الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

29 - عن معاذ - رضي الله عنه - قال : قلت : يا رسول الله ، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار . قال : " لقد سألت عن أمر عظيم ، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه : تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان " ، ثم قال : " ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاة الرجل في جوف الليل " ثم تلا : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) حتى بلغ ( يعملون ) ، ثم قال : " ألا أدلك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ " قلت : بلى يا رسول الله ، قال : " رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد " ، ثم قال : " ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ " قلت : بلى يا نبي الله ، فأخذ بلسانه فقال : " كف عليك هذا . فقلت : يا نبي الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال : ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم ؟ " رواه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه

التالي السابق


الفصل الثاني

أي المعبر به قوله : من الحسان في المصابيح .

29 - ( عن معاذ ) أي ابن جبل ( رضي الله عنه قال : قلت ) وفي رواية قال : بينما نحن نخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وقد أصابنا الحر ، فتفرق القوم ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقربهم مني فدنوت منه وقلت : ( يا رسول الله ، أخبرني بعمل ) التنوين للتعظيم أو للنوع ، أي عمل عظيم أو معتبر في الشرع ، فلا يرد ما ذكره المظهر من أنه إذا جعل " يدخلني " جواب الأمر يبقى " بعمل " نكرة غير موصوفة ، وهي لا تفيد . ( يدخلني الجنة ) بالرفع على أنه صفة عمل إما مخصصة ، أو مادحة ، أو كاشفة ، فإن العمل إذا لم يكن بهذه الحيثية كأنه لا عمل ، وبالجزم جزاء شرط محذوف هو صفته أي أخبرني بعمل إن أعمله يدخلني الجنة ، وقيل : جزم باعتبار أنه جواب الأمر ، أي أخبرني بعمل إن تخبرني يدخلني الجنة ، يعني أنه الخبر وسيلة إلى العمل ، والعمل إلى الإدخال ، وإسناد الإدخال إلى العمل إسناد إلى السبب أو شبه العمل لكونه سببا للمطلوب بالفاعل الحقيقي ، أو المعنى يدخلني لا لذاته بل لفضل الله يجعله سببا لدخولها ، وقيل : الجزم غير صحيح رواية ودراية . أقول : فكأنه نظر في عدم صحته دراية أن الإخبار ليس سببا لدخول الجنة ، بل العمل وفيه نظر ؛ لأن إخباره - عليه الصلاة والسلام - وسيلة إلى فعل ذلك العمل الذي هو ذريعة إلى دخول الجنة ، فالإخبار سبب بوجه ما لإدخال الجنة ، ومن ثم جعل ابن الحاجب " يقيموا " في ( قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة ) وغيره " يغفر لكم " في ( هل أدلكم على تجارة تنجيكم ) الآية - هو الجزاء ؛ لأن