الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2221 - وعن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ، ثم نردها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الله بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاث : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا ، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق ، قال ابن شهاب : فأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت قال : فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها ، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) فألحقناها في سورتها في المصحف رواه البخاري .

التالي السابق


2221 - ( وعن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان ) أي : حذيفة ، قال ابن حجر : والواو للحال ( يغازي ) أي : يحارب ( أهل الشام ) بالنصب على المفعولية ، وفى نسخة بالرفع ، فيكون في كان ضمير الشأن وهو الصواب ; لما قال السخاوي في شرح الرائية فلما كانت خلافة عثمان - رضي الله عنه - اجتمع المسلمون في غزوة أرمينية في بلاد الغرب ، جند العراق وجند الشام فاختلفوا في القرآن ، يسمع هؤلاء قراءة هؤلاء فينكرونها ، وكل ذلك صواب ، ونزل من عند الله تعالى ، حتى قال بعضهم : قراءتي خير من قراءتك ( في فتح أرمينية ) بكسر الهمزة ، قال العسقلاني : بفتح الهمزة عند ابن سمعان ، وبكسرها عند غيره ، وقيل : مثلث ، وبسكون الراء وكسر الميم بعدها ياء ساكنة ثم نون مكسورة ثم ياء خفيفة مفتوحة ، وقد تثقل ، بلدة معروفة كبيرة كذا في المقدمة ، وفى القاموس بلد بأذربيجان ، فقوله ( وأذربيجان ) تعميم بعد تخصيص ، وهو على ما في أكثر النسخ همزة ممدودة وفتح الذال وسكون الراء وكسر الباء بعدها ياء ساكنة ثم جيم ; لكن قال في تهذيب الأسماء : هي همزة مفتوحة غير ممدودة ، ثم ذال معجمة ، ثم راء مفتوحة ، ثم موحدة مكسورة ، ثم مثناة من تحت ، ثم جيم ، ثم ألف ، ثم نون ، هكذا هو الأشهر والأكثر في ضبطها ، وقال العسقلاني : قد تمد الهمزة ، وقد تكسر ، وقد تحذف ، وقد تفتح الموحدة ، وقد يزاد بعدها ألف مع مد الأولى ، وفي المقدمة بفتحتين وسكون الراء وكسر الموحدة بعدها ياء ساكنة ، ثم جيم بلدة معروفة ، وضبطها الأصيلي بالمد ، وحكى أيضا فتح الموحدة ( مع أهل العراق فأفزع ) عطف على كان ( حذيفة ) بالنصب ( اختلافهم ) بالرفع ، أي : أوقع في الفزع والخوف اختلاف الناس ، أو أهل العراق الذين كان يغازي معهم ( في القراءة ) أي : قراءة القرآن حذيفة ، مثل أن قال بعضهم : هذا اللفظ من القرآن أم لا ، وضبط في بعض النسخ برفع حذيفة ونصب اختلافهم ، ولم يظهر له وجه ، وحمله على القلب لم يقبله القلب ( فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة ) أمر من الإدراك بمعنى التدارك ( قبل أن يختلفوا في الكتاب ) أي القرآن ( اختلاف اليهود والنصارى ) بالنصب ، أي : كاختلافهم في التوراة والإنجيل إلى أن حرفوا وزادوا ونقصوا ، زاد السخاوي : فما كنت صانعا إذا قيل قراءة فلان وقراءة فلان كما صنع أهل الكتاب ، فاصنعه الآن فجمع عثمان - رضي الله عنه - الناس وعدتهم حينئذ خمسون ألفا ، فقال : ما تقولون وقد بلغني أن بعضهم يقول قراءتي خير من قراءتك وهذا يكاد أن يكون كفرا ، قالوا : ما ترى ، قال : أرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا يكون فرقة ولا يكون اختلاف ، قالوا : فنعم ما رأيت ، فعزم على ما أشار إليه حذيفة والمسلمون ( فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ) بالجزم ويرفع ( في المصاحف ) أي : المجموعة ( ثم نردها ) بضم الدال ، وفتحها ( إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت ) أي : من الأنصار ( وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الله بن الحارث بن هشام ) أي : من قريش ( فنسخوها في المصاحف ) أي : المتعددة ( وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاث ) أي : ماعدا زيدا ( إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ) أي : بلغاتهم ( فإنما نزل ) أي : غالبا ( بلسانهم ) قال الطيبي : أي نزل أولا بلسانهم ، ثم رخص أن يقرأ بسائر اللغات ، قال السخاوي : فاختلفوا في التابوت ، فقال زيد : التابوه ، وقال الآخرون : التابوت ، فرجعوا إلى عثمان ، فقال : اكتبوه بالتاء فإنه بلسان قريش ، وسألوا عثمان عن قوله لم يتسن ، فقال : اجعلوا فيها الهاء ، فإن قيل ، فلم أضاف عثمان هؤلاء النفر إلى زيد ولم يفعل ذلك أبو بكر ؟ قلت : كان غرض [ ص: 1519 ] الصديق جمع القرآن بجميع أحرفه ووجوهه التي نزل بها وذلك على لغة قريش وغيرها ، وكان غرض عثمان تجريد لغة قريش من تلك القرآن ، فجمع أبي بكر غير جمع عثمان ، فإن قيل : فما قصد بإحضار تلك الصحف وقد كان زيد ومن أضيف إليه حفظة ، قلت : الغرض بذلك سد باب المقال وأن يزعم زاعم أن في المصحف قرآنا لم يكتب ، ولئلا يرى إنسان فيما كتبوه شيئا مما لم يقرأ به فينكره ، فالصحف شاهدة بصحة جميع ما كتبوه ( ففعلوا ) أي : الجمع على هذا المنوال ( حتى إذا نسخوا ) أي : كتبوا ( الصحف في المصاحف ، رد عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كل أفق ) بضمتين ، أي : طرف من أطراف الآفاق ( بصحف مما نسخوا ) قال السخاوي : سير منها مصحفا إلى الكوفة ، ومصحفا إلى البصرة ، ومصحفا إلى الشام ، وأبقى في المدينة مصحفا ، ثم قال : وروي أن عثمان - رضي الله عنه - سير أيضا إلى البحرين مصحفا ، وإلى مكة مصحفا ، وإلى اليمن مصحفا ، فتكون الجملة على هذه الرواية سبعة مصاحف ، والرواية في ذلك تختلف ، فقيل : أنه كتب خمس نسخ ، الأربعة المذكورة ومصحف مكة ، وأما مصحف البحرين ، ومصحف اليمن فلم يعلم لهما خبر ، قلت : والتحقيق أن الأربعة من المصاحف كتبت أولا على أيدي الأربعة من الكتاب فأرسل الثلاثة إلى البلدان المذكورة وترك واحدا في المدينة ، والظاهر أنه الذي كتبه زيد ; لأنه كان من أجل كتبة الوحي ، فخطه أولى أن يكون أصلا محفوظا في المدينة ، ثم استكتبها عثمان - رضي الله عنه - مصاحف أخر فأرسل إلى سائر البلدان ، حتى قيل : أرسل عثمان إلى كل جند من أجناد المسلمين مصحفا ( وأمر بما سواه من القرآن ) أي : المنسوخ ( في كل صحيفة ، أو مصحف أن يحرق ) بالحاء المهملة ، من الإحراق ، قد يروى بالمعجمة ، أي : ينقض ويقطع ذكره الطيبي ، وقال العسقلاني : في رواية الأكثر أن يخرق بالخاء المعجمة ، وللمروزي بالمهملة ، ورواه الأصيلي بالوجهين ، وفى رواية أبي داود ، والطبراني ، وغيرهما ما يدل على المهملة ، قال السخاوي : فلما فرغ عثمان من أمر المصاحف حرق ما سواها ، ورد تلك الصحف الأولى إلى حفصة فكانت عندها ، فلما ولي مروان المدينة طلبها ليحرقها فلم تجبه حفصة إلى ذلك ولم تبعث بها إليه ، فلما ماتت حضر مروان في جنازتها وطلب الصحف من أخيها عبد الله بن عمر وعزم عليه في أمرها ، فسيرها إليه عند انصرافه فحرقها خشية أن تظهر فيعود الناس على الاختلاف ، واختلف العلماء في ورق المصحف البالي إذا لم يبق فيه نفع أن الأولى هو الغسل ، أو الإحراق ؟ فقيل : الثاني لأنه يدفع سائر صور الامتهان ، بخلاف الغسل فإنه تداس غسالته ، وقيل الغسل وتصب الغسالة في محل طاهر لأن الحرق فيه نوع إهانة ، قال ابن حجر : وفعل عثمان يرجح الإحراق ، وحرقه بقصد صيانته بالكلية لا امتهان فيه بوجه ، وما وقع لأئمتنا في موضع من حرمة الحرق يحمل على ما إذا كان فيه إضاعة مال بأن كان المكتوب فيه له قيمة يذهبها الحرق ، قلت : هذا تأويل غريب وتفريع عجيب فإن فرض المسألة فيما ليس فيه نفع والقياس على فعل عثمان لا يجوز لأن صنيعه كان بما ثبت أنه ليس من القرآن أو مما اختلط به اختلاطا لا يقبل الانفكاك ، وإنما اختار الإحراق لأنه يزيل الشك في كونه ترك بعض القرآن ، إذ لو كان قرآنا لم يجوز مسلم أنه يحرقه ويدل عليه أنه لم يأمر بحفظ رماده من الوقوع في النجاسة بناء على عدم اعتبار الاستحالة كما قال به الشافعية ، والكلام الآن فيما هو الثابت قطعا فمع وجود الفرق وحصول ظاهر الإهانة يتعين الغسل ، بل ينبغي أن يشرب ماؤه فإنه دواء من كل داء وشفاء لما في الصدور ، فإن قيل : فهذا الاختلاف باق إلى وقتنا هذا ، فما دعواكم الاتفاق ؟ قلت : القرآت التي نعول عليها الآن لا تخرج عن المصاحف المذكورة فيما يرجع إلى زيادة أو نقصان ، وما كان من الخلاف راجع إلى شكل أو نقط فلا يخرج أيضا عنها ، لأن خطوط المصاحف كانت مهملة محتملة لجميع ذلك ، كما يقرأ فصرهن : بضم الصاد وكسرها ، وكله لله : بالرفع والنصب ، ويضركم وبضركم ، ويقض ويقص الحق ، وقال الشاطبي : في الرائية المعمولة في رسم المصاحف العثمانية ، وقال مالك : القرآن يكتب بالكتاب الأول لا مستحدثا مسطرا ، قال أبو عمرو الداني عقيب قول مالك : ولا مخالف له في ذلك ( قال ابن شهاب ) أي الزهري ( فأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت قال : فقدت آية [ ص: 1520 ] من الأحزاب حين نسخنا ) أي : أنا والقرشيون ( المصحف ) أي : المصاحف ( قد كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها فالتمسناها ، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري ) أي : مكتوبة لما تقدم ، قال الطيبي : هو أبو عمارة الأوسي شهد بدرا وما بعدها وكان مع علي - رضي الله عنه - في صفين ، فلما قتل عمار جرد سيفه وقاتل حتى قتل من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه أي : الآية ( فألحقناها في سورتها في المصحف ) فيه إشكال : وهو أنه بظاهره يدل على أن تلك الآية ما كانت موجودة في المصحف ، وإنما كتبت في المصحف بعد ذلك ، وهذا مستبعد جدا ، فالصواب أن يراد بالمصحف الصحف الأولى التي كتبت في الجمع الأول ، ويكون ضمير المتكلم بالنون تعظيما ( رواه البخاري ) . قال البغوي في هذا الحديث بيان واضح أن الصحابة - رضي الله عنهم - جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزل الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير أن زادوا أو نقصوا منه شيئا باتفاق من جميعهم خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته ، وكتبوه كما جمعوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان - صلى الله عليه وسلم - يلقن أصحابه ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف من جبريل - عليه السلام - إياه على ذلك وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا ، روي معنى هذا عن عثمان - رضي الله عنه - .




الخدمات العلمية