الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

4049 - وعن البراء بن عازب ، قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة ، حتى قاضاهم على أن يدخل يعني : من العام المقبل يقيم بها ثلاثة أيام . فلما كتبوا الكتاب ، كتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله . قالوا : لا نقر بها ، فلو نعلم أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعاك ، ولكن أنت محمد بن عبد الله . فقال : ( أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله ) . ثم قال لعلي بن أبي طالب : ( امح : رسول الله ) قال : لا والله ، لا أمحوك أبدا . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يحسن يكتب ، فكتب : ( هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله : لا يدخل مكة بالسلاح إلا السيف في القراب ، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه ، وأن لا يمنع من أصحابه أحدا إن أراد أن يقيم بها ) فلما دخلها ومضى الأجل ، أتوا عليا ، فقالوا : قل لصاحبك ، اخرج عنا ، فقد مضى الأجل ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم . متفق عليه .

التالي السابق


الفصل الثالث

4049 - ( عن البراء بن عازب رضي الله عنه ، قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة ) أي : نهار الاثنين سنة ست من الهجرة ( فأبى أهل مكة أن يدعوه ) : بفتح الدال أي : يتركوه ( يدخل مكة ) مفعول به بتقدير أن فحذف أن وارتفع الفعل ( حتى قاضاهم ) أي : صالحهم على أشياء منها : على أن يرجع هذا العام ومنها : ( على أن يدخل يعني : من العام المقبل ) : تفسير كلام الراوي لكلام البراء أي : يريد البراء بدخوله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل لئلا يناقض قوله السابق ، فتركه البراء لظهوره ، وقوله : ( يقيم بها ) : حال من فاعل يدخل أي : يسكن بمكة ( ثلاثة أيام ) : قال النووي : فيه دلالة على أن مكث ثلاثة أيام للمسافر في موضع ليس له حكم الإقامة . قلت : لا دلالة فيه عليها لا نفيا ولا إثباتا ، بل ظاهره الإثبات نظرا إلى لفظ الإقامة ، ( فلما كتبوا الكتاب ) :

