في الإسلام ، ثم رجع إلى قومه ، وقال له - عليه السلام - : " إذا سمعت أني قد خرجت فاتبعني " فجاء بعد خيبر ، ومن قصته أنه أقبل إلى مكة وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مستخف إيمانه من قومه ، ثم عاد إلى قومه مترصدا حتى سمع أنه - عليه السلام - قدم المدينة فارتحل إليها ، ( قال : قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، فقدمت المدينة ) ، أي : على قصد اللحوق به - صلى الله عليه وسلم - وفيه وضع الظاهر موضع الضمير ، ( فدخلت عليه ، فقلت : أخبرني عن الصلاة ) ، أي : عن وقتها الجائزة فيه بدليل الجواب ، ( فقال : " صل صلاة الصبح " ) ، أي : سنته وفرضه ( " ثم أقصر عن الصلاة " ) : من الإقصار ، وهو : الكف عن الشيء مع القدرة عليه . ( " حين تطلع الشمس حتى ترتفع ، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان " ) : قيل : تنكيره للتحقير ، وفي نسخة صحيحة : " بين قرني الشيطان " ، قالالنووي : هكذا في الأصول بلا ألف ولام ، وفي بعض أصول مسلم في حديث ابن عمر بالألف واللام ، قيل : المراد بقرني الشيطان : أحزابه وأتباعه ، وقيل : قوته وغلبته وانتشار الفساد ، وقيل : القرنان ناصيتا الرأس وهذا هو الأقوى يعني : أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات ، فيكون الساجد لها من الكفار كالساجدين له في الصورة ، نقله ميرك ، ( " وحينئذ يسجد لها الكفار " ) ، أي : الذين يعبدونها ( " ثم صل " ) ، أي : صلاة الإشراق فإنها مبدأ الضحى ، أو صلاة الضحى فإنها منتهية إلى قرب الاستواء أو صل ما شئت ، ( " فإن الصلاة " ) ، أي : بعد ارتفاع الشمس ، أو إن الصلاة المشروعة ( " مشهودة محضورة " ) ، أي : يحضرها الملائكة ليكتبوا أجرها ويشهدوا بها لمن صلاها ، ويؤيده أن في رواية : " مشهودة مكتوبة " ، وقال الطيبي ، أي : يحضرها أهل الطاعة من سكان السماء والأرض ، وعلى المعنيين ؛ فمحضورة : تفسير مشهودة وتأكيد لها ، ويمكن أن يحمل مشهودة على المعنى الأول ، ومحضورة على المعنى الثاني ، أو الأولى بمعنى الشهادة ، والثانية بمعنى الحضور للتبرك ، والتأسيس أولى من التأكيد وفيه بيان لفضيلة صلاة الضحى ، ( " حتى يستقل الظل بالرمح " ) ، أي : حتى يرتفع الظل مع الرمح ، أو في الرمح ولم يبق على الأرض منه شيء ، أو يرتفع الظل بالرمح ، أي : بارتفاع الرمح من الاستقلال بمعنى الارتفاع .

قال ابن الملك : يعني لم يبق ظل الرمح ، وهذا بمكة والمدينة وحواليهما في أطول يوم في السنة ، فإنه لا يبقى عند الزوال ظل على وجه الأرض ، بل يرتفع عنها ، ثم إذا مالت الشمس من جانب المشرق إلى جانب المغرب ، وهو أول وقت الظهر يقع الظل على الأرض ، وقيل : من القلة يقال : استقله إذا رآه قليلا ، أي : حتى يقل الظل الكائن بالرمح أدنى غاية القلة ، وهو المسمى بظل الزوال اهـ .

وروي : حتى يستقل الرمح بالظل ، أي : يرفع الرمح ظله ، فالباء للتعدية ، وعلى الروايتين هو مجاز عن عدم بقاء ظل الرمح على الأرض ، وذلك يكون في وقت الاستواء ، وتخصيص الرمح بالذكر ; لأن العرب كانوا إذا أرادوا معرفة الوقت ركزوا رماحهم في الأرض ثم نظروا إلى ظلها .

قال الإمام النووي : قوله : " حتى يستقل الظل بالرمح " ، أي : يقوم مقابله في جهة الشمال ليس مائلا إلى المغرب ، ولا إلى المشرق وهو حالة الاستواء ، وقال التوربشتي : كذا في نسخ المصابيح ، وفيه تحريف وصوابه : " حتى يستقل الرمح بالظل " ، ووافقه صاحب النهاية فقال : يستقل الرمح بالظل : يبلغ ظل الرمح المغروز في الأرض أدنى غاية القلة والنقص ، فقوله : يستقل من القلة لا من الإقلال والاستقلال الذي بمعنى الارتفاع والاستبداد .

قال الطيبي : كيف ترد نسخ المصابيح مع موافقتها بعض نسخ مسلم ، وكتاب الحميدي ؟ ! ولها محامل منها : أن يرتفع الظل معه ولا يقع منه شيء على الأرض من قولهم : استقلت السماء : ارتفعت ، ومنها : أن يقدر مضاف أي يعلم قلة الظل بواسطة ظل الرمح ، ومنها : أن يكون من باب : عرضت الناقة على الحوض اهـ .

