الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2333 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن عبدا أذنب ذنبا ، فقال : رب أذنبت فاغفره ; فقال ربه : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ؟ غفرت لعبدي . ثم مكث ما شاء الله ، ثم أذنب ذنبا ، فقال رب أذنبت فاغفره ; فقال ربه : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ؟ غفرت لعبدي . ثم مكث ما شاء الله ، ثم أذنب ذنبا ، قال : رب أذنبت ذنبا آخر فاغفره لي ; فقال : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به ؟ غفرت لعبدي ، فليفعل ما شاء " . متفق عليه .

التالي السابق


2333 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن عبدا ) أي : من هذه الأمة أو من غيرهم ( أذنب ذنبا فقال ) : ظاهره أنه عطف على أذنب . وقال الطيبي : خبر إن إذا كان اسمها نكرة موصوفة ( رب ) أي : يا رب ( أذنبت ) أي : ذنبا ( فاغفره ) أي : الذنب . الفاء سببية جعل اعترافه بالذنب سببا للمغفرة حيث أوجب الله المغفرة للتائبين المعترفين بالسيئات على سبيل الوعد ، ويصح الأخذ بظاهره أنه سأل المغفرة من غير توبة ، وهذا أبلغ في سعة رحمته ( فقال ربه ) أي : للملائكة ( أعلم عبدي ) : بهمزة الاستفهام وفعل ماض ، قال الطيبي - رحمه الله - : قيل : إما استخبار من الملائكة ، وهو أعلم به للمباهاة ، وإما استفهام للتقرير والتعجيب ، وإنما عدل عن الخطاب وهو قوله : أعلمت عبدي إلى الغيبة شكرا لصنيعه إلى غيره وإحمادا له على فعله ( أن له ربا يغفر الذنب ) أي : إذا شاء لمن شاء ( ويأخذ به ؟ ) أي : يؤاخذ ويعاقب فاعله إذا شاء لمن شاء ( غفرت لعبدي ) أي : ذنبه ( ثم مكث ) : بفتح الكاف وضمها ( ما شاء الله ) أي : لبث مطيعا مدة مشيئة الله ( ثم أذنب ذنبا فقال : رب ، أذنبت ذنبا ) أي : آخر فاغفره ، وهو يحتمل أن يكون مع التوبة وبدونها ( فقال : أعلم عبدي أن له ربا ) أي : عظيما ( يغفر الذنب ) أي : العظيم أو جنس الذنب تارة ( ويأخذ به ؟ ) أي : أخرى ( غفرت لعبدي ) أي : لتوبته ، أو لعلمه بذلك وهو الأقرب ( ثم مكث ما شاء الله ) أي : من الزمان ( ثم أذنب ذنبا ) : تفيد ( ثم ) تراخي الذنوب ، والثانية يؤكدها ، هذا يدل على عظمة المذنب وأن طاعته تغلب معصيته وأنه سريع الرجوع إلى طلب مغفرته ( فقال : رب أذنبت ذنبا آخر ) أي : من جنسه أو من غير جنسه ( فاغفره لي فقال : أعلم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ) أي : بالاستغفار . [ ص: 1618 ] ( ويأخذ به ؟ ) أي : على الإصرار ( غفرت لعبدي ) أي : لأنه عبدي بقوله في كل ذنب : ربي ( فليفعل ) : وفي نسخة ، وهي كما في المصابيح : فليعمل ( ما شاء ) أي : إذا كان على هذا الحال بهذا المنوال .

وقال ابن الملك : أي ما شاء من الذنب التي بيني وبينه مما لا يتعلق بفعل العباد ، ثم ليتب وهو تقييد بلا دليل ، فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ثم هذه الصيغة للتلطف وإظهار العناية والشفقة أي : إن فعلت أضعاف ما كنت تفعل ، واستغفرت منه غفرت لك ، فإني أغفر الذنوب ، وهذا معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : " ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة " . وأغرب ابن الملك حيث قال هنا : أي ما دمت تتوب وتستغفر عنها ، ولكن ذلك مشروط بأن تكون نيته أن لا يعود إلى الذنب . اهـ . لأن هذا الذي ذكره شرطا هو من أركان التوبة .

قال الطيبي : أي اعمل ما شئت ما دمت تذنب ثم تتوب فسوف أغفر لك ، وهذه العبارة تستعمل في مقام السخط كقوله تعالى :اعملوا ما شئتم مرادا هنا ، وفي مقام الحفاوة يعني مقام التلطف كما في الحديث ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في حق حاطب بن أبي بلتعة : " لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " . وكما تقول لمن تحبه ويؤذيك : اصنع ما شئت فلست بتارك لك ، وليس المراد من ذلك الحث على الفعل بل إظهار الحفاوة . وقال القرطبي : فائدة هذا الحديث أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه ، لأنه أضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة ، لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها ، لأنه أضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم والإلحاح في سؤاله ، والاعتراف بأنه لا غافر للذنب سواه .

وقال النووي : في هذا الحديث أن الذنوب وإن تكررت مائة مرة بل ألفا أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته . ولو تاب من الجميع توبة واحدة صحت توبته . قلت : هذا الأخير بالإجماع وإنما خالف من خالف إذا تاب من بعض الذنوب ، أو إذا نقض التوبة ، والصحيح صحتها . وقال السبكي الكبير : الاستغفار طلب المغفرة باللسان أو بالقلب أو بهما . الأول فيه نفع لأنه خير من السكوت ، ولأنه يعتاد فعل الخير ، والثاني نافع جدا ، والثالث أبلغ منه ، لكنهما لا يمحصان الذنب حتى توجد التوبة ، فإن العاصي المصر يطلب المغفرة ولا يستلزم ذلك وجود التوبة منه . قلت : قوله لا يمحصان الذنب حتى توجد التوبة ، مراده أنه لا يمحصانه قطعا وجزما ، لا أنه لا يمحصانه أصلا ، لأن الاستغفار دعاء ، وقد يستجيب الله دعاء عبده فيمحص ذنبه ، ولأن التمحيص قد يكون بفضل الله - تعالى - أو بطاعة من العبد ، أو ببلية فيه ، ثم قال : والذي ذكرته من أن معنى الاستغفار غير معنى التوبة هو بحسب وضع اللفظ ، لكنه غلب عند كثير من الناس أن لفظ أستغفر الله معناه التوبة ، فمن كان ذلك معتقده فهو يريد التوبة لا محالة ، ثم قال : وذكر بعض العلماء أن التوبة لا تتم إلا بالاستغفار لقوله تعالى : وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه والمشهور أنه لا يشترط . اهـ .

واعلم أن أكثر الشراح هنا حملوا الاستغفار على التوبة ، وظاهر الحديث يدل على أن اعتراف العبد بذلك سبب للغفران ، ولا موجب للعدول عنه ، بل في الحديث تعريض لمن قال : إنه تعالى لا يغفر إلا بالتوبة ، كما ذهب إليه المعتزلي ، والله تعالى أعلم . ( متفق عليه ) : ورواه النسائي .




الخدمات العلمية