[ ص: 2627 ] أي : أرادوا أن يكتبوا كتاب الصلح ( كتبوا ) أي : كتب كاتبهم وهو علي رضي الله عنه برضاهم فنسب إليهم ( هذا ) : إشارة إلى ما في الذهن ، أو إلى ما سيأتي في الخارج ( ما قاضى ) أي : الذي صالح ( عليه محمد رسول الله فقالوا ) أي : قال بعض كفار مكة وهو سهيل ( لا نقر بها ) أي : لا نعترف برسالتك ولا نرضى بكتابك ( فلو نعلم أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعناك ) : هذا الكلام منه بمنزلة تعليل لقوله : لا نقر بها . قال الطيبي : فإن قلت : لو تقتضي أن يليها الماضي فما فائدة العدول إلى المضارع ؟ قلت : ليدل على الاستمرار أي : استمر عدم علمنا برسالتك في سائر الأزمنة من الماضي والمضارع كقوله تعالى : ( لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ) . وقولك : لو تحسن إلي لشكرت ( ولكن أنت محمد بن عبد الله ) . فقال : أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله ) أي : هما متلازمان لا ينفكان سواء ذكرا جميعا ، أو اقتصر على أحدهما . قال الطيبي : هو من الأسلوب الحكيم يعني استدراككم بقولكم : أنت محمد بن عبد الله بدل قولي محمد رسول الله يؤذن بأن الجمع بينهما غير مستقيم ، وليس كذلك ; لأن الرسالة تثبت بدعواها وإظهار المعجزة لها ، وقد حصل ذلك وهو كقول الرسل : ( قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون ) جوابا على قولهم : ( ما أنتم إلا بشر مثلنا ) اهـ . وحاصل الجواب قوله تعالى عنهم : ( إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) وأشار إليه صاحب البردة بقوله : فمبلغ العلم منه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم ( ثم قال لعلي بن أبي طالب ) : لما سبق أنه الكاتب ( امح رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : بالنصب أي : هذا اللفظ ، وحكي الرفع على الحكاية ( قال : لا والله لا أمحوك ) أي : اسمك ( أبدا . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يحسن ) : من الإحسان بمعنى الإجادة ( يكتب ) أي : أن يكتب كما في رواية فحذف أن ورفع الفعل ، وهو جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه أي : فأخذ الكتاب من يد علي ( فكتب : هذا ما قاضى محمد بن عبد الله ) : وهو كذا في بعض روايات البخاري ، ولا يخفى أن قوله : فأخذ فكتب مع الجملة المعترضة صريح في كتابته صلى الله عليه وسلم ولا مانع من أن يقال معنى كتب أمر عليا أن يكتب : اللهم إلا أن يقدر فأخذ للمحو فمحاه بيده لامتناع علي بمقتضى أدبه ، فكتب أي : أمره بالكتابة ، أو فكتب علي بعد محوه : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، والظاهر أن هذا كان مكتوبا من قبل المحو أيضا ، فالمعنى أنه أثبت : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله والله أعلم . قال الطيبي : قوله : وليس يحسن يكتب يحتمل وجهين . أحدهما : أن يكون من باب قوله تعالى : ( ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) أي : لا كتابة ولا إجادة ولا اعتذار ولا إيذان وثانيهما : أن يكون ثمة كتابة ، ولكن لا إجادة فيها ، وعلى هذا وقع الاختلاف . قلت : قد أشبعنا القول فيما سبق ونذكر هنا أيضا ما يناسب أن يلحق ، ففي شرح مسلم للنووي قال القاضي عياض : احتج بهذا ناس على أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بيده وقالوا : إن الله تعالى أجرى ذلك على يده إما بأن كتب القلم بيده وهو غير عالم بما كتب ، أو بأن الله تعالى علمه ذلك حينئذ زيادة في معجزته ، كما علمه ما لم يعلم ، وجعله تاليا بعد النبوة بعد ما لم يكن يتلو قبلها ، وهو لا يقدح في وصفه بالأمي ، واحتجوا بآثار جاءت في هذا عن الشعبي ، وبعض السلف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كتب . قال القاضي : وإلى جواز هذا ذهب الباجي ، وحكاه عن السمناني وأبي ذر وغيرهما ، وذهب الأكثرون إلى المنع مطلقا وقالوا : هذا الذي زعموا يبطله وصف الله تعالى إياه بالنبي الأمي وقوله تعالى : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا ) ، [ ص: 2628 ] ( تخطه بيمينك ) وقالوا معنى قوله كتب أمر بالكتابة ، كما يقال : رجم ماعزا قال القاضي : فأجاب الأولون أن معنى الآية : لو كنت تقرأ وتكتب قبل الوحي لشك المبطلون ، وكما جاز أن يتلو جاز أن يخط ولا يقدح هذا في كونه أميا إذ ليست المعجزة مجرد كونه أميا فإن المعجزة حاصلة بكونه أولا كذلك ، ثم جاء بالقرآن وبعلوم لا يعلمها الأميون قلت : وبعلوم لا يعلمها العلماء أجمعون بحيث لو لم يكن أميا من أصله لكان معجزة أيضا ، فالقرآن مشتمل على معجزات كثيرة ، ولذا قال تعالى : ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) قال : والجواب عن قولهم : فكتب أي : أمر أنه عدول عن الظاهر ولا ضرورة إليه ; لأن قوله : وليس يحسن أن يكتب ، فكتب كالنص في أنه كتب بنفسه اهـ . وقد حصل توارد لي في هذا المعنى على ما سبق مني كما لا يخفى . قال الطيبي : ويمكن أن يقال سبيل هذه الكتابة مع هذه الآية وكونه أميا سبيل قوله صلى الله عليه وسلم : هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت ونحوه مع قوله تعالى : ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ) قالوا : ما هو إلا كلام من جنس الكلام الذي يرمى على السليقة من غير صنعة وقصد إلى ذلك ولا التفات منه إليه . قلت : مثل هذا يتصور في القول ، وأما وقوعه بالفعل فلا يكون إلا بأحد الوجهين المذكورين في كلامهم السابق فالمدار عليه ، ولا يلتفت إلا إليه . قال النووي : فيه دليل على استحباب الكتبة في أول الوثائق وكتب الأملاك والصداق ونحوها ، هذا ما اشترى فلان ، أو هذا ما أصدق ، أو وقف ، أو أعتق ونحوها ، قلت : والظاهر أن هذا الحديث إنما يدل على الجواز ; لأن الأمر بالكتابة كان من الكفار ، وقبلها النبي صلى الله عليه وسلم على المصالحة فالأولى الاستدلال على استحبابها بآية المداينة حيث قال تعالى : ( إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) على خلاف بين العلماء أنه أمر الوجوب ، أو الندب وعليه الجمهور . قال وعلى أنه يكفي في الاسم المشهور أن يضم مع الأب خلافا لمن قال : لا بد من أربعة أبيه وجده ونسبته . قلت لا يخفى أن المدار على حصول العلم المرتب على الشهرة وهي تختلف باختلاف الناس زمانا ومكانا حتى في الاصطلاح أيضا ، ألا ترى أن المحدثين إذا قالوا عن عبد الله ، فالمراد به ابن مسعود ، وكذا إذا قالوا عن الحسن فهو البصري مع كثرة الاسمين في غيرهما من الصحابة والتابعين . قال : وفيه أن للإمام أن يعقد الصلح على ما رآه مصلحة للمسلمين وإن كان لا يظهر ذلك لبعض الناس في بادئ الرأي ، وفي احتمال المفسدة اليسيرة لدفع مضرة كثيرة ، أو لجلب مصلحة أعظم منها . قلت : وقد تقدم بيان الحكم والمصالح في هذه المصالحة فتدبر . قال الطيبي : هذا إشارة إلى ما في الذهن وما قاضى خبره مفسر له وقوله : ( لا يدخل مكة ) : تفسير للتفسير اهـ .