[ ص: 823 ] قال ابن حجر : وفيه حجة على مالك في تجويزه الصلاة عند الاستواء مطلقا مستدلا بأنه لم يزل يرى الناس يصلون حينئذ يوم الجمعة ، قلت : تحقق صلاتهم في خصوص تلك الساعة يحتاج إلى تحقيق وتدقيق ، ثم قال ابن حجر : وما استدل به لا ينهض له ; لأن يوم الجمعة مستثنى كما يأتي اهـ .

وسيأتي الجواب عن الاستثناء إن شاء الله تعالى ( " ثم أقصر " ) : بهمزة مفتوحة وبكسر الصاد ، أي : كف وامتنع ( " عن الصلاة " ) : مطلقا ( " فإن حينئذ " ) ، أي : حين يستقل الظل بالرمح ( " تسجر " ) : بالتشديد والتخفيف مجهولا ، أي : تعقد ( " جهنم " ) : من تسجر التنور : إذا أوقده ، قال ابن الملك : أي : تملأ نيران جهنم وتوقد ، ولعل تسجرها حينئذ لمقارنة الشيطان الشمس وتهيئة عباد الشمس أن يسجدوا لها ، قال ابن حجر : واسم " إن " أن المصدرية المقدرة على حد قوله تعالى : ومن آياته يريكم البرق أو ضمير الشأن ، وما قيل أنه لا يحذف ; لأن القصد به التعظيم ، وهو يفوت بحذفه مردود بأن سبب دلالته على التعظيم إبهامه ، وحذفه أدل على الإبهام ، ومن ثم حذف في قوله تعالى من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ( " فإذا أقبل الفيء " ) ، أي : رجع بعد ذهابه من وجه الأرض ، فهذا وقت الظهر ، والفيء : ما نسخ الشمس وذلك بالعشي ، والظل ما نسخته الشمس وذلك بالغدوة ، ( " فصل " ) : أي : أي صلاة تريدها ( " فإن الصلاة مشهودة محضورة " ) : صفة كاشفة أو ثانية ( " حتى تصلي " ) : أي : أنت ( " العصر " ) ، أي : فرضه ( " ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس " ) : أي : يقرب غروب الشمس ، فيصير المعنى حين تغرب ، فيناسب قرينه المتقدم حين تطلع ويلائم تعليله بقوله " : فإنها تغرب . . " إلخ .

ولعل العدول ليفهم من أحد العبارتين وقت الطلوع ، ويقاس عليه وقت الغروب ، ومن العبارة الأخرى ما بين العصر والغروب ، ويقاس عليه ما بين الفجر والطلوع والله أعلم ، ( " فإنها تغرب بين قرني شيطان " ) : وتنكيره لما مر ، وفي بعض النسخ بالتعريف ( " وحينئذ يسجد لها الكفار " ) : فلا يشابه أهل النار في عبادتهم ، فضلا عن غيرها ، وأما ما بين فرض الصبح وحين الطلوع ، وبين فرض العصر وزمان الغروب ، فوقت مكروه للنوافل فقط عندنا ، قيل : والحكمة في ذلك بعد ورود الأحاديث أن ما قارب الشيء أعطي حكمه ، كتحريم فرج الحائض ، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، وأيضا فعباد الشمس ربما تهيئوا لتعظيمها من أول ذينك الوقتين ، فيرصدونها مراقبين لها إلى أن تظهر فيخروا لها سجدا ، فلو أبيح التنفل في ذينك الوقتين لكان فيه أيضا تشبه بهم أو إيهامه أو التسبب إليه ، وكذا بين طلوع الصبح وأداء فرضه ما عدا سنته .