المؤمن الكامل لما كان مظنة للامتثال نزل منزلة المحقق منه ذلك . ( ويباعدني من النار ) : عطف على يدخلني [ ص: 104 ] بالوجهين ، وقول ابن مالك هنا بالرفع فقط مع تجويزه الوجهين أولا في غاية من السقوط ، ثم العطف يفيد أن مراده دخول الجنة من غير سابقة عذاب ، ويؤيده أنه أخرج على صيغة المغالبة للمبالغة . ( قال ) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( لقد سألت ) أي مني ( عن عظيم ) أي شيء عظيم ، أو سؤال عظيم متعسر الجواب ؛ لأن الدخول والتباعد أمر عظيم ، فسببه الذي هو اجتناب كل محظور وامتثال كل مأمور أيضا كذلك ، أو لأن معرفة العمل المدخل من علم الغيب ، والأولى أن يقال عن عمل عظيم فعله على النفوس ؛ ليطابق السابق واللاحق ، والعظيم ضد الحقير ، كالكبير نقيض الصغير ، وكما أن الحقير دون الصغير فكذلك العظيم فوق الكبير ، ويستعملان في الصور والمعاني ، تقول : رجل عظيم وكبير أي جثته أو قدره ( وأنه ) أي جوابه أو فعله ( ليسير ) أي هين وسهل ( على من يسره الله ) وفي نسخة : ( تعالى ) أي جعله سهلا ( عليه : تعبد الله ) إما بمعنى الأمر وكذا ما بعده ، وإما خبر مبتدأ محذوف تعويلا على أقوى الدليلين ، أي هو أن تعبد أي العمل الذي يدخلك الجنة عبادتك الله بحذف أن ، أو تنزيل الفعل منزلة المصدر ، وعدل عن صيغة الأمر تنبيها على أن المأمور كأنه متسارع إلى الامتثال ، وهو يخبر عنه إظهارا لرغبته في وقوعه ، وفصله عن الجملة الأولى لكونه بيانا أو استئنافا ، وفيه براعة الاستهلال لدلالته على مضمون الكلام بطريق الإجمال كما أن قوله : كف عليك يدل على حسن القطع ، والعبادة أقصى غاية الخضوع ، والمراد به التوحيد ؛ لقوله : ( ولا تشرك به شيئا ) أو الأعم منه ليعم امتثال كل مأمور واجتناب كل محظور ، والضمير في به إما أن يعود إلى الله أو إلى العبادة ، والثاني هو الأولى ؛ لأنه إذا لم يشرك في العبادة فلأن لا يشرك بالله أولى ، والتنوين في شيئا للإفراد شخصا ، كما أن في قوله : " عظيم " للتعظيم ، وفي يسير للتقليل ( وتقيم الصلاة ) : من باب عطف الخاص على العام تنبيها على إنافته إن عمم العبادة ، والمراد بها المكتوبة . وهذا الحكم ليس مخصوصا بمعاذ ، بل يعم كل مؤمن ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ثم توقف دخول الجنة على الأعمال إنما هو بقيد الدخول الأولى كما سبقت الإشارة إليه فلا مستمسك للمعتزلة والخوارج لديه . ( وتؤتي الزكاة ) أي المفروضة ( وصوم رمضان ) أي الأيام المعدودة ( وتحج البيت ) أي بالأفعال المعلومة على شرط الاستطاعة في العمر مرة . ( ثم قال ) أي - عليه الصلاة والسلام - زيادة على الإفادة بالحث على النوافل لتحصيل الدرجات العالية ، أو لتكميل العبادات البدنية والمالية ( ألا أدلك ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ، ولا للنفي وهو لتحقيق ما بعدها ، ولعل قوله قلت : بلى كان