الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مراتب الصحيح .


37 - وأرفع الصحيح مرويهما ثم البخاري فمسلم فما      38 - شرطهما حوى فشرط الجعفي
فمسلم فشرط غير يكفي [ ص: 62 ]      39 - وعنده التصحيح ليس يمكن
في عصرنا وقال يحيى ممكن

.

( مراتب الصحيح ) مطلقا . ( وأرفع الصحيح مرويهما ) أي : البخاري ومسلم ; لاشتماله على أعلى الأوصاف المقتضية للصحة ، وهو المسمى بالمتفق عليه ، وبالذي أخرجه الشيخان ، إذا كان المتن عن صحابي واحد كما قيده شيخنا .

وقال : إن في عد المتن الذي يخرجه كل منهما عن صحابي من المتفق عليه نظرا على طريقة المحدثين وهو - أعني ما اتفقا عليه - أنواع : فأعلاه ما وصف بكونه متواترا ، ثم مشهورا ، ثم أصح كمالك عن نافع عن ابن عمر ، ثم ما وافقهما ملتزمو الصحة ، ثم أحدهم على تخريجه ، ثم أصحاب السنن ، ثم المسانيد ، ثم ما انفردا به ، ولا يخرجه بذلك كله عن كونه مما اتفقا عليه .

( ثم ) يليه مروي ( البخاري ) فقط ، وهو القسم الثاني ; لأن شرطه أضيق ( فيليه ) مروي ( مسلم ) وحده لمزاحمته للذي قبله ، وهو الثالث .

هذا هو الأصل الأكثر ، وقد يعرض للمفوق ما يجعله فائقا ; كأن يتفق مجيء ما انفرد به مسلم من طرق يبلغ بها التواتر أو الشهرة القوية ، أو يوافقه على [ ص: 63 ] تخريجه مشترطو الصحة ، فهذا أقوى مما انفرد به البخاري مع اتحاد مخرجه .

وكذا نقول فيما انفرد به البخاري بالنسبة لما اتفقا عليه ، بل وفي غيره من الأقسام المفضولة بالنسبة لما هو أعلى منه ; إذا انضم إليه ذلك .

( فـ ) يلي ما انفرد به مسلم ( ما شرطهما ) مفعول ( حوى ) أي : جمع شرطهما ، وهو الرابع .

والدليل لتأخره عن اللذين قبله التلقي لكل من الصحيحين بالقبول ، على أن شيخنا تردد في كونه أعلى من الذي قبله أو مثله ، كما تردد غيره في تأخير الثالث عن الثاني إذا كان على شرطه ، ولم ينص على تعليله ، ويساعده أنهما لم يستوعبا مشروطهما ، وإذا كان على ما قرروه ، ( فـ ) يلي الذي على شرطهما ما حوى ( شرطالجعفي ) أي : البخاري ، وهو الخامس .

( فـ ) ما حوى شرط ( مسلم ) وهو السادس ، ( فـ ) ما حوى ( شرط غير ) من الأئمة سوى البخاري ومسلم بتخريجه في كتابه الموضوع للصحة ، أو ثبوته عنه وهو السابع . [ واستعمال ( غير ) بلا إضافة قليل ] .

مع أنه لو لوحظ الترجيح بين شروط من عدا الشيخين كما فعل فيهما ، لزادت الأقسام ، ولكن ما ذكر ( يكفي ) لما في ذلك من التطويل ، وعدم تصريح ابن الصلاح بالاكتفاء لا يخالفه ; لأنه قد يلزم منه الخوض في التصحيح .

[ الخلاف في جواز التصحيح والتحسين للمتأخرين ] ( وعنده ) أي : ابن الصلاح ( التصحيح ) وكذا التحسين ( ليس يمكن ) ، بل جنح لمنع الحكم بكل منهما في الأعصار المتأخرة الشاملة له ( في عصرنا ) ، واقتصر فيهما على ما نص عليه الأئمة في تصانيفهم المعتمدة التي يؤمن فيها لشهرتها من التغيير والتحريف ، محتجا [ ص: 64 ] بأنه ما من إسناد إلا وفي رواته من اعتمد على ما في كتابه عريا عن الضبط والإتقان .

