الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 950 ] 1273 - وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما ، قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر : " اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت " . رواه الترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والدارمي

التالي السابق


1273 - ( وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات ) ، أي : جملا مفيدة ( أقولهن ) ، أي : أدعو بهن ( في قنوت الوتر ) : وفي رواية : في الوتر ، وظاهره الإطلاق في جميع السنة كما هو مذهبنا ، والشافعية يقيدون القنوت في الوتر بالنصف الأخير من رمضان ( " اللهم اهدني " ) ، أي : ثبتني على الهداية ، أو زدني من أسباب الهداية إلى الوصول بأعلى مراتب النهاية ، ( " فيمن هديت " ) ، أي : في جملة من هديتهم أو هديته من الأنبياء والأولياء ، كما قال سليمان : ( وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) ، وقال ابن الملك ، أي : اجعلني ممن هديتهم إلى الصراط المستقيم ، وقيل ( في ) فيه وفيما بعده بمعنى " مع " قال تعالى : ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم ) ( " وعافني فيمن عافيت " ) ، أي : من أسوأ الأدواء والأخلاق والأهواء ، وقال ابن الملك : من المعافاة التي هي دفع السوء ( " وتولني فيمن توليت " ) ، أي تول أمري ولا تكلني إلى نفسي في جملة من تفضلت عليهم بذلك ، قال ابن الملك : يعني أحببتهم أو ممن تقوم بحفظ أمورهم ، قال المظهر : أمر مخاطب من تولى إذا أحب عبدا وقام بحفظه وحفظ أمره . ( " وبارك " ) ، أي : أكثر الخير . ( " لي " ) ، أي : لمنفعتي ( " فيما أعطيت " ) ، أي : فيما أعطيتني من العمر والمال والعلوم والأعمال ، قال الطيبي : ( في ) فيه ليست كما هي في السوابق ; لأن معناها أوقع البركة فيما أعطيتني من خير الدارين ، ومعناها في قوله فيمن هديت اجعل لي نصيبا وافرا من الاهتداء معدودا في زمرة المهتدين من الأنبياء والأولياء . ( " وقني " ) ، أي : احفظني . ( " شر ما قضيت " ) ، أي : ما قدرت لي من قضاء وقدر ، فسلم لي العقل والدين ، قال الطيبي : وهذا من قبيل : أفر من قضاء الله تعالى بقدره ( " فإنك " ) : وقع كالتعليل لسؤال ما قبله ( " تقضي " ) ، أي : تقدر أو تحكم بكل ما أردت ( " ولا يقضى عليك " ) : فإنه لا معقب لحكمك ولا يجب عليك شيء ( " إنه " ) ، أي : الشأن ( " لا يذل " ) : بفتح فكسر ، أي لا يصير ذليلا ، أي حقيقة ولا عبرة بالصورة ( " من واليت " ) : الموالاة ضد المعاداة . وجاء في بعض الروايات : ولا يعز من عاديت .

قال ابن حجر ، أي لا يذل من واليت من عبادك في الآخرة أو مطلقا وإن ابتلي بما ابتلي به ، وسلط عليه من أهانه وأذله باعتبار الظاهر ; لأن ذلك غاية الرفعة والعزة عند الله وعند أوليائه ، ولا عبرة إلا بهم ، ومن ثم وقع للأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الامتحانات العجيبة ما هو مشهور ، كقطع زكريا بالمنشار ، وذبح ولده يحيى ، وزاد البيهقي ، وكذا الطبراني من عدة طرق : ولا يعز من عاديت ، أي : لا يعز في الآخرة أو مطلقا وإن أعطي من نعيم الدنيا وملكها ما أعطي ، لكونه لم يمتثل أوامرك ولم يجتنب نواهيك ، وورد عند ابن أبي عاصم بعد ذلك : نستغفرك ونتوب إليك . اهـ كلامه .

( " تباركت " ) ، أي : تكاثر خيرك في الدارين ( " ربنا " ) : بالنصب ، أي : يا ربنا ( " وتعاليت " ) ، أي : ارتفع عظمتك وظهر قهرك وقدرتك على من في الكونين ، وقال ابن الملك ، أي ارتفعت عن مشابهة كل شيء . ( رواه الترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والدارمي ) : وفي التصحيح : ورواه أحمد ، وابن حبان في صحيحه ، وابن أبي شيبة في مصنفه ، والحاكم ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن ولا نعرف في القنوت شيئا أحسن من هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الترمذي والنسائي : ( فإنك ) بالفاء والباقون ( إنك ) بغير فاء . وزاد النسائي : ولا يعز من عاديت ، وفي آخره ، وصلى الله على النبي . ورواه ابن أبي عاصم وزاد : نستغفرك ونتوب إليك . اهـ .