( قال : قلت : يا نبي الله فالوضوء ) : بالرفع ، وقيل بالنصب ( حدثني عنه ) ، أي : أخبرني عن فضله ، ( قال : " ما منكم رجل يقرب " ) : بالتشديد على بناء الفاعل ، وقيل : على بناء المفعول ( " وضوءه " ) : بفتح الواو ، أي : الماء الذي يتوضأ به ، ( " فيمضمض " ) ، أي : بعد غسل اليدين ، والتسمية ، والنية ، ( " ويستنشق " ) ، أي : يدخل الماء في الأنف ( " فيستنثر " ) ، أي : يخرج ما في الخيشوم من الأوساخ ( " إلا خرت " ) : استثناء مفرغ ، قال الطيبي : قوله : إلا خرت خبر " ما " والمستثنى منه مقدر ، أي : ما منكم رجل متصف بهذه الأوصاف كائن على حال من الأحوال إلا على هذه الحالة ، وعلى هذا المعنى ينزل سائر الاستثناءات ، وإن لم يصرح بالنفي فيها لكونها في سياق النفي بواسطة ثم العاطفة ، [ ص: 824 ] أي : سقطت ، ( " خطايا وجهه " ) : من الصغائر ، قال النووي : ضبطناه بالخاء المعجمة ، وكذا نقله القاضي عياض عن جميع الرواة إلا عن أبي جعفر فإنه رواه بالجيم ، ذكره الطيبي ، أي : جرت مع ماء الوضوء ، وذهبت ذنوب وجهه ، ( " وفيه " ) ، أي : خطايا فمه من جهة الكلام ، ومن طريق الطعام ، ( " وخياشيمه " ) ، أي : أنفه جمع خيشوم ، وهو باطن الأنف من جهة رائحة طيب محرم على جهة القصد ، والظاهر أن عطف " فيه " وما بعده على ما قبله تفسيري لقوله : ( " ثم إذا غسل وجهه " ) ، أي : كله أو باقيه ( " كما أمره الله " ) : إشارة إلى أن غسله فرض بأمره تعالى عز قائلا : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم بخلاف ما سبق ، فإنهما سنتان بأمره - عليه السلام - أو بمعنى كما أمره الله أن يبدأ بغسله ولذا قال - عليه السلام - عند إرادة السعي " ابدءوا بما بدأ الله تعالى به " ، ( " إلا خرت خطايا وجهه " ) : من ذنوب عينيه ( " من أطراف لحيته " ) ، أي : موضعها ( " مع الماء ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين " ) ، أي : منضمتين إليهما ، أو إلى معنى " مع " خلافا لزفر ، فإنه ليس بفرض عنده ، وفي الآية والحديث رد على الشيعة حيث انعكس الأمر عليهم ، وانقلب الرأي لديهم ، فيغسلون اليدين من المرفقين إلى الأصابع ( " إلا خرت خطايا يديه " ) : وهي كثيرة ( " من أنامله " ) : وهي رءوس أصابعه ( " مع الماء ، ثم يمسح رأسه " ) : ظاهره الاستيعاب إما بطريق الفرضية وإما على طريق السنية ، ( " إلا خرت خطايا رأسه " ) : ومنها خطايا الأذنين ، ولذا يمسحان بمائه عندنا فيكون قوله : ( " من أطراف شعره " ) : بفتح العين وسكونها نظرا إلى الأصل ، أو التغليب ، ( " مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين " ) : كما مر ( " إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء ، فإن " ) : شرطية ( " هو " ) ، أي : الرجل ورافعه فعل مضمر يفسره ( " قام " ) : ولحذفه برز ضميره المستكن فيه ، أي : فإن قام بعد فراغ الوضوء ( " فصلى فحمد " ) : وفي نسخة : وحمد ، أي : وشكر ( " الله " ) ، أي : بعد الصلاة ( " وأثنى عليه " ) ، أي : ذكر الله ذكرا كثيرا ، وقيل : فائدته الإعلام بأن لفظ الحمد غير متعين ( " ومجده " ) ، أي : عظمه بالقلب واللسان ، فهو تعميم بعد تعميم ، أو بعد تخصيص ، وجعله ابن حجر لمزيد التأكيد والإطناب ( " بالذي " ) ، أي : بالتحميد الذي ( " هو له أهل " ) ، أي : مما يليق بعظمة جماله وجلالة جلاله وبهاء كماله ، وقدم الجار لإفادة الاختصاص والاهتمام ، قال ابن الملك : ضمير " هو " عائد إلى الموصول ، وضمير " له " إلى الله ، ( " وفرغ قلبه " ) ، أي : جعله حاضرا لله وغائبا عما سواه ، أي : في صلاته وحالة مناجاته ( " لله " ) ، أي : لا لغيره حتى الثواب ; لأن ربط القصد به ينافي مقام الكمال المشار إليه بقوله تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ( " إلا انصرف " ) : قيل : " هو " في قوله " فإن هو " فاعل محذوف وعائد إلى الرجل المذكور تقديره : إن قام الرجل المذكور ففعل كذا وكذا ، فليس إلا انصرف ، ( " من خطيئته " ) : وقيل : الأولى أن تكون " إن " فيه نافية ، وقال ابن حجر : وجواب " إن " فلا ينصرف خارجا من شيء من الأشياء إلا انصرف خارجا من خطيئته ، أي : صغائره فيصير متطهرا منها ( " كهيئته " ) ، أي : كصفته ( " يوم ولدته أمه " ) : بفتح الميم ، وفي نسخة : " كهيئة يوم " بالإضافة مع تنوين " يوم " وفتحه على البناء ، وظاهره غفران الكبائر والصغائر إلا أن الصغائر محققة والكبائر بالمشيئة مقيدة .

قال الطيبي : " فإن هو قام " إن شرطية ، والضمير المرفوع بعدها فاعل فعل يفسره ما بعده ، وجواب الشرط محذوف ، وهو المستثنى منه ، أي : لا ينصرف في شيء من الأشياء إلا من خطيئته . . . . إلخ ، وجاز تقدير النفي لما مر من أن الكلام في سياق النفي ، وهذا على مذهب الزمخشري ، وأما مذهب ابن الحاجب ، فيجوز في الإثبات نحو : قرأت إلا يوم الجمعة ، ( رواه مسلم ) .

[ ص: 825 ] -



الخدمات العلمية