الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1276 - وعن علي رضي الله عنه ، قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره : " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " . رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه .

التالي السابق


1276 - ( وعن علي رضي الله عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره ) ، أي بعد السلام منه كما في رواية ، قال ميرك : وفي إحدى روايات النسائي كان يقول إذا فرغ من صلاته وتبوأ مضجعه : ( " اللهم إني أعوذ برضاك " ) ، أي من جملة صفات جمالك ( " من سخطك " ) ، أي : من بقية صفات جلالك ( " وبمعافاتك " ) : من أفعال الإكرام والإنعام ( " من عقوبتك " ) : من أفعال الغضب والانتقام ( " وأعوذ بك منك " ) ، أي : بذاتك من آثار صفاتك ، وفيه إيماء إلى قوله تعالى : ( ويحذركم الله نفسه ) وإشارة إلى قوله تعالى : ( ففروا إلى الله ) وتلميح إلى قوله عز وجل : ( وتبتل إليه تبتيلا ) أي : انقطع إليه انقطاعا بالكلية حتى تغيب عما سواه فتفنى عن وجودك وشهودك وتبقى ببقاه ، ولعل هذا السر المشير إلى مقام الفردية اقتضى أن يقرأ هذا الدعاء في آخر الصلاة الوترية . وفي اصطلاح السادة الصوفية الفقرة الأولى إشارة إلى توحيد الصفات ، والثانية إلى توحيد الأفعال ، والثالثة إلى توحيد الذات ، وعن هذا قال الغزالي : الأنسب ما ورد في بعض الروايات تقديم الفقرة الثانية على الأولى ، وإن كانت الواو لمطلق الجمع ، فإن الترتيب اللفظي له تأثير بليغ في التناسب المعنوي ، وقد توجه هذه الرواية بأن تحقق الأفعال إنما يكون بعد ثبوت الصفات ، فهما أصل وفرع ، وتقديم الأصل أصل ، وإنما قدما على التوحيد الذاتي لتحققهما في الخارج قبله ، والله أعلم بأسراره وأخبار سيد أحراره . ( " لا أحصي ثناء عليك " ) ، أي : لا أطيقه ولا أبلغه حصرا وعددا ، قال ابن حجر : وزاد بعضهم " سبحانك " قبل " لا أحصي " ولم أر له أصلا في الحديث . ( " أنت كما أثنيت على نفسك " ) ، أي : ذاتك ، قالابن الملك : معنى الحديث الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق ذاته ، والثناء عليه . اهـ .

[ ص: 953 ] وفي رواية النسائي : " لا أحصي ثناء عليك ولو حرصت ، ولكن أنت كما أثنيت على نفسك " ، قال ميرك : قيل : يحتمل أن الكاف زائدة ، والمعنى أنت الذي أثنيت على نفسك ، وقال بعض العلماء : " ما " في كما موصوفة أو موصولة ، والكاف بمعنى المثل ، أي : أنت الذات التي لها صفات الجلال والإكرام ، ولها العلم الشامل والقدرة الكاملة ، أنت تقدر على إحصاء ثنائك ، وهذا الثناء إما بالقول وإما بالفعل ، وهو إظهار فعله عن بث آلائه ونعمائه . ( رواه أبو داود ، والترمذي ) : وقال : حسن غريب . نقله ميرك . ( والنسائي : وابن ماجه ) : قال ميرك : ورواه الطبراني في الأوسط وابن أبي شيبة . اهـ .

قال ابن الهمام : ويحتاج إلى إثبات وجوب القنوت ، وهو متوقف على ثبوت صيغة الأمر فيه ، يعني قول صاحب الهداية : اجعل هذا في وترك والله أعلم به ، فلم يثبت لي ، ومنهم من حاول الاستدلال بالمواظبة المفادة من الأحاديث ، وهو متوقف على كونها غير مقرونة بالترك ، ولكن مطلق المواظبة أعم من المقرونة به أحيانا وغير المقرونة ، ولا دلالة للأعم على الأخص ، وإلا لوجبت هذه الكلمات عينا أو كانت أولى من غيرها ، لكن المتقرر عندهم لما أخرجه أبو داود في المراسيل ، عن خالد بن أبي عمران قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على مضر ; إذ جاءه جبريل فأومأ إليه أن اسكت ، فسكت ، فقال : " يا محمد إن الله لم يبعثك سبابا ولا لعانا وإنما بعثك رحمة " ثم قرأ الآية : ( ليس لك من الأمر شيء ) ، ثم علمه القنوت " اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخضع لك ونخلع ونترك من يكفرك ، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخاف عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق " . اهـ .

وأخرجه البيهقي أيضا بهذا اللفظ ، عن معاوية بن صالح على ما ذكره السيوطي في الدر المنثور ، وفي الحصن بلفظ : " اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك ، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى " ، وفي نسخة : " وإليك نسعى ونحفد ونخشى عذابك الجد " ، أي : الحق الثابت " ونرجو رحمتك إن عذابك الجد بالكفار ملحق " بكسر الحاء ويفتح ، رواه ابن أبي شيبة موقوفا على ابن مسعود ، وابن السني موقوفا على ابن عمر ، وفي رواية ابن السني زيادة البسملة قبل : اللهم في الموضعين .

وذكر الشيخ جلال الدين الأسيوطي - رحمه الله - في الدر المنثور هذا الحديث من طرق كثيرة ، بألفاظ مختلفة ، وقال : ذكر ما ورد في سورة الخلع وسورة الحفد ، منها : أخرج محمد بن نصر ، والطحاوي ، عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان يقنت بالسورتين : اللهم إياك نعبد ، واللهم إياك نستعين ، ومنها : أخرج محمد بن نصر ، عن سفيان ، قال : كانوا يستحبون أن يجعلوا في قنوت الوتر هاتين السورتين ، وكذلك أخرج عن إبراهيم ، وعطاء ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، وقال في المغرب : معنى الدعاء : يا ألله إنا نطلب منك العون على الطاعة وترك المعصية ، ونطلب منك المغفرة للذنوب ، ونثني من الثناء وهو : المدح . وانتصاب الخير على المصدر ، والكفر : نقيض الشكر ، وقولهم : كفرت فلانا على حذف مضاف ، والأصل : كفرت نعمته ، ونخلع من خلع الفرس رسنه ، أي : ألقاه وطرحه ، والفعلان موجهان إلى ( من ) والعمل منهما لنترك ، ويفجرك : يعصيك ، والسعي : الإسراع في المشي ، ونحفد ، أي : نعمل لك بطاعتك من الحفد وهو : الإسراع في الخدمة ، والملحق بمعنى لحق ، ومنه أن عذابك بالكفار ملحق عن الكسائي ، وقيل : المراد ملحق بالكفار غيرهم ، وهذا أوجه للاستئناف الذي معناه التعليل . اهـ .

قال ابن الهمام : وعن طائفة من المشايخ أنه لا يوقت في دعاء القنوت ; لأنه حينئذ يجري على اللسان من غير صدق رغبة ، فلا يحصل به المقصود ، وقال آخرون : ذلك في غير اللهم إنا نستعينك ; لأن الصحابة اتفقوا عليه ولو قرأ غيره جاز ، والأولى أن يقرأ بعده قنوت الحسن : اللهم اهدني فيمن هديت ، ومن لا يحسن القنوت يقول : ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ، وقال أبو الليث : يقول : اللهم اغفر لي ويكرر ثلاثا .

[ ص: 954 ]



الخدمات العلمية