الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        59 - الحديث الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أثقل الصلاة على المنافقين : صلاة العشاء ، وصلاة [ ص: 195 ] الفجر . ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حبوا . ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة ، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار } .

                                        التالي السابق


                                        الكلام عليه من وجوه :

                                        أحدها : قوله صلى الله عليه وسلم " أثقل الصلاة " محمول على الصلاة في جماعة ، وإن كان غير مذكور في اللفظ . لدلالة السياق عليه . وقوله عليه السلام " لأتوهما ولو حبوا " وقوله " ولقد هممت - إلى قوله - لا يشهدون الصلاة " كل ذلك مشعر بأن المقصود : حضورهم إلى جماعة المسجد .

                                        الثاني : إنما كانت هاتان الصلاتان أثقل على المنافقين . لقوة الداعي إلى ترك حضور الجماعة فيهما ، وقوة الصارف عن الحضور ، أما العشاء : فلأنها وقت الإيواء إلى البيوت والاجتماع مع الأهل ، واجتماع ظلمة الليل ، وطلب الراحة من متاعب السعي بالنهار . وأما الصبح : فإنها في وقت لذة النوم . فإن كانت في زمن البرد ففي وقت شدته ، لبعد العهد بالشمس ، لطول الليل ، وإن كانت في زمن الحر : فهو وقت البرد والراحة من أثر حر الشمس لبعد العهد بها . فلما قوي الصارف عن الفعل ثقلت على المنافقين . وأما المؤمن الكامل الإيمان : فهو عالم بزيادة الأجر لزيادة المشقة فتكون هذه الأمور داعية له إلى هذا الفعل ، كما كانت صارفة للمنافقين ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " ولو يعلمون ما فيهما " أي من الأجر والثواب " لأتوهما ولو حبوا " وهذا كما قلنا : إن هذه المشقات تكون داعية للمؤمن إلى الفعل



                                        الثالث : اختلف العلماء في الجماعة في غير الجمعة فقيل : سنة . وهو قول الأكثرين . وقيل : فرض كفاية وهو قول في مذهب الشافعي ومالك . وقيل : [ ص: 196 ] فرض على الأعيان .

                                        قد اختلفوا بعد ذلك . فقيل : شرط في صحة الصلاة . وهو مروي عن داود . وقيل : إنه رواية عن أحمد . والمعروف عنه : أنها فرض على الأعيان . ولكنها ليست بشرط . فمن قال بأنها واجبة على الأعيان : قد يحتج بهذا الحديث فإنه إن قيل بأنها فرض كفاية ، فقد كان هذا الفرض قائما بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه . وإن قيل : إنها سنة ، فلا يقتل تارك السنن . فيتعين أن تكون فرضا على الأعيان . وقد اختلف في الجواب عن هذا على وجوه ، فقيل : إن هذا في المنافقين ، ويشهد له ما جاء في الحديث الصحيح { لو يعلم أحدهم أن يجد عظما سمينا ، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء } وهذه ليست صفة المؤمنين ، لا سيما أكابرهم وهم الصحابة . وإذا كانت في المنافقين : كان التحريق للنفاق ، لا لترك الجماعة فلا يتم الدليل . قال القاضي عياض رحمه الله : وقد قيل : إن هذا في المؤمنين . وأما المنافقون : فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معرضا عنهم ; عالما بطوياتهم . كما أنه لم يعترضهم في التخلف ، ولا عاتبهم معاتبة كعب وأصحابه من المؤمنين . وأقول : هذا إنما يلزم إذا كان ترك معاقبة المنافقين واجبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فحينئذ يمتنع أن يعاقبهم بهذا التحريق ، فيجب أن يكون الكلام في المؤمنين ، ولنا أن نقول : إن ترك عقاب المنافقين وعقابهم كان مباحا للنبي صلى الله عليه وسلم مخيرا فيه . فعلى هذا : لا يتعين أن يحمل هذا الكلام على المؤمنين ، إذ يجوز أن يكون في المنافقين ، لجواز معاقبة النبي صلى الله عليه وسلم لهم ، وليس في إعراضه عنهم بمجرده ما يدل على وجوب ذلك عليه . ولعل قوله صلى الله عليه وسلم - عندما طلب منه قتل بعضهم - " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " يشعر بما ذكرناه في التخيير ; لأنه لو كان يجب عليه ترك قتلهم لكان الجواب بذكر المانع الشرعي ، وهو أنه لا يحل قتلهم . ومما يشهد لمن قال " إن ذلك في المنافقين " عندي : سياق الحديث من أوله . وهو قوله صلى الله عليه وسلم " أثقل الصلاة على المنافقين " . وجه آخر في تقدير كونه في المنافقين : أن يقول القائل : هم النبي صلى الله عليه وسلم بالتحريق يدل على جوازه ، وتركه التحريق يدل على جواز هذا الترك . فإذا اجتمع [ ص: 197 ] جواز التحريق وجواز تركه في حق هؤلاء القوم . وهذا المجموع لا يكون في المؤمنين فيما هو حق الله تعالى .