وقوله : ( بالسلاح ) : أريد به الجنس ، وفي نسخة بالتنكير ( إلا بالسيف في القراب ) : بكسر القاف أي : جعبته ، وهو وعاء يجعل فيه السيف بغمده ، وفي نسخة صحيحة بالقراب على أن الباء ظرفية ( وأن لا يخرج من أهلها بأحد ) أي : حين يخرج بعد دخولها ( إن أراد ) أي : أحد ( أحد أن يتبعه ) : بفتح الموحدة أي : يوافقه في الخروج ( وأن لا يمنع من الصحابة ) : وفي نسخة صحيحة ( من أصحابه ) أي : بعضهم ( إن أراد أن يقيم بها ) : وبهذا وما سبق في الحديث الأول من الفصل الثاني يعلم أن الشروط كانت زائدة على ثلاثة أشياء ، كما في حديث البراء السابق فيحمل على أن العمدة في الشروط هي الثلاثة ، ( فلما دخلها ) : [ ص: 2629 ] يعني في العام المقبل ( ومضى الأجل ) أي : قرب انقضاء الأجل ، أو شارف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قضاء الأجل ، كقوله تعالى ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف ) ولا بد من ورود التأويل لئلا يلزم عدم الوفاء بالشرط ( أتوا عليا فقالوا : قل لصاحبك : اخرج عنا ، فقد مضى الأجل ) : قال الطيبي رحمه الله : ولإظهار كراهة المشركين إقامته صلى الله عليه وسلم فيها قالوا ذلك قبل انقضاء الأجل اهـ . ويمكن أن يكون خوفا منه وإظهارا للشوكة والغلبة ( فخرج النبي صلى الله عليه وسلم أي : قبل مضي الأجل ، أو في ابتداء انتهائه . ( متفق عليه ) : وزاد البخاري : فتبعته ابنة حمزة تنادي : يا عم يا عم فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة : دونك بنت عمك ، فحملتها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر . قال علي : أنا أخذتها وهي ابنة عمي ، وقال جعفر : ابنة عمي وخالتها تحتي ، فقال زيد : بنت أخي ، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها ، وقال : ( الخالة بمنزلة الأم ) الحديث . وإنما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أخذها مع اشتراط المشركين أن لا يخرج بأحد من أهلها أراد الخروج ; لأنهم لم يطلبوها ، هذا وقضية عمرة القضاء مجملا على ما في المواهب هو ما قال الحاكم في الإكليل : تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما أهل ذو القعدة يعني سنة سبع أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صدهم المشركون عنها بالحديبية ، وأن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية ، فلم يتخلف منهم إلا رجال ماتوا ، وخرج معهم صلى الله عليه وسلم من المسلمين ألفان واستخلف على المدينة أبا ذر الغفاري وساق عليه الصلاة والسلام ستين بدنة ، وحمل السلاح والبيض والدروع والرماح وقاد مائة فرس ، فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه عليها محمد بن سلمة ، وقدم السلاح ، واستعمل عليه بشر بن سعد ، وأحرم النبي صلى الله عليه وسلم ولبى ، والمسلمون يلبون معه ، ومضى محمد بن سلمة في الخيل إلى مر الظهران فوجد بها نفرا من قريش فسألوه فقال : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله تعالى ، فأتوا قريشا فأخبروهم ففزعوا ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وقدم السلاح إلى بطن يأجج كيسمع ويبصر ويضرب موضع بمكة حيث ينظر إلى نصاب الحرم ، وخلف عليه أوس بن خولي الأنصاري في مائتي رجل ، وخرجت قريش من مكة إلى رءوس الجبال ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي أمامه ، فحبس بذي طوى ، وخرج صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء ، والمسلمون متوشحون السيوف محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم : يلبون ، فدخل في الثنية التي تطلعه على الحجون ، وابن رواحة آخذا بزمام راحلته ، وفي رواية الترمذي في الشمائل من حديث أنس : أنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة في عمرة القضاء ، وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول :

خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله

فقال له عمر : يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول شعرا ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( خل عنه يا عمر فلهي أسرع فيهم من نضح النبل ) قالوا : ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه ، وطاف على راحلته والمسلمون يطوفون معه ، وقد اضطبعوا بثيابهم ، وفي رواية قال : ارملوا ليري المشركين قوتهم ، والمشركون من قبل قعيقعان وهو جبل بمكة وجهه إلى أبي قبيس ، ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على راحلته . فلما كان الطواف السابع عند فراغه وقد وقف الهدي عن المروة وقال : ( هذا المنحر وكل فجاج مكة منحر ) فنحر عند المروة وحلق هناك ، وكذلك فعل المسلمون ، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا منهم إلى أصحابهم ببطن يأجج فيقيموا السلاح ، ويأتي الآخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا ، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يعني ثلاثة أيام فخرج راجعا إلى المدينة السكينة .




الخدمات العلمية