[ ص: 951 ] والظاهر أن هذه الزيادة قبل زيادة الصلاة على ما يفهم من الحصن ، وصرح به ابن الهمام ، وقال ابن حجر : وهو حديث صحيح ، لكن صح أيضا زيادة واو قبل إنه ، ومن ثم غلط جماعة من الفقهاء حذف هذه الواو والفاء قبل إنك وربنا بأنه مخالف لما صح من إثبات الثلاث ، قال ميرك : وزاد الحاكم في حديث بعد قوله في قنوت الوتر في الأخيرة إذا رفعت رأسي من الركوع : اللهم اهدني وساقه . اهـ .

وفي رواية ذكرها البيهقي أن محمد ابن الحنفية قال : إن هذا الدعاء الذي كان أبي يدعو به في صلاة الفجر في قنوته ، وروى البيهقي من طرق عن ابن عباس أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يعلمهم هذا الدعاء ليدعوا به في قنوت الصبح ، وفي رواية أنه كان يقنت في صلاة الصبح ووتر الليل بهؤلاء الكلمات ، قال البيهقي : فدل ذلك على أن تعليم هذا الدعاء وقع لقنوت الوتر والصبح ، قال ابن الهمام : هنا ثلاث خلافيات : إحداها : أنه إذا قنت في الوتر يقنت قبل الركوع أو بعده ؟ والثانية : أن القنوت في الوتر في جميع السنة أو في النصف الأخير من رمضان ؟ والثالثة : هل يقنت في غير الوتر أو لا ؟ للشافعي ما رواه الحاكم عن الحسن بن علي وصححه ، قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في وتري إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود . الحديث ، ولنا : ما رواه النسائي ، وابن ماجه ، عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع ، وأخرج الخطيب في كتاب القنوت ، عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الوتر قبل الركوع ، وذكره ابن الجوزي في التحقيق وسكت عنه ، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال : أوتر النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث فقنت منها قبل الركوع ، وأخرج الطبراني في الأوسط ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات ، ويجعل القنوت قبل الركوع ، وأما حديث أنس أنه - عليه الصلاة والسلام - قنت بعد الركوع ، فالمراد منه أن ذلك كان شهرا فقط بدليل ما سيأتي عنه قريبا في باب القنوت ، قال : ومما يحقق ذلك أن عمل الصحابة أو أكثرهم كان على وفق ما قلنا ، قال ابن أبي شيبة : حدثنا يزيد بن هارون ، عن هشام الدستوائي ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة أن ابن مسعود وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع ، ولما ترجح ذلك خرج ما بعد الركوع من كونه محللا للقنوت ، فلذا روي عن أبي حنيفة أنه لو سها عن القنوت فتذكره بعد الاعتدال لا يقنت ، ولو تذكره في الركوع فعنه روايتان ، إحداهما : لا يقنت ، والأخرى يعود إلى القيام فيقنت ، والذي في فتاوى قاضي خان والصحيح أنه لا يقنت في الركوع ، ولا يعود إلى القيام فإن عاد إلى القيام وقنت ولم يعد الركوع لم تفسد صلاته ; لأن ركوعه قائم لم يرتفض إلا إذا اقتدى بمن يقنت في الوتر بعد الركوع فإنه يتابعه اتفاقا ، وأجمعوا على أن المسبوق بركعتين إذا قنت مع الإمام في الثالثة لا يقنت مرة أخرى ، ولو سبقه الإمام فركع وهو لم يفرغ يتابعه ، ولو ركع الإمام وترك القنوت ولم يقرأ المأموم منه شيئا إن خاف فوت الركوع يركع وإلا قنت ثم ركع . اهـ . والخلافيتان الأخريان سنذكرهما في باب القنوت إن شاء الله تعالى .

قال ابن حجر : واعلم أن قنوت الوتر مختص عندنا بنصف رمضان الثاني لما صح كما قاله الحافظ المنذري ، عن عمر رضي الله عنه : السنة إذا انتصف رمضان أن يلعن الكفرة في الوتر بعدما يقول سمع الله لمن حمده ، ومن ثم لما جمع الناس على أبي لم يقنت بهم إلى النصف الثاني .

رواه أبو داود . والاعتراض على المنذري بأن ما صححه غريب مردود بأنه جاء من طرق أخرى ، قلت : لا يلزم من مجيئه بطرق أخرى صحته ، وبفرض تسليمه يحمل على زيادة قنوت خاص مخصوص بوقت غلبة الكفار ودفعهم بالدعاء ، وهو لا ينافي دوام القنوت المذكور في جميع السنة والله أعلم .




الخدمات العلمية