موجودا هنا أيضا كما في الموضعين بعده ، فنسي الراوي ، كذا قيل . وقيل : المعنى لا ينبغي لي ألا أدلك مع أني المرشد الكامل ، والأظهر أنه للتنبيه لئلا ينسب الرواة إلى النسيان مع أن الجواب ليس بلازم ؛ لأنه أمر ظاهر معلوم مطلوبية لدلالته ، أو يقال : وإنما لم يتوقف - عليه الصلاة والسلام - حتى يقول معاذ " بلى " هنا ، تنبيها على أنه لا ينبغي أن ينتظر تصديقه اهتماما بمضمونه ( على أبواب الخير ؟ ) أي الطرق الموصلة به ، شبه الخير بدار فيها كل ما يتمناه النفس ، واللام فيه للجنس ، جعل الأمور الآتية أبواب الخير ؛ لأن الصوم شديد على النفس ، وكذا إخراج المال في الصدقة لا سيما الزيادة على الزكاة ، وكذا الصلاة في جوف الليل الذي محل راحة النفس ، والبعد من الرياء ، فمن اعتادها يسهل عليه كل خير ؛ لأن المشقة في دخول الدار تكون بفتح الباب . ( الصوم جنة ) أي ستر ، وإنما جعل الصوم جنة من النار أو من الشيطان ؛ لأن في الجوع سد مجاري الشيطان ، فإذا سد مجاريه لم يدخل فلم يكن سببا للعصيان الذي هو سبب لدخول النار . قيل : التقدير صوم النفل ، فاللام تدل على المضاف إليه . قال بعض المحققين من شراح الأربعين : ولعل قائله كوفي ، قال في الكشاف في قوله تعالى : ( فإن الجحيم هي المأوى ) أي مأواه ، فإن اللام ليس يدل على المضاف إليه بل للتعريف العهدي ؛ لأنه لما علم أن الطاغي صاحب المأوى تركت الإضافة ، فكذا هاهنا ؛ لأنه لما ذكر الفرائض أولا علم أن المذكور بعدها من النوافل ، فاللام للعهد الخارجي ، ولا يجب فيه تقدم المعهود كما ظن ، بل قد يستغنى عنه لعلم المخاطب بالقرائن ، كقولك لمن دخل البيت : أغلق الباب ، وكم مثلها . قوله : ( جنة ) أي وقاية من سورة الشهوة في الدنيا ، والنار في [ ص: 105 ] العقبى كالجنة ، ففيه تشبيه المعقول بالمحسوس عند المتكلمين ، واختار بعض الأفاضل أن مثله استعارة ، فمن كان الصوم جنته سد طرق الشياطين عن قلبه فيكشف بعد إزالة ظلمتهم ، يرى بنور الغيب خزائن لطائف حكم الصفات فيستتر بأنوارها عن جميع المخالفات والآفات . ( والصدقة تطفئ الخطيئة ) أي التي تجر إلى النار . يعني تذهبها وتمحو أثرها أي إذا كانت متعلقة بحق الله تعالى ، وإذا كانت من حقوق العباد فتدفع تلك الحسنة إلى خصمه عوضا عن مظلمته ( كما يطفئ الماء النار ) لتنافي آثارهما بإيجاد الله تعالى سبحانه ، إذ الأشياء لا تعمل بطبعها ، فلا الماء يروى ، ولا الخبز يشبع ، ولا النار تحرق . ( وصلاة الرجل ) مبتدأ خبره محذوف أي وصلاة الرجل ( في جوف الليل ) كذلك ، أي تطفئ الخطيئة ، أو هي من أبواب الخير ، والأول أظهر . قال القاضي : وقيل : الأظهر أن يقدر الخبر شعار الصالحين كما في جامع الأصول ( ثم تلا ) أي قرأ - عليه الصلاة والسلام - ( تتجافى جنوبهم ) أي تتباعد ، وفي النسبة مبالغة لا تخفى ( عن المضاجع ) أي المفارش والمراقد ، والجمهور على أن المراد صلاة