وظاهر كلامه - كما قال شيخنا على ما سيأتي في أول التنبيهات التي بآخر المقلوب - القول بذلك في التضعيف أيضا ، ولكن لم يوافق ابن الصلاح على ذلك كله حكما ودليلا .

أما الحكم فقد صحح جماعة من المعاصرين له ; كأبي الحسن بن القطان مصنف " الوهم والإيهام " والضياء المقدسي صاحب " المختارة " ، وممن توفي بعده كالزكي المنذري ، والدمياطي طبقة بعد طبقة إلى شيخنا ، ومن شاء الله بعده .

( وقال ) الشيخ أبو زكريا ( يحيى ) النووي - رحمه الله - : الأظهر عندي جوازه وهو ( ممكن ) لمن تمكن وقويت معرفته لتيسر طرقه .

وأما الدليل فالخلل الواقع في الأسانيد المتأخرة إنما هو في بعض الرواة ; لعدم الضبط والمعرفة بهذا العلم ، وهو في الضبط منجبر بالاعتماد على المقيد عنهم ، كما أنهم اكتفوا بقول بعض الحفاظ فيما عنعنه المدلس : هذا الحديث سمعه هذا المدلس من شيخه ، وحكموا لذلك بالاتصال .

وفي عدم المعرفة [ ص: 65 ] بضبطهم كتبهم من وقت السماع إلى حين التأدية ، ووراء هذا أن الكتاب المشهور الغني بشهرته عن اعتبار الإسناد منا إلى مصنفه ، ككتاب النسائي مثلا لا يحتاج في صحة نسبته إلى النسائي إلى اعتبار حال الإسناد منا إليه ، كما اقتضاه كلامه ، إذا روى مصنفه فيه حديثا ، ولم يعلله ، وجمع إسناده شروط الصحة ، ولم يطلع المحدث فيه على علة ، فما المانع من الحكم بصحته ، ولو لم ينص عليها أحد من المتقدمين ؟ لا سيما وأكثر ما يوجد من هذا القبيل ما رواته رواة الصحيح ، وفيهم الضابطون المتقنون الحفاظ بكثرة ، هذا لا ينازع فيه من له ذوق في هذا الفن ، أفاده شيخنا ومن قبله ابن الناظم في ديباجة شرحه لأبي داود .

ولعل ابن الصلاح اختار حسم المادة ; لئلا يتطرق إليه بعض المتشبهين ممن يزاحم في الوثوب على الكتب التي لا يهتدى للكشف منها ، والوظائف التي لا تبرأ ذمته بمباشرتها .

وللحديث رجال يعرفون به وللدواوين كتاب وحساب .

ولذلك قال بعض أئمة الحديث في هذا المحل : الذي يطلق عليه اسم المحدث في عرف المحدثين أن يكون كتب ، وقرأ ، وسمع ، ووعى ، ورحل إلى المدائن والقرى ، وحصل أصولا وعلق فروعا من كتب المسانيد والعلل [ ص: 66 ] والتواريخ التي تقرب من ألف تصنيف ، فإذا كان كذلك فلا ينكر له ذلك ، وأما إذا كان على رأسه طيلسان ، وفي رجليه نعلان ، وصحب أميرا من أمراء الزمان ، أو من تحلى بلؤلؤ ومرجان ، أو بثياب ذات ألوان ، فحصل تدريس حديث بالإفك والبهتان ، وجعل نفسه ملعبة للصبيان ، لا يفهم ما يقرأ عليه من جزء ولا ديوان ، فهذا لا يطلق عليه اسم محدث بل ولا إنسان ، وإنه مع الجهالة آكل حرام ، فإن استحله خرج من دين الإسلام . انتهى .

والظاهر أنها نفثة مصدور ، ورمية معذور ، وبها يتسلى القائم في هذا الزمان بتحقيق هذا الشأن ، مع قلة الأعوان ، وكثرة الحسد والخذلان ، والله المستعان وعليه التكلان .

التالي السابق


الخدمات العلمية