                                        ومما أجيب به عن حجة أصحاب الوجوب على الأعيان : ما قاله القاضي عياض رحمه الله . والحديث حجة على داود ، لا له .

                                        لأن النبي صلى الله عليه وسلم هم ، ولم يفعل . ولأنه يخبرهم أن من تخلف عن الجماعة فصلاته غير مجزئة . وهو موضع البيان . وأقول : أما الأول : فضعيف جدا ، إن سلم القاضي أن الحديث في المؤمنين ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بما يجوز له فعله لو فعله .

                                        وأما الثاني - وهو قوله " ولأنه لم يخبرهم أن من تخلف عن الجماعة فصلاته غير مجزئة " وهو موضع البيان - فلقائل أن يقول : البيان قد يكون بالتنصيص وقد يكون بالدلالة ، ولما قال صلى الله عليه وسلم " ولقد هممت " إلى آخره : دل على وجوب الحضور عليهم للجماعة . فإذا دل الدليل على أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها غالبا . كان ذكره صلى الله عليه وسلم لهذا الهم دليلا على لازمه وهو وجوب الحضور . وهو دليل على الشرطية . فيكون ذكر هذا الهم دليلا على لازمه . وهو وجوب الحضور . ووجوب الحضور دليلا على لازمه ، وهو اشتراط الحضور . فذكر هذا الهم بيان للاشتراط بهذه الوسيلة ، ولا يشترط في البيان أن يكون نصا ، كما قلنا . إلا أنه لا يتم هذا إلا ببيان أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها ، وقد قيل : إنه الغالب . ولما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية قال أحمد - في أظهر قوليه - إن الجماعة واجبة على الأعيان ، غير شرط .

                                        ومما أجيب به عن استدلال الموجبين لصلاة الجماعة على الأعيان : أنه اختلف في هذه الصلاة التي هم النبي صلى الله عليه وسلم بالمعاقبة عليها . فقيل : العشاء . وقيل : الجمعة . وقد وردت المعاقبة على كل واحدة منهما مفسرة في الحديث . وفي بعض الروايات " العشاء ، أو الفجر " فإذا كانت هي الجمعة - والجماعة شرط فيها - لم يتم الدليل على وجوب الجماعة مطلقا في غير الجمعة ، وهذا يحتاج أن ينظر في تلك الأحاديث التي بينت فيها تلك الصلاة : أهي الجمعة ، أو العشاء ، أو الفجر ؟ فإن كانت أحاديث مختلفة ، قيل بكل واحد منها . وإن كان حديثا واحدا [ ص: 198 ] اختلفت فيه الطرق ، فقد يتم هذا الجواب ، إن عدم الترجيح بين بعض تلك الروايات وبعض ، وعدم إمكان أن يكون الجميع مذكورا . فترك بعض الرواة بعضه ظاهرا ، بأن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد إحدى الصلاتين . أعني الجمعة ، أو العشاء - مثلا - فعلى تقدير أن تكون هي الجمعة : لا يتم الدليل . وعلى تقدير أن تكون هي العشاء : يتم . وإذا تردد الحال وقف الاستدلال .

                                        ومما ينبه عليه هنا : أن هذا الوعيد بالتحريق إذا ورد في صلاة معينة - وهي العشاء ، أو الجمعة ، أو الفجر - فإنما يدل على وجوب الجماعة في هذه الصلوات . فمقتضى مذهب الظاهرية : أن لا يدل على وجوبها في غير هذه الصلوات ، عملا بالظاهر ، وترك اتباع المعنى . اللهم إلا أن يؤخذ قوله صلى الله عليه وسلم { أن آمر بالصلاة فتقام } على عموم الصلاة . فحينئذ يحتاج في ذلك إلى اعتبار لفظ ذلك الحديث وسياقه ، وما يدل عليه . فيحمل لفظ " الصلاة " عليه إن أريد التحقيق وطلب الحق . والله أعلم .

                                        الرابع : قوله عليه السلام " ولقد هممت . .. " إلخ . أخذ منه تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة . وسره : أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزواجر اكتفي به من الأعلى .




                                        الخدمات العلمية