التهجد ، وقال بعضهم : المراد إحياء ما بين العشاءين ( يدعون ربهم ) بالصلاة ، والذكر ، والقراءة ، والدعاء ( خوفا ) من سخطه ( وطمعا ) في رحمته ( ومما رزقناهم ) وبعض ما أعطيناهم ( ينفقون ) يصرفون في وجوه الخير أي أنهم جامعون بين العبادات البدنية والمالية ، عابدون زاهدون ( فلا تعلم نفس ) أي لا ملك ولا نبي ( ما أخفي لهم ) جمهور القراء على أنه ماض مجهول ، وقرئ بهمزة على المتكلم المعلوم ( من قرة أعين ) من اللذات التي تقر أعينهم ، وتشتهيه أنفسهم ، وفي الحديث القدسي : ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ) ( حتى بلغ يعملون ) وهو قوله تعالى : ( جزاء بما كانوا يعملون ) أي جوزوا جزاء بسبب أعمالهم وبمقابلة أفعالهم وموافقة لأحوالهم . ( ثم قال ) أي عليه الصلاة والسلام (ألا أدلك برأس الأمر ) أي مخبرا بأصل كل أمر ( وعموده ) بفتح أوله ، أي ما يقوم به ويعتمد عليه ( وذروة سنامه ؟ ) : الذروة بكسر الذال وهو الأشهر ، وبضمها ، وحكي فتحها - أعلى الشيء ، والسنام - بالفتح - ما ارتفع من ظهر الجمل قريب عنقه ( قلت : بلى يا رسول الله ، قال : رأس الأمر ) أي أمر الدين ( الإسلام ) يعني الشهادتين ، وهو من باب التشبيه المقلوب ؛ إذ المقصود تشبيه الإسلام برأس الأمر ؛ ليشعر بأنه من سائر الأعمال بمنزلة الرأس من الجسد في احتياجه إليه وعدم بقائه دونه ( وعموده الصلاة ) : يأت الإسلام هو أصل الدين إلا أنه ليس له قوة وكمال كالبيت الذي ليس له عمود ، فإذا صلى وداوم قوي دينه ولم يكن له رفعة ، فإذا جاهد حصل لدينه رفعة ، وهو معنى قوله : ( وذروة سنامه الجهاد ) وفيه إشعار إلى صعوبة الجهاد وعلو أمره وتفوقه على سائر الأعمال ، والجهاد من الجهد - بالفتح - وهو المشقة ، أو بالضم وهو الطاقة ؛ لأنه يبذل الطاقة في قتال العدو عند فعل العدو مثل ذلك ، أو بضم جهده إلى جهد أخيه في نصرة دين الله كالمساعدة ، وهي ضم ساعده إلى ساعد أخيه لتحصيل القوة ، وله أنواع من جهاد الأعداء ليكون الدين كله لله ، وجهاد النفس بحملها على اتباع الأحكام ، وترك الحظوظ ، وتكليف الخصلة المذمومة المفرطة خلاف مقتضاها ، والعمل بنقيض موجبها حتى اعتدلت وتناسقت قوة العلم والغضب والشهوة والعدل ، وهو أشد من الأول ؛ ولذا ورد : ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الأكبر ) ؛ لأن النفس كالملك في داخل الإنسان ، وعسكره الروح الحيوانية والطبيعية والهوى والشهوة ، وهي في نفسها عمياء لا تبصر المهالك ، ولا تميز الخير من الشر إلى أن ينور الله بلطيف حكمته بصيرتها ، فتبصر الأعداء والمعارف ، وتجد البنيان الإنساني مملوءا من خنازير الحرص ، وتكالب الكلب ، ونمر الغضب ، والشهوة الحمارية ، وحية الشيطان ، فكنستها من الرذائل وزينتها بالفضائل ، وأما جهاد القلب فتصفيته وقطع تعلقه عن الأغيار ، وجهاد الروح بإفناء الوجود في وجود الواحد القهار .

( ثم قال ) أي - عليه الصلاة والسلام - : ( ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ ) : الملاك ما به إحكام الشيء أو تقويته ، من ملك العجين إذا أحسن عجنه وبالغ فيه ، وأهل اللغة يكسرون الميم ويفتحونها ، والرواية بالكسر ، وذلك إشارة إلى ما ذكر من أول الحديث إلى هذا من العبادات ، وأكده بقوله : " كله " ؛ لئلا يظن خلاف الشمول ، أي بما تقوم به تلك [ ص: 106 ] العبادات جميعها . ( قلت : بلى يا نبي الله ) لا يخفى مناسبة نبي الله بالإخبار كمناسبة الرسالة بالدلالة ( فأخذ ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( بلسانه ) الباء زائدة ، والضمير راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل : الباء لتضمين معنى التعلق ( وقال : كف ) الرواية بفتح الفاء المشددة أي امنع ( عليك هذا ) : إشارة إلى اللسان أي لسانك المشافه له ، وتقديم المجرور على المنصوب للاهتمام به ، وتعديته بـ " على " للتضمين أو بمعنى " عن " ، وإيراد اسم الإشارة لمزيد التعيين أو للتحقير ، وهو مفعول كف ، وإنما أخذ - عليه الصلاة والسلام - بلسانه وأشار إليه من غير اكتفاء بالقول تنبيها على أن أمر اللسان صعب ، والمعنى : لا تتكلم بما لا يعنيك ؛ فإن من كثر كلامه كثر سقطه ، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ، ولكثرة الكلام مفاسد لا تحصى ، ومن أراد الاستقصاء فعليه بالإحياء ، ولذا قال الصديق : ليتني كنت أخرس إلا عن ذكر الله . ( قلت : يا نبي الله ) : أتقول هذا ؟ . ( وإنا لمؤاخذون ) بالهمزة ويبدل ، أي هل يؤاخذنا ويعاقبنا أو يحاسبنا ربنا ( بما نتكلم به ؟ ) : يعني بجميعه ، إذ لا يخفى على معاذ المؤاخذة ببعض الكلام ( قال ) أي عليه الصلاة والسلام ( ثكلتك أمك ) : بكسر العين ( يا معاذ ) أي فقدتك ، وهو دعاء عليه بالموت على ظاهره ، ولا يراد وقوعه ، بل هو تأديب وتنبيه من الغفلة ، وتعجيب وتعظيم للأمر ، ( وهل يكب ) بفتح الياء وضم الكاف من كبه ، إذا صرعه على وجهه ، بخلاف أكب ، فإن معناه سقط على وجهه ، وهو من النوادر ، وهو عطف على مقدر ، أي : هل تظن غير ما قلت ؟ وهل يكب ( الناس ) أي يلقيهم ويسقطهم ويصرعهم ( في النار على وجوههم ، أو على مناخرهم ) شك من الراوي ، والمنخر - بفتح الميم وكسر الخاء وفتحها - ثقب الأنف ، والمراد هنا الأنف ، والاستفهام للنفي ، خصهما بالكب لأنهما أول الأعضاء سقوطا ( إلا حصائد ألسنتهم ) أي محصوداتها ، شبه ما يتكلم به الإنسان بالزرع المحصود بالمنجل ، وهو من بلاغة النبوة ، فكما أن المنجل يقطع ولا يميز الرطب واليابس والجيد والرديء ، فكذلك لسان بعض الناس يتكلم بكل نوع من الكلام حسنا وقبيحا ، والمعنى لا يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم من الكفر ، والقذف ، والشتم ، والغيبة ، والنميمة ، والبهتان ، ونحوها . والاستثناء مفرغ ، وهذا الحكم وارد على الأغلب أي على الأكثر ; لأنك إذا جربت لم تجد أحدا حفظ لسانه عن السوء ، ولا يصدر عنه شيء يوجب دخول النار إلا نادرا ، ولعمرك إن هذه الخاتمة فاتحة السعادة الكبرى ، فائحة منها نسائم الكرامة العظمى ؛ لأنه إذا نظر إلى الشريعة فكف اللسان نعم العون على حفظها ، وإذا نظر إلى الطريقة فهو الركن المشار إليه والقطب المدار عليه ; لأنه إذا سكت اللسان نطق القلب ، ويحصل له المسامرة مع الرب ، ويمطر عليه سحائب الرحمة بقطرات النور ، ويمتلئ من الخيور والحبور ، ولو نظر إلى الحقيقة فهو نهاية مراتب السالكين وغاية منازل السائرين ؛ ولذا ورد : من عرف الله كل لسانه ، أي عن ذكر غير الله ، وهو في مقام المراقبة ، وكل لسانه عن مقام الدعوى ، وهو في مقام الهيبة ، وكل لسانه عن نشر حالة وبيان مقامه ، وهو مقام صولة المحبة ، وعن وصف الله وثنائه ، وهو مقام الحيرة في المعرفة ، كما قال - عليه الصلاة والسلام - في أقصى الدنو لما رأى الحق بالحق ، وفنى عن الصفات في الذات ، ووجد معنى من معاني البقاء : ( لا أحصي ثناء عليك ) ؛ لأن ثناءه يصدر عن الحدوثية ، وثناء الخليقة لا يليق إلا بهم ، ثم قطع لسان الثناء بمقراض التنزيه عجزا في جلال الأبد ، وأضاف ثناءه تعالى إليه ؛ لأنه لا يعرف الله إلا هو ، فقال : ( أنت كما أثنيت على نفسك ) ، وفي معنى الحديث أنشد الشافعي :


احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان

كم في المقابر من قتيل لسانه
كانت تهاب لقاءه الشجعان



( رواه أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ) ورواه النسائي ، وقال الترمذي : حسن صحيح .




الخدمات العلمية